هل يجوز ترك العراق يواجه مصيراً مرعباً لوحده من دون أن يمد له الأشقاء العرب يد العون والمساعدة، ومن دون ان يبذلوا الجهد الحثيث لإنقاذه وإعادته إلى اسرته واخوانه ومحيطه؟ وهل من العدل والإنسانية والنخوة أن نرى الاخوة العراقيين يعانون الأمرين ويوشكون على الغرق في بحار الدم ومتاهات الفتن ولا نحرك ساكناً ولا تهتز ضمائرنا ولا نتذكر امرأة العمورية وصرخة استغاثة "وامعتصماه" وكأن أدصاءها تتردد في أرجاء الوطن العربي وهي تتحول إلى "وا عرباه" و"وا إسلاماه"؟ أسئلة تدمي القلب ولا نجد لها جواباً شافياً حتى هذه اللحظة، فيما العرب يتفرجون على المشهد العراقي الدامي، وكأن الأمر لا يعنيهم لا من قريب ولا من بعيد، أو كأن الأحداث التي يتابعونها على شاشات الفضائيات تقع في عالم آخر: في الفضاء أو كوكب المريخ الذي اقترب من كوكبنا قبل أيام فهرع الناس إلى قمم الجبال لمشاهدته عن كثب. وبايضاح أكثر نجد العرب هذه الأيام منقسمين إلى فئات فيما جامعتهم المشلولة تكتفي بالتنديد والشجب وفئة غير مهتمة ولا تريد أن تهتم، وفئة تكتفي بالتفرج، وفئة تحترف التنظير وأخرى تحترف البكاء والعويل والندب، وفئة توزع الاتهامات على الجميع، وفئة تصب الزيت على النار، وفئة تحترق بآلام العجز وتتحرق شوقاً لزوال الغمة، وفئة تهدد وتتوعد ولا تفعل شيئاً أو تقوم بأعمال خرقاء وعمليات تخريبية لا تفيد إلا الأعداء ولا تخدم إلا أهداف الاحتلال وتلحق الضرر بالعراقيين وتسيئ لهم وتزيد الطين بلة… والقائمة طويلة ويمكن انتقاء فئة منها تتألم وتملك النيات الصادقة والعزيمة البناءة والتصور المطلوب للتحرك من أجل انقاذ العراق أو على الأقل بذل الجهد ومحاولة ايجاد مخرج ما من المأزق الراهن أو من النفق المظلم. هذه الفئة هي المطالبة بالعمل الجدي ونشر أهدافها على العرب جميعاً… وهذه الروحية مطلوب الآن تعميمها وبسرعة حتى نتمكن من اشعال شمعة بدلاً من أن نلعن الظلام، وأن نلوح ببارقة أمل بدلاً من نشر أجواء اليأس والمرارة وخيبة الأمل لدى العراقيين والعرب وبين العراقيين والعرب ومن العراقيين للعرب! فالوضع في العراق خطير خطير والتدهور مستمر ومسيرة الانهيار تسير بسرعة صاروخية، وما جرى من أحداث وتفجيرات كبرى ما هو إلا بداية لفتنة كبرى، واغتيال العلامة السيد محمد باقر الحكيم رئيس "المجلس الأعلى الإسلامي" الشيعي بعد تفجير مبنى الأممالمتحدة والسفارة الأردنية في بغداد، ستتبعه سلسلة اغتيالات تطال جميع الرموز وأعمال تخريبية متتابعة لن تتوقف مهما اتُخذ من اجراءات أمنية مشددة واحتياطات احترازية. وعبثاً يحاول البناءون ما دامت النيات غير سليمة والأهداف مشبوهة والمخططات المرسومة للعراق والمنطقة مغرضة وخبيثة. وبغض النظر عن الجهات التي تقف وراء هذه الأعمال الاجرامية والفئات المستفيدة منها، فإن النتيجة واحدة وهي تدمير العراق وتفكيكه وتفتيته وإدخاله في متاهات فتن طائفية وعرقية وحروب أهلية وخلافات وحزازات وحساسيات يمكن من خلالها السيطرة عليه ونهب ثرواته وتلبية الرغبات التآمرية لإسرائيل والصهيونية العالمية. والنظام العراقي البائد طرف أساسي في اللعبة القذرة منذ بداياتها وربما مراحل التخطيط لها ورسم سيناريواتها. وازلامه لهم مصلحة في إشاعة اجواء اليأس وعدم الاستقرار وزعزعة الامن العراقي ومنع قيام حكم وطني ديموقراطي نظيف وسليم وشفاف. كما ان لهم مصلحة في تكريس الاحتلال وتأخير جلاء قوات "التحالف" حتى لا يفقدوا مبررات وجودهم وآمالهم الخائبة بالعودة ولو على اشلاء جثث العراقيين وانهار الدماء واطلال العراق. وسيد هذا النظام محشور في زاوية ضيقة ويتصرف كالقط المذعور بعد ان فقد الولد والمال والسلطة والجاه والعز والشرف واتهم بأسوأ ما يعير به الرجال وهو الخيانة والتفريط بالارض والاهل والشعب والوطن والعرض وانه لم يرحم العراق والعراقيين ابان حكمه الظالم ولا يريد ان يتركهم احراراً مرتاحين بعد عزله. وقد شهدنا قبل ايام كيف تصرف الجبناء في النجف بخسة وروح اجرامية من دون ان يردعهم رادع اخلاقي او ديني او انساني وتبين انهم من اجل ارضاء غرائزهم الوحشية ونفوسهم المريضة نفذوا جريمتهم النكراء بعد صلاة الجمعة لكي يقع اكبر عدد من الضحايا ولم يهتموا بهدم مقام الامام علي رضي الله عنه او بقتل طفل او امرأة او شيخ جليل فالمهم عندهم هو ارواء تعطشهم للدم والخراب واشاعة الفوضى واشعال نار الفتن. وعندما تجتمع النوايا الشريرة معاً لتشكّل تحالفاً شيطانياً لا بد ان ننتظر الاسوأ بغض النظر عن الجهة الحقيقية التي نفّذت التفجيرات الاخيرة، وعلى رغم تشكيل الحكومة الجديدة واعتبارها أول خطوة عملية ضرورية من قبل مجلس الحكم فإن المخاوف تبقى اكبر من كل الخطوات. واكبر تلك المخاوف ما يتردد في كل مكان عن تحضيرات تجري لإشعال نار حرب أهلية تأكل ما تبقى من أخضر ويابس في العراق. وما دامت الشكوك سائدة في النوايا الأميركية فإن المخاطر ستستمر وتتزايد، وما دامت الإجراءات والقرارات تأتي بطيئة وخجولة وغير مدروسة فإن النكسات ستتوالى، وما دام الرئيس المعزول صدام حسين حراً طليقاً مع بعض أركانه فإن العراقيين لن ينعموا بالأمان ويلتفتوا الى المستقبل، فشبح الماضي سيظل مخيماً عليهم ولو على شكل كوابيس تؤرقهم. وما دام الأمن معدوماً والحد الأدنى من متطلبات الحياة اليومية مفقوداً، والبطالة منتشرة والفقر يعمم فإنه يمكن التنبؤ بأن الآتي أعظم وأخطر وأشد مرارة وقسوة. وهناك أحاديث كثيرة تتردد عن "لبننة" العراق أو "صوملته" وتجري أوجه مقارنة بين ما جرى في لبنانوالصومال وبين ما يجري في العراق. ومن تابع مجريات أحداثهما يوماً بيوم وبأدق التفاصيل يدرك ان الواقع غير بعيد عن التشبيه خصوصاً بعد الضربات الانتقائية الإرهابية التي استهدفت رموز الاعتدال مثل السيد الحكيم ومن قبله المرحوم السيد عبدالمجيد الخوئي أو رمز الشرعية الدولية المتمثل في مقر الأممالمتحدة. هذه الأحاديث تحذر من حروب أهلية وليست من حرب واحدة بين الشيعة والشيعة، وبين الشيعة والسنة، وبين العرب والأكراد في الشمال وبين الأكراد والتركمان بحيث تعم الفوضى ويستمر الاحتلال وتتغلغل الأصابع الصهيونية كعادتها لتنفيذ أغراضها السياسية والاستراتيجية والاقتصادية التي بدأتها فعلاً بترويج بضائعها ومنتجاتها في الأسواق العراقية. وإذا كان لبنان قد تمكن من إحباط المؤامرة، وضرب دعاة التقسيم وحافظ على وحدته الوطنية، فإن الصومال ما زال مقسماً موزع الولاءات لأمراء الحرب وزعماء الميليشيات: وهذا خطر آخر يخشى على العراق منه ويتمثل في توالي عمليات تصفية واغتيال وارهاب القيادات المعتدلة والعقلانية والحكيمة والداعية للوحدة والاستقلال والتحرير والديموقراطية، فيما تشهد ساحات الواقع بروز قيادات لمناطق وأحياء ومدن من المتطرفين ورجال العصابات والمافيات والارهابيين الذين بدأوا بتشكيل ميليشياتهم الخاصة التي ستدخل في معارك جانبية وحروب تصفيات ليبقى بعدها الأكثر قسوة وارهاباً وإجراماً وقدرة على السيطرة على الأرض والناس وابتزازهم واخضاعهم لسطوته ورغباته كما شهدنا في كل الحروب الأهلية في العالم وفي لبنانوالصومال بالذات. ولا أردد هذه الأحاديث هنا لنشر المخاوف ومعها رياح اليأس، ولكن للتحذير من الآتي الأعظم، اذا استمرت الأمور على حالها وتوالت الأخطاء الاميركية واحبطت محاولات اعادة القضية برمتها الى الأممالمتحدة وبالتالي ارقال قوات دولية الى العراق. وكلما تدهور الوضع في العراق ازدادت المخاطر واتسع نطاقها لتشمل دول الجوار أولاً ثم دول المنطقة بأسرها. وازدادت احتمالات تورطها في المستنقع العراقي شاءت أم أبت لأن العراق سيصبح بؤرة لتصدير الارهاب لدول المنطقة في المستقبل كما ان الدول المعنية بالشأن العراقي ستجد نفسها مضطرة لدعم هذا الفريق أو ذاك في حال انتشار الفتن حفاظاً على مصالحها ولحجز مقعد لها في أي بحث حول مستقبل العراق كما جرى في حالات مشابهة. لهذا كله، وتجنباً للوقوع في "المحظور" والانجرار الى فخ منصوب للعرب لا بد من التخلي عن مقاعد المتفرجين والمسارعة الى صوغ مبادرة عربية واقعية لإنقاذ العراق ومنع انجراره لحرب أهلية مدمرة يطال لهيبها العرب، كل العرب. هذه المبادرة لن تنطلق وتترجم الى افعال الا بتوافر النيات السليمة والرغبة الصادقة بانقاذ العراق بلا عنتريات ولا تحديات للولايات المتحدة او لاي طرف آخر. ولضمان نجاحها لا بد من التحرك في اتجاهات عدة واشراك الاطراف المعنية بالشأن العراقي على مراحل: الاولى بالاتفاق على موقف عربي موحد على كل التفاصيل والخطوات بمبادرة من دولة عربية موثوقة او عدة دول عربية عدة كالمملكة العربية السعودية وسورية ومصر خصوصاً وان الامير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي حذر اخيراً من ان يكتفي العرب بالتفرج على ما يجري في العراق. اما المرحلة الثانية فيتم التركيز فيها على دول الجوار اي السعودية ومصر وسورية والكويت والاردن زائد ايران وتركيا بحيث تتم مناقشة بنود المبادرة العربية وتطويرها ثم تبنيها في قمة عاجلة لتصبح مبادرة اقليمية مشتركة تنطلق معها المرحلة الثالثة لنيل الدعم لها من قبل الاممالمتحدة ودول الاتحاد الاوروبي والدول الاسلامية. وبالطبع فإنه لا بد من اجراء حوار متواصل مع الولاياتالمتحدةوبريطانيا حول المبادرة وتفاصيل التحركات حتى لا يظهر التحول وكأنه موجه ضدهما على ان يجري تشديد الضغط عليهما بعد تأمين اجماع دولي حول المبادرة خصوصاً وان رئيس وزراء بريطانيا توني بلير بحاجة الى خشبة خلاص للنجاة من الغرق في المستنقع العراقي وحصار المحاسبة والمساءلة من قبل الشعب وممثليه وصولاً الى عقر دار حزبه العمالي، كما ان الرئيس جورج بوش يقف على ابواب معركة تجديد ولايته لفترة ثانية في انتخابات الرئاسة التي ستجرى العام المقبل. فاذا سارت الامور في طريقها الصحيح وبسرعة مدروسة يمكن البدء بتنفيذ المبادرة العربية بالدعوة الى مؤتمر وطني عراقي شامل، او "طائف عراقي" تشبهاً بمؤتمر الطائف الذي أنهى الحرب الاهلية اللبنانية، يشارك فيه جميع الفرقاء العراقيين من مجلس حكم وحكومة وزعماء العشائر والحوزات العلمية مع ممثلي كل الوان الطيف العراقي والنقابات والاحزاب والهيئات المدنية والاجتماعية والنسائية والاقليات العرقية والدينية يتم فيه اقرار دستور للعراق وخطة عمل للخروج من المأزق الراهن على اسس العدالة والديموقراطية والمساواة والمشاركة للجميع ومن دون اي استثناء وبناء جيش وطني قوي يحفظ وحدة العراق وسيادته على اراضيه وجهاز امني موحد يكلف بحفظ امن الوطن والمواطن. ومن دون الدخول في شرح الامور التفصيلية في شأن المبادرة العربية المرجوة تبقى المعضلة الاكبر وهي وجود القوات الاميركية والبريطانية من حيث الحجم والدور والفترة الزمنية الا ان تطورات الاوضاع تشكل عاملاً ضاغطاً يدعم المبادرة وتوصل الولاياتالمتحدة الى قناعة بأن مصلحتها تكمن في الخروج من المستنقع العراقي بشكل مشرف وبأسرع وقت ممكن. وهناك مخارج وحلول عدة لهذه المعضلة من بينها ما يمكن ان تتضمنه المبادرة العربية وهو تشكيل قوات دولية تحت اشراف الاممالمتحدة حتى ولو كانت بقيادة اميركية كما اقترحت المانيا وفرنسا، على ان يتم وضع جدول زمني للانسحاب العسكري الاميركي واشراف الاممالمتحدة، على اعادة بناء وهيكلة مؤسسات الدولة العراقية الموحدة واجراء انتخابات حرة ونزيهة وانشاء الجيش الوطني. وقد يكون هذا الاقتراح صعب التنفيذ بعيد المنال، ويعده البعض من ضروب الخيال، ولكنه يبقى دعوة مفتوحة للعرب وقياداتهم لاعلان مبادرتهم الحرة، وصرخة جرح وألم وحزن من اجل انقاذ العراق وشعبه قبل فوات الاوان. حتى لا يقال ان الواقعة ستقع من دون ان نسمع صوتاً عربياً حراً يدعو لتجنبها. * كاتب وصحافي عربي.