إذا أراد الرئيس جورج بوش وقف الانزلاق الى المستنقع وانقاذ الولاياتالمتحدة من عداء عارم وانتقام، عليه ان يفعل الآتي: اولاً بأن يحل فوراً "مجلس سياسة الدفاع" الذي يضم زمرة فاسدة وّرطت اميركا، واجراء مراجعة لرجال "مكتب النفوذ الاستراتيجي" في دراسة توضح غاياتهم وانتماءاتهم، كي يتمكن القائد الأعلى للقوات الاميركية من اتخاذ القرارات الحكيمة، ولو تضمنت طرد كبار المسؤولين. ثانياً، نبذ فكرة احتلال العراق، والتخلي عن مقولة بقاء هذا البلد تحت سلطة اميركا لفترة مجهولة الى حين استتباب الأمور. وهذا يتطلب قراراً استراتيجياً غير الذي صاغته زمرة المتطرفين في البنتاغون يجب ان يعلنه بوش بأسرع ما يمكن. ثالثاً، الموافقة على ان يتبع وقف النار ووقف اجتياح العراق فوراً اجراء انتخابات حرة ونزيهة هناك بإشراف الاممالمتحدة. فهكذا يهدي بوش العراق الى الشعب العراقي، بدلاً من الفتك به تحت راية "تحريره" التي لا يثق بها. واذا أراد الرئيس صدام حسين وقف نزيف العراق والحؤول دون قتل مئات الآلاف من شعبه، عليه ان يفعل الآتي: أولاً، الاقرار بأن حرب اميركا على العراق ستنتهي بانتهاء النظام العراقي، اياً تكن نتائجها، وبالتالي عليه توصيل رسالة الاستعداد لاهداء العراق الى شعبه، ليقرر في انتخابات بإشراف الاممالمتحدة من يريد في الحكم، في اطار الاتفاق على وقف النار والاجتياح. ثانياً، الكف عن النظر الى معادلة الانتصار والهزيمة من زاوية تكبيد اميركا ثمناً غالياً، باعادة آلاف من جنودها جثثاً اليها، فهذا "الانتصار" يجري على جثث آلاف من العراقيين الابرياء، وهذه الحرب لن تكون لها نهاية معادلة الهزيمة والانتصار التقليدية. ثالثاً، توظيف النقمة الشعبية على الحرب الاميركية البريطانية لاجهاض اهداف دعاتها، من خلال اضطراهم للتراجع عن احتلال العراق، بدلاً من استخدامها مجرد نقمة فيما يُضحّى بالعراق ليقع تحت الاحتلال. واذا ارادت الشعوب العربية ان تؤثر فعلاً في ما يحدث في العراق وعبره، عليها التنبه الى ما لها وما عليها. فردود الفعل لدى الشعوب العربية على الحرب سجلت لواشنطن ولندن ثاني اهم فشل، علماً ان الفشل الاول كان في امتناع شعب العراق، خصوصاً الشيعة في الجنوب، عن تحقيق تكهنات ووعود زمرة المتطرفين باستقبال القوات بالورود والابتسامات. الشارع العربي ايضاً كان في الافتراضات ووعود الغطرسة مجرد حضيض لا خوف منه، يمكن استيعابه وتوجيهه، وعالم بؤس ويأس. لذلك، صرخة الشعوب العربية ضد اجتياح العراق واحتلاله يجب ان تستمر لتشكل ضغوطاً على القرارات الاميركية والبريطانية، وكذلك القرارات العراقية، وقرارات قيادات المنطقة. فالامر المهم جداً تقنين الاحتجاج في رفض اجتياح العراق واحتلاله، بدلاً من الخوض في سجالات حول صدام حسين وتاريخه وما فعله للعراق وبالعراق، فكفى البلد تحجيمه الى رجل ونظام. وهذه المرحلة تتطلب من الشعوب العربية، خصوصاً ما يسمى النخبة، الفصل بين البلاد والقيادات… تتطلب منها رفع رايات مطالب وحقوق، لا رفع صور رجل او رجال. وعليها ايضاً التنبه الى مجموعات تريد خطف المشاعر الشعبية وتوظيفها لغاياتها الضيقة، بما يمكّنها من فرض نفسها بديلاً من الحكومات. هذه المجموعات لمتطرفة ليست البديل المرجو، اذا كان للبقعة العربية ان تتعافى اخيراً، وتنهض ضد البؤس واليأس والاملاء والتحكّم والاستبداد والاضطهاد. لذلك، التحدي امام الشعوب العربية كبير ويمكن ان يصبح مصيرياً. ففي ايديها مفاتيح احباط غايات دعاة اجتياح العراق وابلاغ تيار التطرف انه ليس خيارها، ودفع الحكومات الى الاصلاح الجذري. واذا أرادت حكومات المنطقة التصرف بمستوى التحديات والمسؤوليات، عليها، اولاً، ان تكف عن الاستهزاء بشعوب المنطقة، وعن استيعابها بلقمة عيش او مناصب. عليها بالتالي الاقدام فوراً على الاصلاح البنيوي الاقتصادي والسياسي بما يسمح بمؤسسات ديموقراطية وانتخابات بدلاً من ان تقبع بانتظار انتهاء الحرب على العراق ذريعة للتملص من الاستحقاقات. فالتعلّل بالخوف من سيطرة تيارات التطرف فات عهده، اذ ان سياسات هذه الحكومة، بالاتساق مع السياسات الاميركية البريطانية نحو المنطقة، هي التي قوّضت الاعتدال وأطلقت العنان للتطرّف. ثم جاءت الحرب على العراق لتعد بتعزيز التطرف، بصرف النظر عن نتيجتها. وهذا يتطلب من الحكومات العربية التفكير العميق في الخيارات المتاحة امامها. فإما ان تصبح جزءاً من التغيير بمبادرة منها، وإما ان تسقط بقرار اميركي او بقرار شعبي. الحرب الاميركية البريطانية على العراق دقّت المسمار الاخير في كفن الوهم الواهن المسمى النظام الامني العربي. ولن ينفع الاختباء وراء البيانات الفارغة، في انتظار انتهاء الحرب وسقوط نظام صدام. ولن ينفع الدول العربية التي انطلق الاجتياح منها ان تشكل على مشيئة اميركا وتأهيلها لديها. ولكن ليت الكويت تكف عن طبع عبارة من "دولة الكويت الى الشعب العراقي" على كل رزمة معونات تدخل العراق. فالعطاء الصادق في معظم الأحيان، يرتدي ثوب المجهول. والخطوة الآنية اللاحقة في حسابات زمرة الصقور في ادارة بوش هي سورية وايران، وبينهما الأردن، اذ انه ما زال مرشحاً "وطناً بديلاً" للفلسطينيين. أخيراً، الأردن الرسمي اعتبر الحرب "غزواً" غير مقبول، ولكن ليس واضحاً ان كان استوعب ما في ذهن دعاة اجتياح العراق، اذا أفلحوا. ايران استوعبت، وكذلك تركيا التي رفضت التورط بالحرب الأميركية - البريطانية على العراق، على رغم الضغوط الضخمة. ايران، كعادتها، تفكر استراتيجياً وتدرك انها مستهدفة شأنها شأن سورية، انما بوسائل مختلفة. لذلك، لعبت ايران ورقة مهمة في احباط توقعات وافتراضات وتكهنات زمرة التطرف في واشنطن عبر ورقة المعارضة الشيعية في العراق. انما التحديات ستتعاظم كما أوضح وزيرا الدفاع دونالد رامسفيلد، والخارجية كولن باول، بانذارهما سورية وايران. وليس واضحاً هل وصل التنسيق بين ايران وسورية الى مستوى رفيع، أو ما زال في مرتبة الاستطلاع. لو قررت طهران ودمشق المغامرة الخطيرة، بإمكانهما اعلان التحالف مع العراق، استباقاً واحباطاً لما هو آت عليهما بعد الحرب على العراق. بذلك قد تعرقلان خطط هذه الحرب وخطط دعاة اجتياح العراق كمحطة أولى تليها سورية وايران. لكن مثل هذا القرار بالغ الخطورة والتصعيد، وهو بمثابة إقحام لسورية وايران في الحرب. بالتالي هو مستبعد، خصوصاً أن تاريخ علاقات سورية وايران مع صدام لا يجعلهما في وارد دخول حرب معه في وجه الولاياتالمتحدة وبريطانيا. فإحباط اميركا عسكرياً له استحقاقات ضخمة، لذلك قد تفكر سورية وايران بإفشالها سياسياً وان انتصرت عسكرياً. الأكثرية الساحقة تتوقع للولايات المتحدة انتصاراً عسكرياً في الحرب على العراق، والسيطرة على بغداد بعد معارك ضارية يذهب ضحيتها مئات الآلاف من المدنيين الأبرياء، وعدد كبير من الجنود الأميركيين. لكن هناك من يحذر من استخلاص نتيجة الحرب مسبقاً، لا سيما انها، على عكس وعود زمرة الصقور، ليست "سريعة" ولا "نظيفة"، والتوقعات الآن ان تطول ربما الى الصيف. في كل الأحوال، حتى اذا حُسمت الحرب بأسرع مما يقال، سيكون الاحتلال مكلفاً للولايات المتحدة ولجورج دبليو بوش. سيكون مكلفاً داخل العراق وفي كل البقعة العربية والاسلامية. لذلك، وبعدما نجحت زمرة التطرف في توريط أميركا بالحرب على العراق، من الضروري قطع الطريق عليها الآن، وفي أكثر من ملف وقرار. "مجلس سياسة الدفاع" الذي رأسه ريتشارد بيرل، قبل الاستقالة "الإعلامية" للأخير التي تبيّن بعدها انه استقال من الرئاسة فقط وليس من عضوية المجلس. ويجب أن يحل هذا المجلس إذا أراد بوش البدء باستعادة قليل من الثقة. فهذا مجلس السموم ضد العرب، ومجلس الولاء لاسرائيل وحمايتها من السلام مع العرب. انه مجلس المصالح الخاصة وارتهان أميركا وجرها الى التورط. وهو أصبح شبه وزارة ذات نفوذ بلا شفافية ولا مراقبة. وحل المجلس بحد ذاته لن يكفي، بل آن الأوان كي يدرك بوش خطورة رامسفيلد ونائبه بول ولفوفيتز ووكيله دوغلاس فايث، وما لهم من شبكة ممتدة مع المتطرفين من المحافظين الجدد. قد لا يتمكن الآن من الاستغناء عن وزير دفاعه في خضم الحرب على العراق، ولكن عليه ان يأمره بقطع مسيرة توريط اميركا واجتذاب العداء والانتقام منها. فكفى بوش ان نائبه ديك تشيني يمارس الرئاسة فيما الرئيس الأميركي في هوس ديني وغطرسة تبشيرية - عسكرية. وبين القرارات التي على بوش اتخاذها وهو يفكر في عراق ما بعد صدام، العدول عن تعيين الجنرال المتقاعد غاي غارنر وصياً على العراق، اذ انه جزء من "الشبكة الحاكمة" عبر البنتاغون، الاعتذارية لاسرائيل والمستفيدة بتضارب مصالحها مع المصالح الوطنية الأميركية. اما إذا بقي الرئيس الأميركي على اعتقاده بأن قدرة الهية أوكلت إليه "تحرير" العراق كمحطة أولى في العقيدة "الوقائية" العسكرية، وبأن استتباب الأمور في العراق لضمانه في الجيب الأميركي يتطلب احتلاله لفترة، وان من الحكمة تهديد سورية وايران والاستعداد للتعامل معهما عسكرياً، عندئذ سيزداد انزلاق الولاياتالمتحدة الى المستنقع، وسيزداد العداء لها والانتقام منها. عندئذ يتبخر أي انتصار عسكري في العراق، ويتبخر معه أي احتمال بفوز بوش بولاية ثانية، بعد أن يكون رئيس الوزراء البريطاني توني بلير خسر منصبه. عندئذ تعض زمرة المتطرفين اصابعها ندماً، وان اعتقدت الآن بأنها تمتلك اميركا وتديرها في عربدة الغطرسة والتطرف والعظمة.