مضى أكثر من قرن على وجود فكر سياسي حديث عند العرب، وبرز هذا الفكر في آراء ومؤلفات ومناقشات، كما برز في جمعيات سياسية أحزاب ونواد وتجمعات مفكرين. وإذا كان التعريف البسيط للفكر السياسي انه مجموعة أفكار في تصوّر قيام الدولة وتطورها، فإن البحث عن أثر الفكر السياسي العربي في مجال تعريفه يبدو صعباً ويقتضي البحث والمناقشة. نشرنا مقالين عن مشهد هذا الفكر وعن تحقق الأزمة في الأحزاب، وهنا مقال ثالث أخير عن الفكر السياسي العربي وإدارة الدولة الحديثة. ينطبق عنوان كتاب غسان تويني، الذي شاركه فيه بأسئلة وبعض المداخلات جيرار خوري وجان لاكوتور، وهو "قرن من أجل لا شيء"، على العلاقة بين الفكر السياسي العربي وبناء الدولة ربما أكثر من جوانب الحياة العربية الاخرى في القرن العشرين. لم يكن هذا الجانب ضمن ما اهتم به تويني ومحاوراه، على رغم أن أهميته تفوق الكثير مما عداه. فقد كان تعثر بناء الدولة العربية القادرة على حل المشكلات الداخلية والخارجية، بغض النظر عن مضمون هذا الحل وأساسه الفكري، أحد أهم عوامل دخول العرب القرن الحادي والعشرين وهم يحتلون المرتبة الأخيرة بين مناطق العالم أو يشاركون أفريقيا - جنوب الصحراء فيها. بل ان الأفارقة في الأعوام الأخيرة تقدموا خطوة على صعيد عملية بناء الدولة. وشهدت السنوات الماضية، بدءاً من منتصف العقد الأخير في القرن المنصرم، تقدماً لم يعرف العرب مثله بعد في عملية بناء الدولة الأفريقية التي تقوم على مؤسسات وتنافس حر. وقدمت كينيا مثلاً حياً على ذلك قبل أسابيع قليلة سبقتها اليه ثلاثة بلاد أفريقية. حدث ذلك على رغم أن الميراث الاستعماري كان أكثر فداحة بالنسبة الى الأفارقة. وهذا فضلاً عن تفوق العرب عليهم في مطلع القرن العشرين، إن على المستوى الحضاري العام أو على صعيد الفكر السياسي. لكن هذا الفكر، الذي تنوعت مشاربه وتباينت الأوزان النسبية لاتجاهاته صعوداً وهبوطاً، لم تتوافر له فرصة ملائمة للإسهام الإيجابي في عملية بناء الدولة في البلاد العربية التي كان مفترضاً أن يكون دوره فيها معتبراً. صحيح أن هذا الفكر، في اتجاهاته كلها، ليبرالية ويسارية وقومية عربية وأصولية إسلامية، لم يبلغ نضجاً كافياً يتيح له مثل هذا الدور. ولكن، ظلت المشكلة الأهم في ظروف عملية بناء الدولة العربية وفي الساسة الذين اضطلعوا بهذه العملية. لذلك ربما يجوز افتراض أنه إذا كان ثمة أداء سياسي أفضل وظروف موضوعية أقل تعويقاً، لربما أتيح لهذا الفكر - عند المستوى نفسه من النضج - إسهام أكثر إيجابية. وينطبق ذلك على الفكر الليبرالي الذي كان هو الأكثر تأثيراً في عملية بناء الدولة في النصف الأول من القرن، وعلى الفكر القومي العربي والفكر اليساري الماركسي اللذين تصدرا المشهد في نصفه الثاني، وكذلك على فكر الإسلام السياسي الذي أخذ حضوره يزداد منذ العقد الثالث في القرن. كان الفكر الليبرالي هو الأسبق، إذ اقترن حضوره بالاحتكاك مع الحضارة الغربية وارسال البعثات العلمية إلى أوروبا. وعلى رغم أنه اعتمد على الترجمة والنقل بالأساس، فقد تطور كثيراً وتبلور خلال العقود الأولى في القرن العشرين، وكان له أثره بدرجة أو بأخرى في توجيه الحركة الوطنية ضد الاستعمار البريطاني والفرنسي. فعلى سبيل المثال كان شعار "الاستقلال والدستور" في مصر خلال ثورة 1919 وبعدها متأثراً بالفكر الليبرالي، من حيث ربط الهدف الوطني بمطلب ديموقراطي. وفي هذا السياق التاريخي، كان الفكر الليبرالي هو الأساس في تحديد معالم النظام السياسي في بلاد عربية رئيسة، حين بدأت عملية بناء الدولة الوطنية فيها مع انتهاء السيطرة العثمانية وبدء انحسار الهيمنة الاستعمارية. وكانت هذه هي الحال في بلاد أهمها مصر وسورية والعراق ولبنان. لكن النظم السياسية التي تأثرت بالفكر الليبرالي في هذه البلاد عانت تشوهاً في بنائها الدستوري والمؤسساتي وفي أدائها السياسي بسبب الظروف التي أحاطتها، وفي مقدمها دور سلطة الاحتلال التي بقيت موازية لسلطة الدولة الوطنية الناشئة. ويجوز القول إن العامل الخارجي، الذي كان العائق الأهم أمام عملية بناء الدولة المتأثرة بالفكر الليبرالي، ظل معوقاً لهذه العملية في المرحلة التي صار الفكر القومي العربي هو الأوفر تأثيراً فيها، ولكن مع فارق كبير. كان العامل الخارجي حاضراً بقوة على الأرض في بلادنا العربية هذه عبر قوات احتلال في المرحلة الليبرالية، فيما كان حضوره في المرحلة القومية العربية مرتبطاً بميل فكرها السياسي الى تضخيم دوره والتركيز على المواجهة ضده على رغم انحساره الملموس مقارنة بما كان عليه قبلها. وفي الحالين، اضطربت العلاقة بين الفكر السياسي وعملية بناء الدولة بسبب عامل خارجي كان مفروضاً علينا بفعل وجوده على أرضنا في مرحلة الاعتماد على الفكر الليبرالي، ثم صار حاضراً في مرحلة الاستناد الى الفكر القومي العربي الذي استمد القسم الأكبر في "شرعيته" من المواجهة ضد الخارج وقد خلق له صورة استعمار جديد. لم ينجح الفكر الليبرالي في تطوير مفاهيم ورؤى خاصة بعملية بناء الدولة الوطنية في ظل استعمار أجنبي. فقد أدى تدخل سلطة الاحتلال الى عدم احترام الأحزاب والقوى السياسية القواعد المنظمة للعلاقة بينها، والمستمدة من الفكر الليبرالي. فكان من شأن التطور الطبيعي للنظام السياسي، في ظل تلك القواعد، التعجيل بالاستقلال الكامل. ولذلك كان إبطاء هذا التطور جزءاً من سياسة استعمارية استهدفت إطالة أمد الاحتلال في البلاد العربية التي بدأت فيها عملية بناء الدولة على أساس ليبرالي. وفي مواجهة هذه السياسة، انقسم الساسة الليبراليون والمتأثرون بالليبرالية على أنفسهم ما بين مرونة وتشدد. وكان الأثر السلبي للعامل الخارجي، خصوصاً في مصر، أقوى من الدور الذي لعبه عامل آخر مهم بدوره، وهو نسق المعتقدات والثقافة السياسية والاجتماعية السائدة في تلك البلاد. فمن الصعب، إن لم يكن مستحيلاً، أن يعمل نظام سياسي مستمد من الفكر الليبرالي في غياب قيم أساسية مثل العقلانية والفردية وحرية الفكر والحوار والتنافس السلمي وقبول الآخر. فالنظام الليبرالي ليس مجرد هياكل يجرى نقلها من بلاد نجحت فيها الى غيرها، إذ توجد خلف هذه الهياكل قيم أساسية كان بعضها غائباً والبعض الآخر موجوداً في نطاق ضيق. كما اصطدم الطابع العلماني للنظام السياسي المتأثر بالفكر الليبرالي بالدور التاريخي للدين أو بالفكر الطائفي المعقد في الحال اللبنانية خصوصاً. فلم يتمكن الفكر الليبرالي من حسم مسألة العلاقة بين الدولة والدين، الأمر الذي كان له أثر سلبي في عملية بناء الدولة استناداً إلى أسس هذا الفكر. وأخذ هذا الأثر يزداد مع الوقت، حتى بلغ ذروته في نهاية القرن. واقترن ذلك بعوامل عدة كان للعامل الخارجي، وما زال، مكان مميز بينها. فكانت هزيمة 1967 نقطة تحول أساسية في اتجاه لجوء أعداد متزايدة من العرب الى الدين. وتفاقم الشعور بأننا مستهدفون عقيدة وقيماً، بعد أن كان الفكر القومي العربي غذاه في وجهة أخرى هي الاستقلال الوطني والتوحد القومي. وهكذا بزَّ العامل الخارجي غيره في إضعاف فرصة نجاح عملية بناء الدولة الوطنية على أساس ليبرالي. وكانت هزيمة 1948 هي النقطة التي تحولت عندها تراكمات اخفاق هذه العملية باتجاه اليسار مع صعود الفكر القومي العربي والفكر الماركسي على أيدي حزب البعث وحركة القوميين العرب وبعض الأحزاب الشيوعية. ولكن، كان جمال عبدالناصر هو الذي أعطى القومية العربية الزخم الذي تميزت به عبر المعارك التي خاضها، بدءاً من معركتي الأحلاف وتأميم قناة السويس. لذلك تحول الفكر القومي العربي والفكر اليساري الماركسي الى ما يمكن اعتباره عاملين مساندين لتيار قومي سياسي أكثر منه فكرياً. ولعب هذا التيار الدور الأساسي في عملية بناء الدولة في بلاد عربية عدة. وتفاوت اسهام الفكر القومي والماركسي في مساندة هذا التيار من بلد الى آخر، لكنه كان إسهاماً جزئياً عموماً، بعد أن صارت المؤسسات العسكرية محور تلك العملية. كما تفاوتت طريقة هذا الإسهام. ففي مصر، مثلاً، لم يكن للفكر القومي العربي أثر يذكر لأن عبدالناصر صنع بنفسه المقولات القومية - التي صارت تعرف باسمه - من موقع صانع السياسة وليس صاحب الفكر. ولكن، كان للفكر الماركسي أثر ملموس في توجيه السياسة الاقتصادية منذ مطلع عقد الستينات. ولكن في سورية، في المقابل، لعب الفكر القومي الذي حمله حزب البعث دوراً فاعلاً في خلق الحركة السياسية القومية. كما كان لميل جناح في هذا الحزب، استولى على السلطة في العام 1966، الى الفكر الماركسي أثره في إرباك عملية بناء الدولة جنباً الى جنب وخلق اضطراب شديد على الصعيد الإقليمي. فجاءت "الحركة التصحيحية" في العام 1970 وانقذت سورية من أسوأ مركب ينتج من تزاوج الفكر القومي العربي والفكر الماركسي في تلك المرحلة. ومنذ ذلك الوقت تراجع دور كل من الفكرين في عملية بناء الدولة، وإن بقي بدرجة ما في السياسة الخارجية، مثلما حدث في العراق عند الإطاحة بنظام عبدالرحمن عارف في العام 1968، إذ جاء الى الحكم فريق في حزب البعث استند الى أساس عشائري في بناء سلطته والى شعارات مستمدة من الفكر القومي ومجردة من سياقها في خوض المغامرات الخارجية التي تميز بها، وما زال. وكانت فترة أواخر الستينات وأوائل السبعينات هذه، هي التي شهدت بدء انتعاش فكر الإسلام السياسي الذي أخذ يؤثر في عملية بناء الدولة في صورة غير مباشرة عبر تغلغله في المجتمع. ولا تستثنى من ذلك إلا حال السودان التي وصل فيها حاملو هذا الفكر الى السلطة عبر انقلاب "ثورة الانقاذ" في العام 1989. وعلى رغم احتكارهم السلطة واستخدامها في إعادة بناء الدولة على أساس إسلامي، كان نجاحهم في ذلك أقل، مقارنة بالحالات التي تغلغل فيها نظراؤهم في المجتمع. فثمة ما يدل الى أن فكر الإسلام السياسي يحقق أثراً في إعادة بناء الدولة العربية الراهنة حين يأتي هذا الأثر من أسفل لا من أعلى. في السودان الآن دولة تتبنى فكر الإسلام السياسي. لكنها لا يمكن أن تصمد إذا أجريت انتخابات حرة لأن المجتمع ضج بممارساتها. ونجد مثل ذلك في إيران التي كان مجتمعها أكثر إسلامية حين كانت الدولة علمانية شاهنشاهية. قارن ذلك، مثلاً، بمصر التي تغلغل فكر الإسلام السياسي في مجتمعها على رغم الحصار الذي تعترض عليه الدولة. وعندما أراد الرئيس الراحل أنور السادات أن يكسب شعبية شعر أنها تنقصه في العام 1981، قام بتعديل الدستور لينص على أن الإسلام هو المصدر الرئيس للتشريع، بعد أن كان هو الذي جعله مصدراً رئيساً للتشريع عند اصدار هذا الدستور في العام 1971. وحمل هذا التعديل مؤشراً عملياً على الأثر الذي يمارسه فكر الإسلام السياسي في عملية إعادة بناء الدولة في بعض البلاد العربية. ولا يقلل من أهمية هذا الأثر أنه يأتي من أسفل، باستثناء حال السودان. فالإسلام الأصولي هو الفكر السياسي الوحيد المؤثر الآن في عملية إعادة بناء الدولة العربية والتي تحدث في اتجاهين، أحدهما الى مزيد من "الأسلمة" Islamization والآخر الى الاقتصاد الحر. ولكن هذا الاتجاه الأخير ليس مدفوعاً بفكر سياسي ليبرالي بل بنزوع عملي براغماتي تحت وطأة الأزمة التي دخلها اقتصاد التخطيط والقطاع العام. فقد تعرض الفكر الليبرالي الى حملة تقويض حين صعد الفكر القومي العربي والفكر اليساري. ومع انحسارهما، وبعد أن صارا محصورين في دوائر نخبوية معارضة لا أثر يذكر لها في قضايا بلادها الداخلية وإن بقي لها صوت في القضايا الخارجية، أصبح فكر الإسلام السياسي هو الأكثر تأثيراً، ليس لأنه يقدم خياراً أفضل للناس حين يقارنونه بغيره، ولكن، لأنهم لا يجدون بديلاً منه. فقد بدأ انتشاره فى أواخر الستينات على أنقاض الفكر القومي والفكر الماركسي المهزومين في حرب 1967. وكشفت الوثائق البريطانية لعام 1972، والتي تم الإفراج عنها أخيراً بمرور الثلاثين عاماً التي تبقى خلالها سرية، أن ديبلوماسياً انكليزياً كبيراً، في ذلك الوقت هو السفير جيمس كريغ لاحظ خلال جولة على المنطقة أن "إخفاق الأحزاب القومية فتح الباب للتشدد الديني"، وتوقع بموجب تلك الملاحظة أن يصير "الدين" هو الأيديولوجيا التي تحظى بثقة الناس. غير أنه إذا أمعنا النظر أكثر ربما، يتبين لنا أن فكر الإسلام السياسي ليس بدعاً حين يستمد مقدرته على التأثير من واقع أنه لا فكر آخر ينافسه. فالفكر القومي العربي مارس تأثيره في غياب المنافسة لأنه احتكر الساحة وحظر غيره عدا الفكر الماركسي بعد أن حوله الى رديف له وقرّب أنصاره الذين قبلوا ذلك دون غيرهم. وكان الفكر الليبرالي في بداية عملية بناء الدولة الوطنية منفرداً تقريباً بالساحة، الى أن ظهر فكر الإسلام السياسي في مصر عبر تأسيس جماعة الإخوان في العام 1928. ولكن هذه الجماعة كانت في حاجة الى وقت لتصليب عودها والانتشار عربياً. وما أن إخذ فكرها السياسي في التبلور وبدأت مقدمات تنافس بين الفكرين الليبرالي والإسلامي السياسي حتى دخلت المنطقة عصر الفكر الواحد. ويبدو غياب التنافس الفكري على هذا النحو عاملاً إضافياً يساهم في تفسير ضعف أثر الفكر السياسي العربي، باتجاهاته كافة، في عملية بناء أو إعادة بناء الدولة. ولكن يظل العامل الأساسي خارجياً مصدره الغرب حين استهدفنا في العصر الاستعماري وأدى الى إرباك عملية بناء الدولة على أساس من الفكر الليبرالي، ثم حين نضح ميراث الصراع التاريخي ضد الغرب على الفكر القومي العربي فأخضع البناء الداخلي لمقتضيات هذا الصراع الذي استخدمه أيضاً لحظر اتجاهات الفكر السياسي المنافسة. ويمضي فكر الإسلام السياسي على الدرب نفسه الآن في إطار ميل متزايد في العالم العربي الى تضخيم الشعور العام بالخطر والتهديد القادمين من الغرب. وكلما ازداد هذا الميل، قل اسهام الفكر عموماً في السياسة التي تصير، والحال هكذا، محصورة في دائرة شديدة الضيق عنوانها الدفاع عن النفس في مواجهة أعداء لا شك في أن بعضهم حقيقي ولكن أكثرهم متخيل أو متوهم. وعندئذ يتقلص قاموس الخطاب السياسي السائد الى كلمات قليلة متكررة لا تعبر عن فكر سياسي بالمعنى المتعارف عليه بمقدار ما تدل الى خوف دفين من الآخر مرده الى محدودية المعرفة به، في إطار قصور معرفي عام، والى ضعف الثقة في الذات ونفور من مواجهتها بنقائصها وأوجه قصورها. وفي هذه الأجواء يصعب تصور دور إيجابي لفكر سياسي في صنع المستقبل العربي، بل ربما نترحم على دور هذا الفكر بكل نقائصه في القرن الماضي. * كاتب مصري - نائب مدير مركز "الأهرام" للدراسات السياسية.