اذا كان النص الدموي الذي كتبه نابليون بونابرت في مصر تموز 1798 كان له عنوان واحد: "صدمة الحداثة"، فانه يحق لنا بعد ذلك بزمن طويل جداً قرنين تقريباً ان نسمي النص الذي كتبته حرب الخليج بارقامها كافه: "سقوط الحداثة". الحداثة، بالاستفادة من منشئها وصعودها الغربيين، تقوم على حاملين: نظري واجتماعي. يتفق الكثير من المثقفين العرب ان للحداثة العربية ايديولوجيات ثلاث: الليبرالية والقومية والماركسية. ولكن لا استطيع الموافقة على ذلك كثيراً فيما يخص الليبرالية، فالقومية والماركسية كانتا - الى حد كبير - فاعلتين اجتماعياً وثقافياً وسياسياً، لأن طروحاتهما كانت تجد صدى وان متفاوتاً على الارض العربية "وحدة، تحرر، عدالة، مساواة، اشتراكية… الخ"… اما الليبرالية، فمفاهيمها الاساس "دستور، مواطن، حق، انتخابات… الخ" كانت بالنسبة الى العرب، شعبياً، كمن يتحدث اليهم بلغة اجنبية. فالوعي الشعبي كان ولم يزل في احسن احواله عشائرياً، طائفياً، وعائلياً… اي قبل المواطنة بكثير. ثم ان مفهوماً مثل الديموقراطية كان لا يعني شيئاً لهم، وعندما ظهرت سلطات سياسية في الارجاء العربية، واجهزت على الديموقراطية، لم يحدث شيء، بل تم الترحيب بذلك عبر الترحيب بتلك السلطات. ولم ينتبه العرب الى خطورة سحق الديموقراطية الا اخيراً، وبعد ان سقط الفأس بالرأس في الثمانينات، فظهر مفهوم المجتمع المدني في واجهة الثقافة العربية، فهو يتضمن فكرة المواطن والديموقراطية وانتاج وتبادل السلطة. ولكن عندما نتذكر ان طه حسين كان من كبار الليبراليين العرب، يجدر بنا ان نخفف من حدتنا في اقالة الليبرالية من ايديولوجيات الحداثة العربية. ولكن ليس كثيراً، فطه حسين كان فاعلاً ومؤثراً ورجل تغيير حقاً في الثقافة العربية، انما ليس على المستوى الشعبي بل على مستوى المثقفين فحسب. فطروحاته بقيت في اذهانهم، كما بقيت طروحات الفكر الليبرالي في اذهان اصحابها فقط ولم تشكل اي رواج على الارض العربية شعبياً. لذلك يمكن القول ان للحداثة العربية ايديولوجيتين: القومية والماركسية. ظهرت الفترة القومية العربية عبر قلق فكري يتمثل في تحديد مقومات الامة، وتهدف من ذلك اثبات ان العرب امة واحدة. ففي اوروبا تيارات كثيرة حول ذلك، فهناك من يقول ان التاريخ اهم عامل لوجود امة، ومنهم من يقول اللغة او الدين او الجغرافيا… الخ. وفي هذا الخضم الفكري حسمت الفكرة القومية امرها، واعتبرت ان ذلك كله يشكل مقومات الامة، وان ذلك كله ينطبق على العرب، وآن للامة العربية التي جزّأها و"خلّْفها" الاستعمار، ان تُبعث الآن. فالارض "بتتكلم عربي" ولا حياة للفرد الا ضمن الجماعة الأمة العربية، وبعد قليل - كما كانوا يطرحون - سيكشف العرب عن وجههم الكريستالي وهم يدخلون، فرادى وجماعات، في اطار وحدة استثنائية. فاذا جرح عربي في اقصى المشرق تألم له عربي في اقصى المغرب. انها فكرة مغرية حقاً شكلت مفهوماً كبيراً بأذهان متبنيها، وحلماً كبيراً، وحلاً وحيداً، واتسمت - على هذا - بالشمولية، فتحولت الى نظرية معرفية وثقافية وسياسية… امتدت بهم الى ان اعتبروا ان العرب كانوا هكذا طيلة التاريخ منذ تكونهم كجماعة اثنية. فتحولت الى ايديولوجية كليانية، وتعامل معها اصحابها والشارع العربي على انها هكذا فعلاً، وفي هذا تكون وصلت الى افقها المسدود. وكانت الاشارة الاكبر على ذلك هزيمة 1967. وبامكاننا ان نضيف ان حرب الخليج كانت الضربة القاضية لآخر ما تبقى منها. لقد دفع الشارع العربي ثمنها كثيراً جداً. وكذلك شأن الماركسية، فلقد دخلت الارض العربية بصيغتها البلشفية اللينينية، الستالينية، الخروتشوفية، البريجينيفية… الخ، وكان الغائب الوحيد عنها هو كارل ماركس. وقد انتبه الماركسيون العرب الى ذلك، ولكن بعد فوات الاوان، وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية في العالم بأسره. كان الماركسيون العرب - مثقفين وسياسيين - على قناعة عالية بمشروعهم متأتية من ان الماركسية، بحق، نظرية كبيرة، ولديها ما تقوله بشكل كبير حقاً. وكان الاتحاد السوفياتي في حالة استثنائية من القوة. وحركات التحرر العالمية المدعومة او هكذا كان يُظن سوفياتياً، في حالة من التكاثر والمد لا مثيل لها في التاريخ الحديث، فانطلقوا - الماركسيون العرب - من ذلك، لا انطلاق المحاور والمتأمل بل انطلاق المؤمن العقائدي بالاله الماركسي، فتحولت الماركسية من نظرية معرفية الى ايديولوجيا كليانية، وتعامل اصحابها معها من هذا المنطلق، فوصلت، كالفكرة القومية، الى افقها المسدود، وكان سقوط الاتحاد السوفياتي - فيما بعد - والمنظومة الاشتراكية في العالم اشارة نهائية الى ذلك. الجمود ضمانة الاستمرار حين اكتشف الليزر، قال العلماء انه حل يبحث عن مشكلة، ودواء يحتاج الى داء… الى ما هنالك. لقد كان سبقاً وفتحاً علمياً لم يستطع العلم ان يتآلف معه الا فيما بعد، حيث صار حاجة لا بد منها في مجالات عدة ومتنوعة. كذلك شأن الحداثة العربية: ففيما كان المجتمع العربي ولم يزل يفور بمشاكل ليست قبل الحداثة فحسب، بل قبل كونه مجتمعاً بالمعنى الحديث، كان قبلياً، عشائرياً، وطائفياً… ومستبداً بوجهيه الشعبي والسلطوي. والفادح في الامر انه لم يكن يُنظر اليها كمشاكل تعترض تطور المجتمع، بل كانت، في افق وعيه الشعبي، سيرورة طبيعية له، لقد كان متآلفاً معها الى درجة انه يقف في وجه كل من يحاول طرحها كمشاكل يجب ان تعالج. وكرّس ذلك في وعيه سلطات سياسية، كانت ترى في بقائه هكذا ضمانة لتنفيذ مشاريعها، وامعنت في تكريسه بعد ان فشلت مشروعيتها التاريخية، والتي كشف عورتها نهائياً هزيمة 1967، فكانت ترى في الانقسامات العمودية للمجتمع العربي بدائل متوائمة مع توجهها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي… الخ. البنى المجتمعية العربية تقليدية، ما قبل رأسمالية بكثير، بينما نشأت الحداثة في الغرب بعد انتصار التصنيع، وفي ظل مجتمع رأسمالي متماسك، شكلت الحداثة بالنسبة اليه مرحلة وصل اليها بحكم تطوره، ليس على مستوى البنى التحتية، بل على مستوى الادب والفن… لقد حملت البرجوازية الغربية اعباء الحداثة قيماً وافكاراً، بينما لم يكن لدى الحداثة العربية حامل اجتماعي، فانقسامات الممتمع العربي ليست افقية طبقية بل عمودية، كما اشرت. وهو على مستوى القيم والافكار متخلف جداً عن قيم الحداثة وعن طروحاتها، بل اكثر من ذلك، فكانت قيمه وافكاره مناهضة لقيمها وافكارها. لقد حدث لمفكري الحداثة العربية ما يمكن تسميته فشلاً نظرياً، ففي الوقت الذي كانت الفلسفات الغربية تنتج حداثة، أطر وحجم الفكر العربي نفسه في اطار الفكر الوضعي بثنائياته المتشابهة، فلم يتجاوز ثنائيات الفكر الديني الاسلامي: "جنة، جهنم - عقل، غريزة - ملاك، شيطان…" ولا ثنائيات ديكارت "عقل، لاهوت…" ولا اوغست كونت "علم، ميتافيزيقيا دين…"، وذلك على رغم تجدد الفكر العربي والمفكرين العرب من الماركسية والقومية، وحتى الليبرالية، وعلى رغم معرفة او عدم معرفة هؤلاء المفكرين ان الغرب لم يستطع الدخول في مشروع انجاز حداثته الا بعد ان تجاوز الفكر الوضعي، خصوصاً، او بالتحديد، بعد الظهور اللامع لكارل ماركس وسيغمون فرويد، وتأسيسهم الكبير لما يسميه جيل دولوز: "فجر ثقافة اوروبية". لقد فشل المفكرون العرب في امرين: عدم استفادتهم من تجاوز الغرب ومفكريه للفكر الوضعي، وعدم اجراء تمهيد نظري لامكان قيام حداثة عربية، مما افقد هذه الحداثة حاملها النظري كذلك. في هذا "الفوات التاريخي" للعرب، كان ثمة نخب ثقافية على اطلاع واسع بذلك، وكانت مهجوسة بالتغيير من مواقعها الفكرية المتعددة، وكانت، الى ذلك، مطلعة على النتاج الغربي للأفكار ومدى مساهمتها في تغيير حركية مجتمعاتها، فاستحضرت تلك الافكار واقترحتها كنوع من الحل لهذا "الفوات التاريخي" للعرب، يمكن ان تساهم في اخراجهم من "فواتهم" هذا. ولما كانت آثار الاستعمار الغربي لم تزل منتشرة - كالفطر - على الارض العربية، فقد تم اعتبار تلك الافكار غزواً ثقافياً غربياً، او بدعة غربية. ونحن نعرف انه حتى اليوم يقال عن الافكار ذات المنشأ غير العربي افكاراً مستوردة، من دون اي ادراك ان ذلك ليس عيباً او نقصاً، فالافكار تتفاعل وتتبادل التأثير من دون ان يُنظر اليها من خلال العقدة الكولونيالية مثلاً: كلنا يعلم ان الغرب مسيحي، مع ان المسيحية ذات منشأ شرقي…. في هذا السياق، لا يمكن ان نغفل عن دور جبران خليل جبران في افتتاحه لامكان قيام حداثة عربية. فمفكرو ما يسمى ب"عصر النهضة" العربي، طرحوا - على اختلاف اشكال الطرح، وعلى اختلاف مبرراتهم لها - العودة الى الاصول لتأسيس انسان عربي واعٍ، فكانوا - بهذا الشكل او ذاك - اصلاحيين، فما تم انجازه في العهود الاسلامية الاولى هو النموذج الذي يحتذى، وكذلك الانسان في تلك العهود هو النموذج الامثل. يشذ عن هذا الركب جبران خليل جبران الذي تمثلت طروحاته جميعها بضرورة تجاوز الماضي وبناء المستقبل، وهذا أسّ الحداثة. لقد خرج عن طروحات الفكر التقليدي العربي غير مصغٍ لنداءاته، ان كان على مستوى الشكل المبتكر الذي كتب به او على مستوى قوله. فكانت افكاره مناهضة لهذا الفكر، داعيةً الى بناء انسان حديث.واستمر بذلك منذ بداية كتاباته وحتى وفاته سنة 1931. لقد كان، على هذا، طاقة الحداثة العربية، والبرق المختزن في سمائها. ولكن لم تنظر اليه الثقافة العربية على هذا الاساس. لقد عومل كمهجري كبير فحسب، وربما لهذا السبب، كان ينظر اليه ليس على انه تشكيل ثقافي عربي، بل تشكيل ثقافي في بنية ثقافية خرى الولاياتالمتحدة. وربما كرس ذلك تخليه عن الكتابة باللغة العربية منذ فترة مبكرة من عطائه. وعلى رغم ذلك او لهذا كانت الثقافة التقليدية تنظر اليه بمنظار آخر مضاد. وعليه فلم تدخل طروحاته داخل النسيج الثقافي العربي بمجمله، انما امتد تأثيره الى الشعراء والادباء فحسب. كان طاقة الحداثة الشعرية والادبية والبرق المختزن في اذهان الشعراء العرب فقط والادباء الذين افتتحوا سيرة الحداثة الشعرية الادبية ولم يمتد الى باقي مفردات الثقافة، التي كانت، بصفة عامة تقليدية قادرة على بناء حواجز صلبة امام كل تيار جديد متقدم. كان جبران نجماً بعيداً يدور في فلك ثقافي مختلف، تراه الثقافة العربية ولا تتأثر به مباشرة. فعادة، تكون تأثيرات النجم بعيدة وغير مباشرة، الا انها حاسمة، كما يقول الفلكيون وعلماء الابراج. في السياق ذاته، ومن شرفة اخرى، يمكن القول - اذا اتفقنا على انه للحداثة فروع متعددة، كالحداثة الفكرية والاجتماعية والاقتصادية …الخ - ان الحداثة الشعرية الادبية هي الوحيدة التي استطاعت مواجهة البنى التقليدية والاستمرار في تأسيس مشروعها على رغم الرفض الكبير الذي قوبلت به، وعلى رغم الاتهامات الهرطوقية التي ووجهت بها كالعمالة للغرب وتخريب التراث العربي …الخ. واعتقد بأنه عليها، ربما، ينصبّ املٌ ما في بناء احتمالات اخرى لحداثة عربية جديدة. فكما ان الليزر صار ضرورة علمية وتآلف معه العلم بعد فترة، فانه يتم التآلف الآن مع شعر الحداثة، وتتسع دائرة قرائه بين المثقفين العرب. العلاقة بين هذا الشعر والقراء تتسع، ولكن قياساً الى فترات ظهوره الاولى. وان ذلك يتم ولكن على ايدي النخبة، ان لم نقل نخبة النخبة. ثمة تساؤلات عدة تثيرها الحداثة على المستوى العربي، قد يكون أهمها البناء النظري والثقافي الذي يشكل تمهيداً لها. وقد يكون ضرورياً ان يتم ذلك، ليس باستحضار ثقافات الآخرين فحسب بل باستخلاص ذلك من خلال الحراك الداخلي للمجتمع العربي، من دون استبعاد ثقافات الآخرين، بل بالاستفادة منها، وإنشاء علاقة تبادلية التأثير معها. فقد يكون من الضروري جداً تدوين اللسان الشعبي العربي ورفعه الى مستوى الثقافة، على غرار ما فعله بعض المفكرين العرب. وقد يكون من الضروري اقامة علاقة حوار ونقد للتراث العربي لا إقامة علاقة اصغاء وطاعة. هنا، أود الاشارة الى انه قد يكون من الممكن، على المستوى الاقليمي لما يسميه السوريون القوميون سورية الكبرى، الاستفادة من الطروحات الفكرية والنظرية لانطون سعادة، حيث تم ذلك لديه بالاعتماد على حراك المنطقة الداخلي ومن منظوره، من دون ان يُنظر الى ذلك الجهد النظري والفكري من منطلق حزبي - سياسي، بل من منطلق فكري، لا سيما ان هذه الافكار كانت الأكثر انتشاراً على المستوى الاقليمي. فقد يمكن الاستفادة منها كدعامة لحداثة عربية جديدة. ولست في موقع يسمح لي بإدعاء امكان ذلك أو عدمه، ولست أعرف ان كان ذلك صحيحاً ام لا، انما اقترح ذلك من دون أية ميول ايديولوجية تجعلنا نغمض أعيننا امام ضوء ما في الثقافة العربية، حتى لو كان مغربياً جداً، أو خليجياً جداً، او مصرياً جداً، او سورياً جداً...، كمثال. فالثقافة نسيج واحد انما بألوان متعددة، مختلفة. لقد أنبنت الحداثة الغربية على اختلافات فكرية وفلسفية حادة، بل متناقضة، وهذا كان يجعل ولم يزل بناءها يزداد شدة وتماسكاً، فهي ليست جهازاً مفاهيمياً منجزاً انها اشبه بكائنات حية تولد باستمرار، لكل ولادة شكل ولكل شكل اسم. ثمة تساؤلات عدة تثيرها الحداثة عربياً، لا بدّ من الاصغاء اليها جيداً، وبحثها جيداً، ونحن بدأنا العد التصاعدي في الألفية الثالثة. * شاعر سوري.