من سياتل الى كانكون مروراً بالدوحة، شهدت منظمة التجارة الدولية اربعة أعوام من الاضطرابات تخللها الكثير من التشكيك فضلاً عن اختراقات عدة سمحت باطلاق جولة جديدة من المفاوضات. لكن هناك بارقة أمل في التوصل الى اتفاق حول الدعم الزراعي خلال مؤتمر المنظمة الذي سيعقد في كانكون المكسيك في منتصف الشهر الجاري، بعد التسوية حول اصلاح السياسة الزراعية المشتركة ضمن الاتحاد الاوروبي المعلنة في حزيران يونيو الماضي في لوكسمبورغ والمبادرة بين الاوروبيين والاميركيين في منتصف آب اغسطس الماضي لخفض الدعم. في خريف عام 1999 كان يتم الاعداد لمؤتمر سياتل في مقر منظمة التجارة الدولية في اجواء محبطة، الاوضاع الدولية لم تكن سيئة كثيراً لكن التعبئة كانت متفاوتة. راحت الدول النامية تمارس الضغوط معربة عن استيائها من نتائج الجولة السابقة من المفاوضات، جولة اوروغواي، والوثيقة المعروضة على المفاوضين كانت طويلة ومبهمة وغير كاملة. وفشل ذلك المؤتمر، الذي نظمته اكبر قوة اقتصادية في العالم في مدينة تحتضن شركات مثل "بوينغ" و"مايكروسفت"، فشلاً مدوياً. ولم يكن ذلك عائداً الى المتظاهرين المناهضين للعولمة الذين حاصروا مركز المؤتمرات فقط، بل ايضاً الى موقف الدول الفقيرة الرافضة لاتخاذ تعهدات جديدة. ومنذ سياتل كان ملف الزراعة حجر العثرة الرئيسي بين الدول الصناعية. وفي مطلع عام 2000 كان العمل في المنظمة معطلاً، وغرقت في ازمة ثقة كبيرة بعد ستة أعوام على تأسيسها. واحتاج احياء العمل فيها الى اشهر طويلة، وبوشرت عندها، من دون اقتناع كبير، مفاوضات حول تحرير الزراعة والخدمات. لكن على مر الشهور ظهرت ارادة جديدة على التفاوض مع تدهور الاوضاع الاقتصادية في العالم. وفي ايلول سبتمبر عام 2001، هزت اعتداءات في نيويورك وواشنطن الولاياتالمتحدة والعالم باسره. وللمفارقة، اعتبر محللون ان هذه المأساة ساهمت في رص الصفوف بين الدول الاعضاء في منظمة التجارة الدولية وفي التوصل الى تسوية في اللحظة الاخيرة في مؤتمر الدوحة في تشرين الثاني نوفمبر عام 2001. واطلقت جولة جديدة من المفاوضات تحت اسم "برنامج الدوحة للتنمية" على ان ينجز في نهاية سنة 2004. وكانت التنمية الهدف الرئيسي في هذا البرنامج الطموح في وقت تعهد فيه الاتحاد الاوروبي خفض الدعم لصادراته الزراعية استعداداً "لرفعه التدريجي". وأقر في الدوحة اعلان يخفف من نظام براءات الاختراع للادوية للسماح للدول الفقيرة بانتاج ادوية بديلة جينيريك لمواجهة الاوبئة التي تضربها. واثار هذا أملاً وانفراجاً كبيرين. وخلال هذا المؤتمر حصل الاتحاد الاوروبي على وعد بان تكون ملفات البيئة والاستثمار والمنافسة موضع مفاوضات ويفترض ان يتأكد ذلك خلال مؤتمر كانكون. وشهد مؤتمر الدوحة ايضاً انضمام الصين الى منظمة التجارة الدولية. وبعد سنة على ذلك سلم النيوزيلندي مايك مور رئاسة المنظمة الى التايلاندي سوباشاي بانيتباكدي وبدأت حينها المفاوضات في شأن عشرة مجالات تقريباً في اجواء بناءة، لكن الاختلافات اعمق من اي وقت مضى. فان على صعيد صناعة المنسوجات او الاسماك او حتى القطن والسكر كانت الدول النامية تصر على اخذ مصالحها المهملة في الاعتبار وذهب بعضها الى اعتماد موقف راديكالي رافض. ومرت مهل عدة حددت في الدوحة من دون التوصل الى تسوية، وفي كانون الاول ديسمبر الماضي نسفت الولاياتالمتحدة اتفاقاً كان يهدف الى السماح للدول الفقيرة التي لا تنتج ادوية باستيراد ادوية باسعار مخفضة مع احترام براءات الاختراع. وتبقى الزراعة الموضوع الذي يقسم اعضاء المنظمة بسبب الدعم الرسمي والدعم الخارجي والمنافسة بين دول الجنوب من جهة ودول الشمال والجنوب من جهة اخرى، فضلاً عن الخفض التدرجي او الجذري للرسوم. لكن التسوية حول اصلاح السياسة الزراعية المشتركة ضمن الاتحاد الاوروبي المعلنة في حزيران الماضي في لوكسمبورغ والمبادرة بين الاوروبيين والاميركيين في منتصف آب الماضي لخفض الدعم، حملت بارقة امل. المناهضون للعولمة يتوقع ان تشدد المنظمات غير الحكومية والناشطون المناهضون للعولمة مرة جديدة على تأثير تحرير المبادلات على اقتصاد دول الجنوب بمناسبة المؤتمر الوزاري لمنظمة التجارة الدولية. واعلنت نحو الف منظمة غير حكومية دولية ونقابات وجمعيات عن حضورها الى كانكون على هامش الاجتماع الوزاري دعماً لاكثر الدول فقراً في العالم، فضلاً عن نزولها الى الشارع لمواصلة عملية التوعية الشعبية حول مساوئ المنظمة. وتفيد منظمات غير حكومية عدة ان تظاهرات كانكون قد يشارك فيها عشرات الالاف من الاشخاص لديهم مطالب مختلفة، تراوح بين احلال الديموقراطية في منظمة التجارة والغائها نهائياً. ويحلم البعض منهم بتكرار ما حصل في سياتل، في اشارة الى مؤتمر منظمة التجارة الدولية عام 1999 الذي اصيب بالشلل، ومن ثم علق من دون اصدار اعلان نهائي بسبب التظاهرات الضخمة في الشوارع، الامر الذي سلط الاضواء في تلك الفترة على منظمة كانت حتى ذلك الحين غامضة وغير معروفة تماماً. ويأمل البعض الآخر ببساطة الاستمرار في تسليط الضوء على دور منظمة التجارة الدولية وطريقة عملها التي تصب دائما من خلال المفاوضات المتتالية، في مصلحة الدول الغنية وشركاتها عبر القضاء على الاقتصادات المحلية، على حد قول آنيك جانتيه المسؤولة عن الحملات في جمعية "اوكسفام فرنسا". وتقول مصادر في الاتحاد الاوروبي ان تعبئة المناهضين للعولمة كانت مفيدة نوعاً ما لأنها دفعت منظمة التجارة الدولية الى معالجة مسائل تهم الدول النامية، مشددة في الوقت نفسه على ان مواقفهم ليست بناءة. وخلافاً لذلك تعتبر الحركات المناهضة للعولمة ان جولة المفاوضات التي اطلقت في مؤتمر الدوحة "عملية غش" فعلية على ما يفيد بعضها. وتقول جانتيه: "في الدوحة تعهدت الدول الغنية القيام بخفض فعلي للدعم على الزراعة وهو دعم يؤدي الى افلاس مزارعي دول الجنوب وتسهيل حصول الدول الفقيرة من دون اي قيود على الادوية البديلة لكنها لم تفعل ذلك". وتضيف: "على رغم ذلك لا تزال تراعي مصالحها الخاصة وتريد الحصول من الدول النامية في كانكون على تسريع تحرير الخدمات وبدء مفاوضات حول الاستثمار والمنافسة التي تنذر بتفكيك المرافق العامة". وهذا يقلق المنظمات غير الحكومية الدولية التي "تأمل بأن تنجح الدول النامية في توحيد الصفوف للدفاع عن مصالحها في كانكون". وفي وجه مؤيدي منظمة التجارة الذين يؤكدون ان "التجارة هي النمو"، تشدد المنظمات غير الحكومية على ان جولات التحرير المتتالية لم تمنع حصول زيادة في التفاوت والتباين على مستوى العالم بأسره.