حاول وزراء الدول الاعضاء في منظمة التجارة الدولية بعد اربعة ايام من المفاوضات العسيرة مجدداً أمس التغلب على خلافاتهم وسعوا الى التوصل الى حل وسط يمكن ان يؤدي الى اتفاق جديد حول التجارة العالمية. ومن المقرر ان يختتم المؤتمر الذي يستمر خمسة ايام اعماله صباح اليوم الاثنين مساء الاحد بتوقيت المكسيك خصوصاً ان السلطات المكسيكية عازمة على انهاء الجلسة الاخيرة في موعدها. دخل المؤتمر الوزاري الخامس لمنظمة التجارة الدولية المنعقد في منتجع كانكون المكسيكي نفقاً مجهولاً قبل ساعات فقط من الموعد المحدد لاختتام أعماله، ما حدا برئيسه وزير خارجية الدولة المضيفة لويس ارنستو دربيز الى اطلاق تحذير شديد اللهجة من مخاطر فشل مفاوضات تحرير التجارة، التي أطلقت في مؤتمر الدوحة قبل عامين، على الاقتصاد العالمي، لكنه لم يعلن يأسه من احتمال تحقيق نتيجة ايجابية في اللحظات الأخيرة. وشدد وزير الخارجية المكسيكي في اجتماع مطول عقده مع رؤساء الوفود المشاركة لاستشراف آرائهم في مشروع بيان ختامي معدل واستمر حتى ساعة مبكرة من صباح أمس الاحد بالتوقيت المحلي للمكسيك على الحاجة الى التوصل الى اتفاق في شأن القضايا المطروحة على المؤتمر لاعطاء دفعة للاقتصاد العالمي. وقال محذراً ان "فشل كانكون سيعني ضياع فرصة لا تتكرر الا مرة واحدة في العمر". وأكدت مصادر رسمية في المؤتمر أن المشروع المعدل، الذي لم ينشر نصه، أثار ردود فعل متباينة وانها سلبية في غالبيتها. وأشارت هذه المصادر الى أن رؤساء وفود الدول النامية والصناعية ثمنوا الجهد الذي بذلته قيادة المؤتمر لتقريب وجهات النظر في شأن بعض المسائل الرئيسية، لا سيما في ما يتعلق بالدعم الزراعي وفتح الأسواق أمام المنتجات الصناعية وقضايا سنغافورة، لكنهم أعادوا تأكيد مواقفهم المعلنة معربين عن قناعاتهم بأن المقترحات الجديدة لم تأخذ مصالحهم في الاعتبار. وجاء التطور الدراماتيكي وما صاحبه من تحذيرات بعد يومين من مفاوضات ماراثونية جرت في معظمها عبر وسطاء اختارهم رئيس المؤتمر في الجلسة الافتتاحية الاربعاء الماضي وعهد اليهم مهمة التوفيق بين مطالب الدول النامية المصممة على الانتصار لمصالح مزارعيها الذين يشكلون 97 في المئة من المزارعين في العالم ويعانون أشد المعاناة بسبب السياسات الزراعية للدول الصناعية، وبين مطالب الدول الصناعية التي أبدت استعدادا لتقديم تنازلات ولكن ليس على حساب مزارعيها. ووصف ممثل التجارة الاميركي روبرت زوليك مسودة المشروع بأنها "بناءة". وقال: "هناك عناصر ايجابية واخرى علينا تحسينها وتوضيحها. والآن تبدأ مرحلة الأخذ والعطاء المهمة في ما يتعلق بالبيان الختامي". واعلن المفوض الاوروبي للتجارة باسكال لامي ان مشروع البيان الختامي "قاعدة مقبولة للنقاش"، لكنه قال انه يبدو له "غامضاً كلياً" حول مسألة الدعم للصادرات الزراعية. اما وزير التجارة الهندي ارون جايتلي فقال ان "التظاهر بالأبعاد التنموية لأجندة الدوحة قد زال اخيراً". واضاف ان المسودة ابقت على الدعم للصادرات الزراعية الذي تقدمه الدول الغنية لمزارعيها، ما يحرم نظراءهم في الدول النامية من القدرة على المنافسة بشكل فعال. وعلى هامش جهود الوساطة التي استمرت طوال يومي الخميس والجمعة الماضيين تعرضت منظمة التجارة لانتقادات صريحة وان غير مباشرة عندما طالبت وفود الدول العربية الأعضاء المؤتمر الوزاري ب"تسريع" مسار العضوية للدول العربية الأخرى الراغبة في الانضمام الى المنظمة وعدم مطالبتها تحمل التزامات تفوق التزامات الدول الأعضاء. وأكد وزير الاقتصاد والتجارة القطري الشيخ حمد بن فيصل آل ثاني تأييد بلاده لانضمام السعودية واليمن ولبنان والسودان والجزائر الى عضوية منظمة التجارة، مشدداً على أن هذه الدول شركاء تجاريون أساسيون للغالبية العظمى من الدول الأعضاء وطبقت أخيراً اصلاحات اقتصادية ذات أثر بناء وايجابي في الاقتصاد العالمي. وقال في كلمة أمام المؤتمر الوزاري ان "قناعتنا أن هذه الدول مؤهلة للانضمام لنيل العضوية من دون مطالبتها بتقديم التزامات تزيد على اتفاقات جولة أوروغواي". وصدرت دعوات مماثلة من رئيس الوفد السعودي وزير الصناعة والتجارة هاشم يماني الذي حضر المؤتمر الوزاري بصفة مراقب وكذك رئيس الوفد الأردني وزير الصناعة والتجارة محمد حمور ورئيس الوفد البحريني وزير التجارة علي صالح الصالح الذي حض المنظمة على تسريع خطوات العضوية أمام الدول النامية عموما وخصوصاً الدول العربية ولا سيما بلد تجاري رئيسي مثل السعودية، مشدداً على مسالة عدم مطالبة الدول الراغبة في العضوية بالتزامات تفوق التزامات الدول الأعضاء. وأعلن وزير الاقتصاد والتجارة اللبناني مروان حماده في كلمته أن لبنان سيدفع بمفاوضاته الى الامام في الشهور المقبلة كونه يستوفي معظم المعايير والشروط التي تؤهل أي دولة للانضمام الى المنظمة. واعتبر حماده أن "بلداً مثل لبنان ملتزماً اتفاق التيسير العربي وشريك الاتحاد الاوروبي ومرشحاً للانضمام الى منظمة التجارة العالمية ليس في حاجة الى إبراز صفاته ودوره في العولمة". وأبرزت الوفود العربية في دعواتها مدى الصعوبة التي تجدها الدول النامية عموماً في الانضمام الى عضوية منظمة التجارة التي خرجت الى الوجود بعد التزام 123 بلداً باتفاقات جولة أوروغواي في مؤتمر مراكش عام 1994، الا أن المعدل السنوي لقبول أعضاء جدد لم يتعد منذئذ 23 عضواً، اذ تضم المنظمة في الوقت الراهن 146 بلداً وان كانت وافقت للتو على انضمام نيبال وكمبوديا كأول عضوين من البلدان الأكثر فقراً في العالم. الا أن مصاعب الانضمام الى المنظمة الدولية ليست الهم الوحيد للدول النامية. ويؤكد المعنيون بشؤون التنمية أن اتفاقات أوروغواي، وعلى وجه الخصوص الاتفاقية الزراعية التي جاءت نتاج تفاهم بين الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي اتفاق بلير هاوس تشكل هماً أكبر من حيث أنها أتاحت للدول الصناعية الاستمرار في تقديم مساعدات ضخمة لمزارعيها الذين أغرقت منتجاتهم المدعمة الأسواق وخفضت الأسعار العالمية مهددة حياة البلايين من صغار المزارعين في الدول النامية والفقيرة. وباستثناء الدول العربية التي تعتبر الأكثر استيراداً للمواد الغذائية بين المناطق النامية والأكثر افادة من أسعار الحبوب المدعمة، ألحق الدعم الزراعي خسائر هائلة بمزارعي الدول النامية التي لم تفقد صادراتها الزراعية 40 في المئة من قيمتها بسبب انخفاض الأسعار فحسب، بل عجزت عن تحقيق أي انجاز في ما يتعلق بحصتها في التجارة العالمية للغذاء طوال العقدين الماضيين، اذ لا تزال هذه الحصة حبيسة نسبة لا يزيد مقدارها على 23 في المئة، حسب منظمة الزراعة والأغذية فاو. لكن الدول النامية التي تشكل الغالبية العظمى من أعضاء منظمة التجارة وتلقت من تصاعد المعارضة الشعبية والفشل الذريع الذي لحق بمؤتمر سياتل عام 1999 دفعة معنوية قوية، نجحت في فرض همها الأكبر على مؤتمر الدوحة حيث انتزعت التزاماً صريحاً من الدول الصناعية بخفض المساعدات التي تمنحها لمزارعيها وتقدر قيمتها بزهاء 300 بليون دولار سنوياً، وأكدت أن نجاح مؤتمر كانكون ومعه مفاوضات تحرير التجارة سيتحدد في موقف الدول الصناعية من هذا الالتزام. وحددت الدول النامية مطالبها في اقتراح تقدمت به مجموعة من 21 بلداً تشكل زهاء نصف سكان العالم وتمثل 63 في المئة من مزارعيه وتقودها دول ذات ثقل سكاني هائل مثل الصين والهند والبرازيل. كذلك أظهرت المجموعة المشار اليها اصراراً شديداً على تحقيق مطالب الدول النامية وأبدت تماسكاً قوياً لدرجة أن وزير الشؤون الخارجية البرازيلي سيلسو آموريم حذر الدول الصناعية من محاولة اثارة الفرقة في صفوفها. وحسب اقتراحها الذي اعتمده المؤتمر وثيقة رسمية ركزت مجموعة ال21 جهودها في الدعوة لاحداث تعديلات جذرية في الاتفاقية الزراعية لجولة أوروغواي وتلخصت مطالبها من الدول الصناعية التي تنفرد بنحو 73 في المئة من تجارة الغذاء، في ازالة "الدعم المحلي المرتبط بمشاريع تحديد الانتاج"، أي المساعدات المباشرة التي يقدمها الاتحاد الأوروبي للمزارع مقابل الامتناع عن زراعة قسم من أرضه علاوة على تبني أهداف وجداول زمنية طموحة لخفض الدعم المشوه للتجارة واعتماد مهلة نهائية صارمة لإزالة دعم الصادرات كلياً. وانضمت الولاياتالمتحدة الى الاتحاد الأوروبي في المطالبة بثمن مقابل تقديم تنازلات في شأن الدعم الزراعي. وقال نائب الممثل التجاري بيتر آلجيير في مؤتمر صحافي ان بلاده ستكون على استعداد لاجراء تعديلات على برامج الدعم المحلي، لكنه اشترط لذلك فتح الأسواق الصناعية والنامية أمام المنتجات الزراعية والغذائية الأميركية وتحديداً المنتجات الغذائية في حال أسواق الاتحاد الأوروبي واليابان والدول الصناعية الأخرى والسلع الأساسية والمنتجات الغذائية في حال الأسواق النامية. وكانت أميركا والاتحاد الأوروبي عرضا اقتراحاً مشتركاً شكل أساساً لمشروع بيان ختامي طرحته رئاسة منظمة التجارة على وزراء الدول الأعضاء وقوبل بمعارضة فورية من قبل الدول النامية التي طرحت اقتراحها المضاد عبر مجموعة ال21، ما حدا برئيس مؤتمر كانكون الى تعيين وسيط في شخص رئيس وفد سنغافورة جورج يو يونغ بون الذي أجرى ما وصفه "مشاورات ماراثونية" لمحاولة سد الهوة الضخمة بين موقفي الدول النامية والدول الصناعية. وشكل تقرير رفعه الوسيط السنغافوي، علاوة على تقارير الوسطاء الآخرين المكلفين متابعة المسائل الرئيسية الأخرى المطروحة على جدول أعمال المؤتمر، فتح الأسواق أمام المنتجات الصناعية وقضايا سنغافورة الاستثمار والمنافسة وشفافية المناقصات الحكومية والتسهيلات التجارية المادة الرئيسية لمشروع البيان الختامي المعدل الذي لن يتضح مصيره قبل اختتام أعمال المؤتمر رسمياً في وقت مبكر من صباح اليوم.