يفرغ صدركَ من الأَحلام والفضة، تفرغ الأَصابع من رسوماتها، لأَن الطير لا يغنّي، ورام الله، تفرغ منكَ، وما حفظتَ لها من حلل ظلتْ ساكنة فيك عقوداً، نهشتها الرياح هناك والغياب، وبدَّدتِ الأَيام ملامحها، ولم تعد رام الله في رام الله، رام الله التي عرفتَ، ليست رام الله التي تأَتي، ورام الله هذه ليست لكَ. أَنت لم تجدها، ولم تعثر على بيتك في المخيم. يفرغ صدركَ من الأَحلام والفضة، وقد أَفضيتَ وحدك. لا سرج للحصان، تفكّر لوهلة خاطفة، لا سرج له، وترى أَن لا ثمار في يديكَ، جيوبكَ فارغة من البريق والأَغاني، وتطفح فيكَ الأَنهار، وقد أَفضيتَ وحدك. قبل قليل وضعتَ في مكتب البريد رسالتك الأَخيرة إِلى سالي، وانطفأ كلُّ شيء، وآن استدرتَ ووقفتَ على أَول درجات المكتب المفضية إِلى الشارع، لفحكَ هواء ساخن. وعرفت في الأَخير أَنكَ أَفضيتَ وجدك. لا تعرف أَين تلقي بأَحمالكَ الداخليَّة إِليك، أَو أَين تمشي. عمان كرة لاهبة، والجميلون غابوا، ومالح هذا الهواء، مالح وتمشي، وقيل لك لا تستطيع الإِقامة هناك... إِلى أَي مقهى ستذهب، حيث لا يراكَ أَحد، لتروي ما حدث: أ دخلتُ رام الله من بابها الجنوبيّ، وقلت للسائق خذني إِلى المنارة. قال بورخس الكبير لبورخس الصغير، وهما يعبران إِلى مونتفيديو، مطالع القرن الماضي: - أُنظر جيّداً إِلى الأَعلام والجمارك والعسكريّين والكهنة، لأَن ذلك كلّه سوف يزول، ويمكنك أَن تخبر أَولادك، أَنك شاهدتهم. كان بورخس الصغير في التاسعة من عمره، حين تلقّى نبوءة أَبيه، صريحة ويقينية تماماً، وما كان منه إِلاّ أَن نظر حيث أَشار الأَب، فلم يرَ شيئاً، ثم عاد إِلى وجه أَبيه، وهزّ رأسه بما يعني الإِعتذار الصامت المبكّر، كما لو كان يعرف أَنه لن يكون له أَولاد، ليخبرهم بما لم يشاهد، ولم يقل شيئاً، لكنه انتظر عقوداً طويلة، ليروي وهو في الرابعة والثمانين، لصحافيّ من بلاده هذه الدعابة. استعدت هذا المشهد وأَنا أَعبر نهر الشريعة، ورأيت ما رأى بورخس جيداً. أَوجعني أَن لا ولد لي في مثل عمر بورخس آنذاك، لأَقول له أُنظر، هذه بلادنا، أَو تأَمّل خطوتي الأُولى على ترابها، وكيف ننزف، والأَرض تتنهَّد! عبرتُ وحدي إِذن برأس أَبيض، وكان أَولادي قد كبروا على غفلة منّي، وشاهدوا أَكثر مما كان بورخس الكبير قد شاهده، في مطالع القرن الماضي. دخلتُ رام الله من بابها الجنوبيّ، وقلت للسائق خذني إِلى المنارة. توقَّفتِ العربة قريباً من البنك العربي، وترجَّلتُ وحدي، كنت آخر ركّابها الواصلين. ها أَنا ذا أَعبر دوّار المنارة، ساعة هذه الظهيرة، بلا نبوءة، أَو تعاليم لي. اليوم جمعة، ولا دوائر رسميَّة تعمل. تدور عيناي على العابرين، لعل أَحداً يعرفني فأَحسّ أَنني وصلت. أَخذتُ الشارع الرئيسيَّ، ورحتُ أَمشي. هل صرت حقاً هنا، وأَشمّ الآن نسيم رام الله الصيفيّ من جديد، هل يتنقّه قلبي إِذن، في شوارعي القديمة، بعد مرض التجوال في المنفى الطويل! لا يهجس داخلي بشيء من هذا. كنتُ أَمشي، وأَنسى أَحياناً أَنني أَمشي. أَغراضي خفيفة، ولا ثقل للحقيبة المدلاّة على كتفي، وأَمشي. أَمرُّ بمحل "رُكب" للبوظة، أَنتبه إِلى أَن حديقته المقابلة على الجانب الآخر من الطريق قد غابت، وقامت مكانها عمارة فخمة، أُواصل المشي حتى سينما "دنيا"، هنا تفتّح القلب على الحياة والأَحلام. هل نزحتْ كنافة "جعفر" من القدس القديمة إِلى هنا، لتواجه دار السينما! استدرتُ عائداً باتجاه المنارة من جديد، مدفوعاً بنوستالجيا غريبة، وأَنا أَتأمَّل ما كان من أَبنية على امتداد الشارع، على هذا الجانب من الطريق أَو ذاك، وأَمسى أَثراً بعد عين، أَو ما تجدّد أَو تغيّر، من محلاّت، وزوايا، ومداخل. المطعم الكرديُّ في هذه الزاوية، صار إِسمه "الوردة البيضاء". هناك إِذن من يحتاج إِلى باقات الورود والزهور في رام الله، محل باتا للأَحذية، أَصبح مقهى، وأَخذ له إِسماً طريفاً "كانباتا زمان" بعد أَن وصلوا النون بالباء، واتَّحد الفعل الناقص كان بإِسمه باتا. سيعلّق صبحي في ما بعد بسخرية مبالية: اللعب باللغة مثل اللعب بالناس والأَشياء. أَدفع بابه الخشبيَّ السميك وأَدخل. جلستُ على أَقرب طاولة، وطلبتُ قهوة مرّة. أُحدِّق في أَبهاء المكان الغريب عليَّ، ثمة حداثة مطعّمة برموز تراثية قديمة، من قشّ وخشب وتطريز وموسيقى، ولا يبهرني شيء، على أَني أَكاد أُحبُّ المكان، على ما بي من مرارة. جرعتُ قهوتي على مهل، وأَنا أَتأمَّل ما كان وصار، يتواجه السابق واللاحق فيَّ، ولا أَراني بينهما، لا أَراني. ماتت الأَشياء، تبدّلتْ أَو تكوّنتْ وأَنا بعيد، أَينني الآن، أَينني هنا، كيف أَرى علاقتي من جديد بالموجود والغريب عنّي، لكأَني الغريب هنا! أَنا غريب يعبر المكان، غريب في المكان، ينظر ولا يرى. يعجُّ داخلي بالإِشارات، لكأَني وصلت متأخراً، عليَّ أَن أَرى وأَعرف، عليَّ أَن أَكون من جديد هنا. انتبهتُ إِلى أَني ما زلت وحدي، وقد فرغ الفنجان، ودخَّنت ثلاث سجائر. حملتُ أَغراضي لأَقوم، اتجهتُ نحو الباب الخشبيّ، وقبل أَن أَلمسه اندفع باتجاهي، كان ثلاثة شبان وفتاة، يختمون حديثهم بقهقهات عالية، دخلوا، وأَنا أَنتظر واقفاً. صرتُ إِلى الخارج، وأَغمضتُ عينيَّ، حتى دخلتُ فندق "الحجل". ب قلتُ لنفسي، وقد أَغلقتُ عليَّ غرفة الفندق، وشرَّعتُ نافذتها على الشارع: الآن ها أَنتَ وحدكَ والمدينة. حدّقتُ في امتداد الغرب الموشّى برؤوس البيوت والأَشجار، وخاطَبتُني من جديد، تلك "باتونيا" وإِلى الأَبعد غرباً حيث البحر، ثمة بيت في قرية لم تعد قائمة، على بعد أَمتار من خاصرة يافا، كان مسقطَ رأسكَ. صرتُ قريباً إِذن من هناك. وتجرحُكَ رام الله. تخلَّصتَ من وعثاء الطريق، وتستعدُّ إِليها، تريد أَن تراها وحدكَ، أَنتَ هكذا، تحبُّ وحدكَ أَن تتعرّف على المدن الجديدة، من دون عيون تشرح لكَ أَو تقودك، فعلتَ ذلك أَوّل ما فعلت في مدريد وغرناطة، قبل عشرين سنة، ومثلها روما، وباريس، وحدها لندن التي لم ترها بغير عيون صفيّة، مصاحبة، أَو هادية! وهذه رام الله، رام الله أُخرى تماماً، ناساً وأَماكن ومناخات، غير التي تعرفُ، غير التي كانت، أَو عرفتَ صبيّاً وشاباً. ثمة ثلاثون سنة من البعد عنها، نَمَتْ دونكَ، وتعرّتْ تحت سيف الغريب طويلاً، وما عرفتْ صيفاً واحداً من أَصيافك القديمة فيها. خذْ نفساً عميقاً إِذن، وتعرّفْ وحدكَ يا غريبها وغريبي عليها. ت اللاَّاااااااه، الله يا شارع الإِرسال، يا شارع الإِذاعة، أَأَنتَ بهذا الضيق كلّه إِذن، كيف وكنتَ لي الجنَّة أَمرح فيها، لماذا أَراكَ ضيِّقاً هكذا، وملموماً على نفسكَ، أَمن خجل يا ترى، أَم أَنها تركة الاحتلال الذي فتَّتَ الحصى، ولا يزال يفتِّتُ النفوس، راهقنا معاً يا شارع الإِذاعة، وراهقتُ فيكَ، وكنتَ الجمال البعيد، الجمالَ الذي يلسع دوماً بعناقيد الضحى والمغرب الشفيف، كان يملؤنا بالمسرَّات الحزينة جمالكَ، نحن طلاّب الثانويّة، المعوزين، الزاحفين إِليه من القرى والخيام، فارغي الجيوب، وزاخرين بالمنى، تمدُّنا كالعادة بطاقة الحلم، وتُرسلنا مُفعمين إِلى أَمَّهاتنا بالرؤى، حتى أَبعد المحطّات. مالكَ قانطٌ، مالكَ يا شارع الإِرسال، يا شارع الإِذاعة، لا أَضواء تنوس، ولا أَعراس! كيف وصلتكَ الشيخوخة يا شارعي الأَوَّل الخاصَّ، يا مُنتجي، ومُعذّب قلبي بالرحيل المبكّر، يا شارعي، كنتَ على مدى السنوات الثلاثين الماضية شاسعاً تتمدّد في ذاكرتي، وأَجوسك يوميّاً، أَنا الذي كنت في اللاشيء، واللامحدّد، ويمحوني الفراغ، بينا أَمخر الصحراء والبلدان، حيّاً كنتَ فيَّ وزادي، تحملني لأَعود، وترأف بي في غُربات الجسد المديدة، وغُربات الروح، حيث لا إِناء يجمعني أَو طريق، وأَراكَ أَجملَ شارع في الأَرض. أَجملُ المباني والقصور على جانبيكَ قامتْ، من جبالنا قُدَّتْ حجارتها، وسوَّتك السواعد، من طين البلاد. تجوّلتُ فيكَ أَرقَّ المساءات، وأَشهد أَني ما عرفتُ رحابة شارع في الديار الغريبة في مثل رحابتكَ، أَو صنوبراً، كما الصنوبر الذي يحفّ بالأَطراف منكَ، مُتيَّماً فيكَ مَنْ كنتُه، وها يستعيد توازنه الآن، إِذ تُخلخلُ فيه العظام بدمعتكَ الأُموميّة، وإِذ يافعاً فارقتكَ، عانيتُ وعاينتُ المفارقة الدّوامة، إِذ تقيم داخلي، وفي الآن ذاته، ظلّتْ خطاي ورائي موسومة مثل نجوم على أَرصفتك الحجريّة والإِسفلت، هنا وهناك، حول فندق حرب، وفندق قصر الحمراء، وحول سلاسل الغابة الصغيرة المواجهة لسور القصر، على طرف منكَ، قبل الوصول بقليل إِلى مبنى القائم مقام قديماً، أَو محطّة الإِرسال، كنّا نرتاح في الظهيرات إِلى ظلال صنوبرها المتشابك، مالي أَراها الآن نحيلة، هذه الغابة العجوز، وأَرى الجفاف يتسلّل إِلى الأَبعد من السيقان والجذوع، آه يا شارعي، إِني لأَسأل الآن، لو كنتَ لي، هل كان يتملَّكني كلُّ هذا الوله! يا شارع الإِرسال، يا شارع الإِذاعة، يا جسدي الحيَّ القديم، قلبي حزين، والكآبات تترى. وحيداً أَذرع الطرقات، ليس لي رغبة في أَن أُعلم أَحداً بوجودي، أُريد أَن أُصافح بجسدي وجه رام الله الحزين، قبل أَن أُصافح أَيّ يد، وأُريد أَن أُصلّي ماشياً، من دون أَن أَنقض وضوئي بعناق. يا لها من صلاة، لا تشوبها شبهات أَو شكوك! أَستند على روحي، وأَنا أَدخل حارة "عين مصباح" هنا خفق الصدر أَوَّل خفقاته الضارعة إِلى إِله الحب، هنا ترعرعتْ وشبَّتْ من ستغدو أُمَّ بنيني، بعد أَن نهرني الجيران كثيراً، وأَهلها طاردوني، وقلت لمن كان يمشي معي قديماً: قفْ بنا لحظةً يا صاحي قد مررنا على عينِ مصباحِ. هنا كان عُرسي قبل حزيران، هنا رقصتْ أُمي وهاهتْ قبل موتها بثمانية عشر عاماً في عرس وحيدها، وهلَّل الجيران بقدومي الجديد، قبل يجفُّ ماء العين كما أَرى، كيف قال من قال إِنَّ "التذكَّر استراحة لأَنه ليس بفعل" وإِلا من أَين يثقلني كلّ هذا العناء، ويهدّني! وأَمشي، ليس "بطن الهوى" ببعيد، وبطن الهوى هو أَوّل رام الله من الغرب، وأَصلها، كنائسها والبيوت القديمة ذات القباب، التّماسُّ الحميم مع كروم الزيتون وعرائش العنب، امتداد الفضاء المريح حتى مركز الطيرة للمعلمات، السوق القديم، الذي لم يعدّ سوقاً، ومنتزه البلدية، كم جلسنا على جدرانه الواطئة، وتحسَّرنا على أَننا لا نستطيع الدخول إِليه، النساء بأَثوابهن السود المطرّزة بالحرير، ثيابنا الشعبية، الفتيات الحديثات في أَجمل التنانير، أَو السراويل، والأَذرع عارية، وأَصعد، أَصعد في المشي، وهذا فندق بلازا، عملتُ به في العطل الصيفيّة، وكنتُ صبيّاً. سلاماً يا بلازا. سلاماً أَيها الصبيُّ البعيد الذي كنتُ، الذي كان يجمع ما يخلّفه الزبائن من مجلاّت في الغرف، ليقرأها آخر الليل. سلاماً يا أَنا الباقي هنا في الحجارة والهواء، أَنتَ لم تشخْ مثلي، وأَصعدُ. كان هنا منتزه نعُّوم، فأين صار، أَين أَطباق المسخّن المحمَّر، ومازات الشاربين، وكنت أُساعد جورجيت في إِعدادها، جورجيت اللبنانية، زوجة نعُّوم الذي عرفتُ في ما بعد، أَنه بعد وصول الأَعداء، باع المحلَّ، وارتحل، أَو مات، وماتت جورجيت وراءه. هنا مرّ عمر الشريف وبيتر أوتوول وديفيد لين وآخرون، حين كانوا يعدّون لفيلم "لورانس العرب" وشاهدتهم يشربون، مزيداً من الزفرات إِذن، وتنهّدْ يا أَنا. هنا دوّار الساعة، فأَين دكّان أَبي موسى، موسى صديقي القديم، موسى عبدالسلام، الذي درس الصحافة في القاهرة، وغاب بدوره في عمّان، من دون مقدَّمات، أَو مرض، ولم يرَ رام الله، ولا دكان أَبيه. أَمشي وأَمشي. أَنعطفُ إِلى اليمين وأَمشي من أَوّل الشارع، المكتبة العامة لا تبعد كثيراً، مكتبة البلدية ...