تحتفل الأوساط الثقافية في لبنان، السادسة من مساء اليوم، بإزاحة الستار عن تمثال الفنان التشكيلي الراحل عمر الأنسي 1901 - 1969، الذي نصب فوق قاعدة رخامية في الحديقة التي خصصت له، وتقع في شارع الكبوشية في محيط السراي الكبير في مقابل المدرج الروماني في بيروت. هذا الحدث الذي سعت إليه عائلة الفنان بالتعاون مع السلطات الرسمية، يشكل بارقة خير في الإلتفات لتكريم الفنانين الرواد الذين ذرفت ريشتهم أجمل تلاوينها في التغني بجمال الطبيعة اللبنانية فقطفوا من ربوعها وسواحلها وقراها أجمل المناظر. التمثال نفذه النحات اللبناني الشاب نبيل حلو، وهو من البرونز بالحجم الطبيعي لقامة الأنسي كاملة يبلغ طوله 172 سم. وهو أيضاً بمثابة إنجاز جديد لنحات ذي موضوعات ثورية في المعاصرة، في حقل النحت الكلاسيكي الذي يتطلب دراية أكاديمية ومعرفة في دراسة العلاقات بين النسب والأحجام وتقنيات القولبة والصب. وشكلت الحديقة معاني كبيرة لفنان كان يحلم بالحياة الهادئة للأشجار والأزهار والنبات حين كانت ربى بيروت ما تزال ريفاً جميلاً تكتنفها حقول الصبار. وعمر الأنسي هو من مواليد بيروت، من أسرة مثقفة، تفتحت موهبته منذ حداثته على حب الرسم والتلوين. نشر رسومه الأولى في المجلة التي كان يعدها طلاب الجامعة الأميركية، حين كان يدرس الطب. هذه الرسوم لفتت إليها الفنان خليل الصليبي الذي أقنعه بضرورة الانصراف للفن واحتراف مهنة الرسم والتصوير، فتتلمذ عليه زهاء سنتين 1920-1922 لينتقل بعدها إلى الأردن حيث عُيّن أستاذاً في قصر الأمير عبدالله لتعليم أبناء الأسرة الهاشمية مبادىء الرسم. وفتحت رحلته الأردنية أمام بصيرته نوافذ التأليف البانورامي للمنظر، إذ تدفقت ينابيع صور لصخور ومياه وأشكال غيوم في سراب المدى الصحراوي. جال في القدس وطبريا والعقبة ورسم بوابة بترا وآفاق البحر الميت والمدرج الروماني في عمان. كما نقلت ريشته مظاهر حياة البداوة فصور استراحة الجمال في الصحراء وألوان الغبار الصحراوي والأشعة الذهبية للشمس وضبابية الغموض التي تكتنف المناظر الأثرية القديمة. وخلال دراسته الباريسية 1927-1930 قام عمر الأنسي، بتحليل أعمال الانطباعيين الفرنسييين وزادت باريس من شغفه بقوة اللون وإيحاءات التكوين ولمسات النور، فراح يتأمل الطبيعة ويباشر في رسمها كما هي مقتنصاً لحظة الزمن الخاطفة، أو اللحظة الزائلة في قاموس الانطباعيين، فكانت لوحة المنظر هي الحدث البصري الذي يعكس بداهة تذوقه لشفافية المناخ وتغيرات الطقس وأثرها على تقلبات الأضواء والظلال. وصفه جورج سير احد كبار الفنانين والنقاد الفرنسيين بأنه "استطاع أن يروّض عينيه ببضع سنوات في العمل في فرنسا. إذ كان شاباً لطيفاً وليس خجولاً فحسب، وهو أيضا متحفظ إلى ابعد الحدود، فيه نهم إلى الاستقلالية وطموح إلى تحقيق الذات، إنه فنان كثير المروءة". بعد عودته إلى لبنان مال الأنسي إلى رسم مواضيع حركة الأشجار ومدى الكثبان الرملية وإيقاعات الشواطىء والصخور. ورسم بيته وحديقته في تلة الخياط، حيث كان ينبت الصبّار والغار والرند والكينا إلى جانب أشجار النخيل والأشجار المثمرة، وكثيراً ما تعقبت ريشته حركة الغزالين اللذين اقتناهما في حديقته، حتى أضحى موضوع الغزلان، من أشهر موضوعات الأنسي التي تناولتها الأقلام بإسهاب، فقد كتب عنها فيلسوف الفريكة أمين الريحاني يقول: "إنها جميلة وديعة ناطقة بإرثها الصحراوي، وهي في شتى الأحوال صاحبة العينين التي تغزّل بها الشعراء. غزلان الأنسي تعلّم الغزل". البارز أن الطبيعة والإنسان كانا مصدر إلهام للفنان. فقد افتتن بالطبيعة إلى درجة الهيام. رسم حلة الربيع في قرى عاريّا وكفرشيما والنخيل في الشويفات وعين زحلتا وشلالات نبع الصفا وصنين وفيطرون وسواها من القرى اللبنانية، وكانت ميروبا محطته الكبرى، التي كان له فيها بيت صغير وقد استوقفته بيوتها وصنوبراتها وصخورها. فصورها في سلسلة من اللوحات المائية التي تعتبر من أجمل مناظر الأنسي في الهواء الطلق. كما ترك مجموعة من الموضوعات الإنسانية منها "نساء درزيات على العين" و"قطاف الزيتون" و مجموعة من لوحات الوجوه البدوية. واللافت هي الصور الشخصية التي رسمها لوجهه بريشته، منها بالألوان الزيتية ومنها بالألوان المائية، فضلاً عن دراسات بارعة لبعض النماذج الجامدة في موضوع الطبيعة الصامتة وله تجارب في النحت والخزفيات. تمكن عمر الأنسي من التصوير بالألوان الزيتية ولكن روائعه الحقيقية هي تلك التي نفّذها بالألوان المائية. لذلك لُقّب بشاعر النور. فالتلقائية كانت سراً من أسرار عبقريته والايجاز هو أسلوبه البليغ في قطف حالة المنظر بشطحات ريشته. الأنسي كان من النوع الذي يطارد لحظات أحلام الطبيعة فيقتنصها بعينه وريشة ألوانه في آن. كان يؤم الوديان ينعم بظلها ويروي ظمأه من مائها وهو يستعذب ألوان الظل وخرير المياه ولون الفاكهة في نظام هو الحركة. فمناظره ليست مناظر فحسب بل تمثل فرار الفنان إلى عواطفه وأحاسيسه التي تتلبس أمام الناظر إليها أصواتاً عذبة وكلمات. وهو في ولعه باللون مثل الحدائقي الذي يغرس ريشته في حقول الطبيعة، لذلك تفوق في رسم فردوسه الصغير، في منزله في تلة الخياط، محيطاً نفسه بأزهار الفصول والغزلان والأشجار وكل عوامل الطمأنينة التي تمنحها الطبيعة التي كانت بالنسبة إليه مصدر وحي وفرح.