مجموعة الحلول التي يقترحها الشاعر سميح القاسم، في كتابه "ملك أتلانتس" الصادر عن دار ثقافات البحرين 2003، لم تكن لتغيِّر، في العمق، السمة التي طالما صاحبت ما اصطلح على تسميته شعر المقاومة. وعلى رغم ما يفقده هذا التمييز، في الاصطلاح السابق، من ركائز في التعريف، فإنه استمر معياراً، أو شكل الخلفية الفاعلة لقراءة أو فهم مثل هذه الشعرية. فالتعريف الذي يتضمنه "شعر المقاومة" يفترض، منطقياً، التمييزَ، بين شعر يقاوم وشعر آخر لا يحمل هذه السمة. لهذا عندما يكون هناك شعر هجائي فلأن هناك شعراً مدائحياً أو شعر حب، وسواهما. أما عندما نقول شعر مقاومة فعمّ نميزه؟ ما الذي نفهمه من هذا التعريف؟ وفي قبول غير فاحص للمصطلح بوسعنا أن نعتبر أن شعر المقاومة هو إشارة الى الكتابة الشعرية التي رافقت مرحلة الصراع العربي الاسرائيلي، حتى ان الشعر العربي الذي كتب إبان العصر الاستعماري لم يكن ليشمله هذا المصطلح، إذ كان يحمل أسماء مختلفة. اتفق كثير من قراء الأدب وصانعيه العرب، على أن موضوعة "المقاومة" الشعرية أفرزت كماً من الكتابات التي غطّت على جماليات الصوغ الشعري الذي يمتلك في الذائقة والنقد العربيين ركائز صارمة، حتى أن الاطلاع على الجرأة المبكّرة التي افتتحها نقّاد عرب في رؤيتهم للشعر، فنياً، تدفع الى الاستغراب كيف توسع المجال لكتابة تستمد مشروعها من خارج جمالياتها اللغوية، في العصر الراهن. وتكفي الاشارة الشهيرة للأصمعي في حديثه عن الشعر عندما اعتبره "شرّاً" فإذا دخل في "الخير" ضعفَ ولانَ، وتطبيق هذه النظرة على شعر حسان بن ثابت في مرحلتيه الجاهلية والاسلامية. وفي مطابقة عامة نجد أن خير الأصمعي هو "مقاومة" سواه، والشر الذي أشار اليه هو الشعرية التي لا ينبغي أن تتكئ إلا على معايير من داخل اللغة. وعلى رغم ما أصاب حركة الثقافة الشعرية في الأدب من تطور كبير تجاوز كثيراً من هذه الأوليات، إلا ان تمييز الأصمعي ما زال المعيار الأساس في أي كتابة وفن. لكننا أشرنا إليها قصد التذكير بهذا "الانقلاب" المعياري الذي جسده شعر المقاومة، وكيف أصبح الأصمعي، مثلاً، رائد حداثة، قياساً بمعايير كتلك التي استمدت شرعيتها من "خيرها". الشاعر سميح القاسم اقترح، في كتابه الأخير، مجموعة من الحلول. في الأسطورة واليومي. الأسطورة تحقق الرمز للانفلات من المباشرة، واليومي لخلق طابع من الحميمية والعصرية. بين الأسطورة والتفاصيل يتقدم "ملك أتلانتس". فإلى أي حد استطاع القاسم أن يعيد الشعر الى "شرِّ" الأصمعي ؟! الناقد عبدالكريم حسن قدّم للكتاب المشار إليه في دراسة نقدية ووضع يده، للفور، على التباس المباشرة، في مثل شعرية كهذه، إذ يقول: "المباشرة هي السمة التي طالما شكا منها شعر المقاومة". وليميز مباشرة القاسم عن مباشرة سواه يقول: "السيطرة على المباشرة، لا اختفاؤها، هي سمة التجربة الجديدة". لكن دراسة حسن اشتملت على نوع من التبريرية المسبقة لما يمكن أن يواجهه شعر القاسم من أسئلة فيقول في استباق بادٍ: "وحتى عندما ينحسر الرمز وتطغى المباشرة فإن النص يقترب من القارئ من دون أن يتخلى عن فنيته"، على أرضية أن العالم "الذي يستقي منه سميح صوره ودلالالته عالمٌ يألفه الفلسطيني المقهور ويتعايش معه العربي المقهور وينضح منه الانسان المقهور"، ما يعيدنا، مباشرة، الى أزمة شعر المقاومة التي يكرسها الناقد من حيث انه يبررها، ويجسد لها المشروعية من حيث تحويلها مرجعية للقراءة. حتى أن الناقد يؤكد المرجعية تلك في إشارته: "لو لم أكن أعرف مسبقاً أن هذه القصيدة لشاعر فلسطيني وأن هذا الشاعر هو شاعر المقاومة الفلسطينية، لما كنت قرأت في "ملك أتلانتس" ياسر عرفات، وإنما كنت قرأت أي قائد آخر لأي ثورة أخرى". أي أن الناقد يثبّت ما ينفي، ويكرّس ما سعى الى نقده، سواء في المباشرة أو غيرها. ويلاحظ القارئ المدى المنظور لمشكلة شعر المقاومة عندما يكون الرمز السياسي هو الحمولة الدلالية الممكنة في إطار من الحدث اليومي العام. إذاً، الأسطورة والتفاصيل هما الاقتراحان اللذان يسهلان للقاسم الخروج من سمة المباشرة في الشعر المقاوم، أو هما يحضران ليغيّبا تلك الصورة الدارجة. لكن الى أي درجة نجح هذا الاقتراح في تغييب الصورة؟ ربما، في "ملك أتلانتس"، لم يعد الموضوع المحوري هو "القضية"، بل من الواضح أنها لم تكن قلب العالم الذي يرمي فيه الشعراء أجسادهم. لكن القضية، لدى "ملك أتلانتس"، تحولت نظاماً شعرياً، لئلا نقول نظام تفكير. فعوضاً عن الدعوة الكثيرة الحضور في شعر المقاومة، الى المقاومة، نجد "القضية" تتخذ شكلاً تطهيرياً: "وعادوا من القادسية/ ومن عين جالوت عادوا/ لداحسهم ولغبرائهم والحياض الشقية/ وعادوا من الكيمياء/ الى كربلاء/ ومن ثورة الأنبياء/ الى الجاهلية/ وعاقب رب الحياة سلالتهم بالهلاك/ أما من ملاك؟ أما من ملاك؟/ أما من رسالة؟/ تعيد بهاء السلالة". الدور الرسولي الذي تمارسه الدعوة الى "تنقية" السلالة من شوائب داحس والغبراء، يفسّر ذلك التعديل الظاهري الذي أجراه القاسم على مفهوم المباشرة في "القضية". فعوضاً عن تجييش المشاعر، كما عرف في المقاومة الشعرية، يمارس القاسم تطهيراً متخيلاً لقوم لم يستجيبوا لدعوته، حتى انه يعتبر ان الله عاقب سلالتهم بالهلاك. أي أن القوم بعد أن هلكوا فأي معنى، بعد، للمقاومة؟ هل يقاوم الموتى؟ والجواب بالنفي، ولهذا ضرورة التحريف بالانتقال من المباشرة الرأسية الى التبكيت والتطهير ودور الداعية الذي اتخذه المتكلم في القصيدة. أي أن القضية ما زالت هي القضية لكن في تعديل طفيف من التجييش الى التطهير والتبكيت. لا يتوقف الشاعر عن الطهرانية المتخيلة التي يفهم بها القوم الذين هلكوا. إذ ليست الدعوة الى نقاء السلالة خاتمة المطاف، بل نقاء الطبيعة والعالم المحيط: "متى يصبح الورد ورداً ويعفي البلاستيك من مهنة العطر؟/ كيف يعود ابن آدم يضحك من قلبه؟/ وتشيح العيون عن الأدمع الاصطناعية؟/ الأوجه المستعارة ما شأنها والحياة؟". حتى أن الدعوة تلك تتخذ شكلاً معارضاً للتراكم الفلسفي الذي اعتبره الشاعر نقيضاً ل"البساطة": "ومن يعتق الحلم من صيغة التكنولوجيا ويعطي البساطة/ معنى بسيطاً بلا حرفة الغوص في الفلسفات؟". حتى ان التطهيرية يتم تفعيلها باتجاه أن تتكثف، هي، في "ملك اتلانتس"، وسلب نتائجها عن الآخرين، أي آخرين، ربما الذين هلكوا وعاقبهم ربهم، كما أخبرنا المتكلم الشاعر، فيقول القاسم للملك أن يغفر لأولئك الحاملين كل الصفات المناقضة للتطهر والنقاء، وهو سر دور الداعية الذي اتخذه الشاعر في رحلته التطهيرية الحادة: "فاغفر لمن غدروا ومن كفروا ومن باعوا ومن ضاعوا ومن كذبوا ومن هربوا ومن بطروا ومن مرقوا ومن خرجوا عليك بسرّهم وعلى المنابر بايعوك/ قدر عليك تواطؤ الأزلام والأصنام حول مقامك النائي. قدر عليك يا ملك الزمان". هنا يلمح القارئ تلك النزعة التطهيرية التي يمارسها الداعية، من خلال تغيير طفيف في مباشرة المقاومة الشعرية، لتحويلها من نظام تجييش الى نظام تبكيت، على خلفية أن "ملك أتلانتس" يحمل كل صفات النقاء والطهر، يواجهه آخرون يحملون الصفات المعاكسة، فهم يكذبون وهو صادق، هم يغدرون وهو أمين، وهم يبيعون وهو لا يتنازل. والتبكيت ليس من الضرورة أن يعبّر عنه من خلال الاحساس الفرويدي بالاثم، بل من خلال اعتبار الجماعة البشرية ممثلة للخطيئة، يقابلها "ملك أتلانتس" في كل صفات النقاء. أي أن المباشرة استخدمت مستوى دلالياً مختلفاً ولكن وفق نظام التفكير نفسه: الدعوة والوصف والإخبار والنقل والحماسة. وبقيت المشكلة الشعرية على حالها، ولو انها خضعت لعملية تغيير ملامح لما لبثت القراءة الفاحصة أن كشفت وجه الشبه فيها. في مكان ثانٍ، نجد الانفعال الشعري على شكل حماسة ميّزت المقاومة الشعرية، الحماسة التي تتجلى في التجييش المعنوي وتحفيز الناس، عُرِفت، فنياً، من خلال التفعيلة حيث يأتي الكلام متتابعاً بعضه من بعض، في تدفق أو تسارع يوحي بأن العلاقة بين التمهيد والتنامي لا يفترضها العنصر الكامن في التمهيد، بل في حركة الكلمات وموسيقاها التي تطغى، في شعر تفعيلي كثير، على الصوغ، بل والدلالة والعلاقات اللغوية. في "ملك أتلانتس" نقرأ مرة أخرى تلك الحماسة الفنية، وهي المعتمدة على قوة الاحساس الداخلي بالموضوع لتغلب عليه العاطفة والاسهاب التعبيري. ففي قصيدة "أشد من الماء حزناً"، نجد العبارة التي سميت بها القصيدة ذات أساس مفتاحي دال. وهو ما يسمى العبارة المفتاحية، تتكرر، مرات عدة، في القصيدة نوعاً من إعادة البناء والبدء والانطلاق. وهو أمر معروف في الشعر، بل تكاد تكون العبارة المفتاحية من علامات التماسك والمنطقية في سيرورة النص. لكنها - أي العبارة المفتاحية - ينبغي أن تكون ذات أساس دلالي واضح. فهي استهلالية دائمة ينبني التمهيد، مجدداً، كلما عاد اليها. من أجل هذا ضرورة الأساس الفني المتماسك للعبارة المفتاحية، فهي البانية والحاملة لكل ما بعدها. هذا سر خطورتها وسر دورها الكبير في النص. وإذا قلنا "أشد من الماء حزناً" فأي بناء دلالي يمكن أن يستمده النص من حضورها كافتتاح متكرر؟ لا تحتمل العبارة المفتاحية أي لبس، فهي الأساس المعقول الذي يتتابع عنه التنامي اللامعقول. وجملة أشد من الماء حزناً ذات أساس دلالي مخلخل، على اعتبار غياب المقدرة التوليدية للمعنى فيها. ففي النهاية: ماذا تعني عبارة أشد من الماء حزناً؟ واللافت في مقدمة عبدالكريم حسن انه أشار الى هذه الجملة في دراسته، لكنه أيضاً يخضعها للتبرير: "أشد من الماء حزناً... تحس بها من دون أن تحس بالحاجة الى أن تعرف علام يكون الماء حزيناً؟ وكيف؟". المهم في إشارة الناقد أنه التقط الأساس المخلخل للعبارة المفتاحية تلك، ولو أنه تركها تمارس أثرها مع العلم "علام يكون الماء حزيناً وكيف؟". الحماسة والانفعال بالموضوع هما الأساس التكويني لعبارة افتتاحية كتلك، وهما من سمات التعبير المقاوم، الشعري وسواه. وهذا ما يمكن الحصول عليه كثيراً في اقتراح القاسم الشعري، والقائم على الأسطورة والتفاصيل في "ملك أتلانتس". لكن إلحاق الأسطورة بالتبشير والدعوية، على خلفية من التبكيت والتطهير، خصوصاً في إطار من التفعيلة المعروفة بتأثيرها على الصوغ الشعري، يجعل من الاقتراح استتباعاً، والتعديل نكوصاً، والرمز تعبيراً، أي أن حدود التغيير تبقى في إطار من التكرار لنظام التفكير الشعري الذي كان عماده وما زال، في المقاومة الشعرية، الاخبار والنقل والدعوية، وكذلك الانتقال المأسوي، كما ظهر في "ملك أتلانتس": من التجييش الى التبكيت.