كل بقرة في الدول الغنية الولاياتالمتحدة، دول اوروبا الغربية، كندا، اليابان،...، أي "العالم الصناعي المتقدم" تحظى بدعم من السياسات الحمائية المدمرة لتجارة العالم الثالث يعادل دولارين في اليوم، بينما لا يحظى 1.3 بليون انسان في العالم الثالث بمثل ذينك الدولارين في اليوم. الدعم الغربي للمزارعين والقطاع الزراعي، سواء المباشر او عن طريق التعرفات الجمركية المرتفعة المضادة للواردات من العالم الثالث، والمخالف لقواعد منظمة التجارة العالمية يراوح بين 300 بليون دولار و 450 بليون دولار في العام، بحسب ما يدخل او يستثنى من ذلك الرقم من انواع دعم غير مباشرة. هذا الدعم يحرم اهم المنتجات التي تنتجها الدول النامية والفقيرة من امكان دخول اسواق الدول الغنية، وبالتالي يحرم فقراء العالم من دخل سنوي يصل الى 150 بليون دولار. في مقابل هذه الحمائية الشرسة، تستبيح المنتجات الغربية اسواق الدول النامية وتدخلها بشروط تجارية مجحفة قضت وتقضي عملياً على كثير من الصناعات والموارد الزراعية فيها. مشكلة الدعم الغربي لقطاع الزراعة ليست مشكلة فرعية، بل مركزية في طبيعة العلاقة بين الشمال والجنوب، لناحية تكريس فقر الجنوب تأميناً لرفاهية الشمال. فهي تمثل من جهة الاعاقة الاكبر لكل مشروع تحرير التجارة في العالم، لكون قطاع الزراعة ومنتجاته وتفرعاته يمثل القطاع الانتاجي الاكبر في الدول الفقيرة. هذه المشكلة ليست جديدة، ولم تولد في كانكون، بل رافقت مشروع التجارة الحرة الحالي منذ تحولت منظومة "الغات" الى "منظمة التجارة العالمية" بعد جولة اوروغواي عام 1993/1994، وتمثل جوهر الخلاف الحاد داخل تلك المنظمة بين مجموعة الدول النامية والدول المتقدمة. وهي العقبة الكاداء في وجه أي احتمال لتطور تجارة الدول النامية على مستوى عالمي. اما من جهة اخرى، قيمية معيارية، ذات صلة بنمط العلاقات الدولية والمسعى الانساني وتقليل الفجوة المرعبة بين الجنوب والشمال، فإنها تعكس وحشية فكرة المصلحة القومية ونفاق الشعارات الغربية ازاء جدية الجهود الشعاراتية في معالجة تلك الفجوة. الدول الفقيرة صبرت على غطرسة الدول الغنية ما يقارب عشر سنوات، وآن الأوان لكلمة "لا" كبيرة. الصين قوّت ظهر موقف الدول النامية، وصار بإمكان تلك ال "لا" ان تنتصب بقوة في وجه المفاوضين الغربيين الذين تعودوا على افتراس نظرائهم الجنوبيين بسهولة في كل جولة مفاوضات. الآن دخلت كانكون تاريخ المفاوضات التجارية المعولمة بين الشمال والجنوب كنقطة مفصلية: التجارة الحرة قبل كانكون، والتجارة الحرة بعد كانكون. ستتضرر الدول النامية من فشل كانكون، ليس هناك إلا عنوان واحد يمكن توجيه اللوم اليه ازاء فشلها الا وهو الدول الغنية ولااخلاقيتها الفظيعة تجاه بناء عالم اكثر عدلاً واقل فقراً. كانكون هي استكمال لجولة الدوحة التي عقدت سنة 2000، والتي لم توفر سوى تقدم طفيف على صعيد قضايا مركزية عدة تقع في قلب مسألة تحرير التجارة العالمية وانفتاح العالم على بعضه بعضاً. على اجندة كانكون كانت هناك خمس قضايا كبرى للنقاش: الدعم الحكومي للقطاع الزراعي في الغرب، التعرفات الجمركية على المنتجات الصناعية، اتفاقية قواعد الاستثمار والمنافسة، الدخول الى الاسواق، ومساعدة الدول الاكثر فقراً. كل ما كان يهم المفاوضين الغربيين هو التوصل الى اتفاقية قواعد الاستثمار والمنافسة، اذ تضغط الولاياتالمتحدة والاتحاد الاوروبي باتجاه التوقيع عليها من جانب الدول النامية. هذه الاتفاقية تعني تكبيل هذه الدول وتوسيع انظمة حقوق الملكية، وتطال مجالات حساسة جداً مثل صناعة الادوية الرخيصة للامراض الخطيرة في البلدان النامية الامر الخلافي الذي تعتبره الدول الغنية خرقاً لحقوق الملكية وتشترط على الدول الفقير شراء الأدوية الباهظة الثمن من مصدرها الغربي. مفاوضو الدول النامية ارداوا التركيز على القضايا الاخرى الاكثر الحاحاً على مجتمعاتهم التي تشكل غالبية سكان الارض، وفي مقدمها تفكيك انظمة الحماية الغربية للقطاع الزراعي، وادخال منتوجات الدول الفقيرة الى اسواق الدول الغنية، وحماية الاسواق النامية من طوفان المنتوجات الغربية. ليس هناك ابتهاج بفشل كانكون، ويجب ان لا يكون. فالمتضرر الاول هو الدول الفقيرة واقتصاداتها الهشة. وبديل كانكون او التجارة الحرة بشكل عام هو مزيد من تهميش الدول الفقيرة والاضرار بمصالحها. لكن من المؤمل ان يقود هذا الفشل الى تصحيح مسار التجارة العالمية ومستقبلها بشكل عام، ليصبح اكثر توازناً وعدلاً ومحققاً لمصالح الاطراف كلها، وليس بعضها فحسب. ستتلكأ انماط التجارة، وتتأثر قطاعات مختلفة بسبب فشل كانكون، وتتأخر مفاوضات على صعد عدة، لكن على المدى المتوسط والبعيد ستكون العودة اقوى واكثر رشداً خصوصاً مع التشكيل الاستراتيجي الجديد في التوزيعة التفاوضية. ففي السابق كانت الدول الغنية تنجح في فرض اجندتها على الدول الفقيرة. لكن هذه المرة، في كانكون، لحسن الحظ، ارتفع صوت الدول الفقيرة والنامية عبر توحيد لموقف نادر الحدوث تمثل في تشكيل مجموعة الدول ال 21 G21، وهي الدول النامية الاكبر والاهم في العالم، بقيادة الصينوالهند والبرازيل. وتفاجأت الدول الغنية، للمرة الأولى، بوجود موقف تفاوضي موحد لهذه الدول الفقيرة يتصف بالصلابة والوحدة. في جولة سياتل 1999 كان صوت المنظمات غير الحكومية ومعارضي العولمة، العقلانيين والمتطرفين، هو الاعلى وهو الذي افشل تلك الجولة، التي ارادت آنذاك تمرير اتفاقات عالمية على حساب مجموعة الدول الفقيرة. ذهبت جهود الهند والبرازيل آنذاك هباء، كما في كل مرة، وهما تحاولان تجميع موقف موحد للدول النامية. والبعض يعتبر ان الدول العربية افشلت قيام مثل هذا الموقف الموحد بسبب ترددها من ناحية، وبسبب عدم استخدامها النفط كسلعة تنطبق عليها قواعد المنظمة العالمية وبالتالي يمكن استخدامها كورقة قوية في المفاوضات مع الدول الغنية. في كانكون اختلف الوضع اذ دخلت الصين على الخط بعدما اصبحت عضواً كامل العضوية في المنظمة، وبها استجمعت الدول والحكومات الشجاعة الكافية لتقول لا لاستمرار استهتار الدول الغنية بمصالح بلايين البشر في طول الارض وعرضها. من اليوم فصاعداً يأمل كثيرون ان لا يكون فقراء العالم لقمة سائغة لاغنيائه حين تصاغ الاتفاقات والمسارات التي تؤثر مباشرة في مستقبل هؤلاء الفقراء ومجتمعاتهم ودولهم. المشهد العالمي الاقتصادي والتجاري الخلافي والمتفجر وعلاقته باستمرار معدلات الفقر العالمي اقل تعقيداً مما قد يتوهم كثيرون. فالمعالم الاساسية لهذا المشهد، والاختلالات الكبرى فيه بارزة ومعالجتها لا تحتاج الى معجزات. ما تحتاج اليه هو جرعات اخلاقية تنهي العنصرية التي يتصف بها النظام التجاري العالمي الراهن. في هذا المشهد نرى ان اقل من خمس البشرية يتنعم بما يزيد على اربع اخماس ثرواتها، وان هذا التفاوت في ازدياد وليس في تناقص. وفيه نرى ان مجرى دوران الموارد والاموال يبدأ من الجنوب الفقير الى الشمال الغني، إن لتسديد الديون الفلكية، او بكلمة ادق لخدمة فوائدها فقط، او لاستيراد الاساسيات. وفيه نرى ايضاً ان اكثر من بليون وثلاثمئة انسان على وجه الارض يعيشون على اقل من دولار واحد في اليوم. وان استهلاك الفرد الاميركي يتجاوز ثمانية وثمانين ضعفاً من استهلاك الفرد البنغالي. معالجة هذه الاختلالات لا تحتاج الى سحر خارج عن قدرة البشر. ونعم، ليس هناك الا حل واحد يمكن ان يعدل من مسار البشرية، ويقلل من فقرها وكوارثها وحروبها ايضاً، وهو تغيير معالم هذا المشهد العالمي، وهو امر ليس بالمحال. يجب اولاً وقف نزيف الاموال والثروات القائم حالياً في الدول الفقيرة، والمتوجه للدول الغنية، عبر الغاء الديون التي يستحيل ان تسدد ولو بعد مئات السنين. ومن المنطقي، ثانياً، ان يضع العالم خطة، ولو على مدار خمسين سنة قادمة، يمكن من خلالها نصف سكان البشرية على الاقل من تملك اربعة اخماس ثرواتها، خلافاً لما هو قائم، و"يرفع" بها معدل استهلاك الفرد البنغالي "ليصل" الى واحد من اربعين بدل واحد من ثمانية وثمانين من استهلاك الفرد الاميركي. وطالما استمر هذا التفاوت المريع في الدخول وتوزيع الثروات في العالم فإن الانسانية لن تتقدم اية خطوة حقيقية باتجاه مستقبل اكثر سلاماً واقل دموية وموتاً. ليس مطلوباً ان تتحول التجارة الى عمل خيري، اذ ستفشل وتُفشل العالم معها. وليس مطلوباً اسقاط منظمة التجارة العالمية وفكرة تحرير التجارة والانفتاح الاقتصادي بين امم الارض، فهي الافكار والتوجهات الوحيدة القابلة لتوفير فرص للتخلص من التباين الفاضح في توزيع ثروات الارض على شعوبها. وعلينا ان نقرّ هنا بأن منظمة التجارة العالمية، على كل مثالبها، تظل المؤسسة الاكثر ديموقراطية ضمن المؤسسات المالية العالمية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. عملياً، كل ما طالبت به مجموعة ال21، وهو تكرار لمطالب دائمة منذ جولة اوروغواي ومراكش 1993، هو انهاء الحظر على دخول منتجات وصادرات الدول النامية وخصوصاً المنتجات الزراعية الى اسواق الدول الغنية، وتفكيك انظمة الدعم الخيالي الذي تقدمه الدول الغنية الى القطاع الزراعي والمزارعين فيها مخالفة بذلك قوانين منظمة التجارة العالمية، وبحيث تجعل من المنتجات الزراعية الغربية اقل سعراً واكثر منافسة في العالم. وهناك ايضاً مطلب حماية الصناعات الناشئة في الدول النامية من منافسة نظيراتها الاكثر جودة والارخص سعراً القادمة من الشركات الغربية، وهي الحماية نفسها التي تمتعت بها الصناعات الغربية عندما كانت ضعيفة وفي بدايات تكونها. هذه مطالب ممكن تحقيقها، وليست مستحيلة. بمعنى آخر: المطلوب "تجريع" الغرب الاقتصادي جرعة انسانية تلجم بعضاً من وحشية رأس المال الذي يريد ان يقصف امكانيات الحاضر والمستقبل في الدول النامية، ويحولها الى ارصدة خاصة به في مصارف خاصة به. * كاتب وباحث فلسطيني، كامبردج.