تبقى دول أوروبا وشمال أميركا حلم آلاف الشبان الجزائريين على اختلاف مستوياتهم التعليمية والاجتماعية... وإذا كان أبناء الأغنياء وكبار المسؤولين في الدولة يتمكنون من دون عناء أو تعب من تحقيق أحلامهم بالاستقرار في كبريات العواصم الأوروبية، فإن أبناء الفقراء والطبقات الدنيا تواجههم جبال من القوانين والعراقيل البيروقراطية التي تقيد تحركاتهم نحو الخارج وتمنعهم من ملامسة أرض "الجنة الموعودة"، الأمر الذي جعل غالبيتهم يتحولون إلى "حراقة" - يغامرون بحياتهم في رحلات الموت تلك! طوال عقد من الزمن تواصلت رحلات "الحراقة" من دون انقطاع... وعلى رغم أن السلطات الجزائرية تحرص دائماً على الحد من انتشار هذه الظاهرة، تفادياً لانزعاج جيرانها الأوروبيين، غير أن الطرق الملتوية التي يسلكها هؤلاء بمساعدة شبكات متخصصة في الهجرة غير الشرعية، جعلت مهمة شرطة الحدود صعبة إن لم تكن مستحيلة، بدليل الانتشار الواسع لهذه الظاهرة بين الشبان الذين أصبحوا يلخصون أحلامهم في كلمة واحدة هي "الهدة" - بمعنى الهروب إلى خارج البلاد -. المرحلة الأولى من مغامرة "الحراقة" تبدأ من الأحياء الشعبية الى المدن الساحلية الكبرى، مثل أحياء "السكوار" و"حسين داي" و"باب الوادي" في العاصمة، أو حي "قمبيطة" في وهران، حيث يتفاوض شبان "الحراقة" مع أعوان شبكات التهريب على قيمة السفر، كما يتفقون على أدق تفاصيله، وتسمى رحلات "الحراقة" على متن الباخرة ب"الكالة"... والمثير في هذه الرحلات أن محطتها النهائية تكون دائماً في عرض البحر... ففي أحسن الحالات يقوم الشاب المسافر قبل وصول الباخرة إلى الميناء بإلقاء نفسه في المياه ليواصل رحلته عبر السباحة. وفي أسوأ الحالات لا يكون لديه الاختيار بحيث ان مصيره يكون الغرق، لتنضم جثته إلى جثث آلاف الشبان الحالمين التي تنام في قاع البحر الأبيض المتوسط. يقول رفيق عواج تاجر ان كل الشبان الجزائريين يحلمون بالهجرة نحو الشمال بحثاً عن حياة أفضل، وأكد ل"الحياة" أنه يسعى بكل الطرق إلى الاستقرار نهائياً في بريطانيا، لأنها تضمن الأمن لمواطنيها، فضلاً عن أنها تحرص على توفير كل الظروف الملائمة لعمالها، وتضمن لهم جميع حقوقهم مهما كانت جنسياتهم، على عكس الدول المتخلفة التي تتعامل مع عمالها من دون أدنى احترام. وأضاف: "في الحقيقة أنا أتأسف لرؤية شبان في مقتبل العمر يغامرون بحياتهم من أجل العيش في أوروبا، والمؤسف أكثر هو أن غالبية هؤلاء "الحراقة" تنتهي حياتهم قبل أن تنتهي الرحلة، وأنا أعرف الكثير من أصدقائي - رحمهم الله - لا تزال جثثهم حتى اليوم في عرض البحر". وبحسرة شديدة يروي أحد الشبان العاطلين من العمل رفض الكشف عن اسمه قصة مؤلمة من بين آلاف القصص التي كان "الحراقة" أبطالها، فيقول: "في نهاية العام الماضي، قرر أحد أصدقائي الهجرة إلى فرنسا بعد أن تمكن من جمع 1500 يورو وهي القيمة الضرورية في مقابل السفر السري. اتصل بشخص متخصص في تهريب الشبان نحو ميناء مرسيليا الفرنسي، فاتفق الجانبان على أدق خطوات تلك الخدمة غير الشرعية. وفي يوم السفر احترم الشاب جميع النصائح التي قدمها له ذلك الشخص، فتمكن من التسلل داخل الباخرة بمساعدة أحد أفراد طاقمها... وعلى رغم أن شرطة الحدود لم تكتشف أمره غير أن الظروف الصعبة التي عاشها داخل مخبأ لا يتعدى عرضه نصف المتر جعلته يلفظ أنفاسه، حتى قبل أن تحط أقدامه في بلاد أحلامه". وبعيداً من القصص المؤلمة... ينجح بعض المحظوظين في تحقيق أحلامهم، ويتمكنون من الوصول بسلام إلى البلد الذي اختاروا.. وقد تكون هذه المغامرات الناجحة هي السبب في تحمس الكثير من الشبان لفكرة الهجرة، بخاصة نحو فرنسا التي تضم وحدها نحو 90 في المئة من المهاجرين الجزائريين، بينهم نحو 20 ألف شخص لا يملكون الوثائق الرسمية. لم يخف - ياسين بن مبروك - المهندس في الإعلام الآلي رغبته الكبيرة في الهجرة إلى "عاصمة الجن والملائكة" باريس، وقال بتفاؤل كبير: "لقد قمت بجميع الإجراءات لأسافر قبل حلول عام 2004، لكنني حالياً أنتظر الرد الذي ستقدمه لي السفارة الفرنسية. وعلى رغم أن طلبات الهجرة الى هذا البلد كثيرة وتعد بالملايين، لكنني متأكد من أنني سأتلقى الرد الإيجابي، بخاصة أنني احمل ديبلوماً جامعياً وأملك رصيداً لا بأس به في حسابي المصرفي بالعملة الصعبة"... وعلى رغم أن ياسين اعترف بأن الجزائر قدمت له ولجميع أبناء جيله الكثير من الخدمات، مثل ضمان الدراسة المجانية في مختلف مراحل التعليم، غير أنه يقول بحسرة: "لا أفهم لماذا تضمن الدولة الدراسة المجانية وتتحمل جميع أعباء التعليم طوال سنوات عدة، لكنها في المقابل لا تهتم بحاملي الشهادات العليا بعد تخرجهم بحيث انها لا تضمن لهم مناصب تليق بالمستوى الدراسي الذي وصلوا إليه". ويتفق معظم المتخصصين في علم الاجتماع على أن الأسباب التي تقف وراء ارتفاع عدد الجزائريين المهاجرين أو الراغبين في الهجرة إلى الشمال تتمثل في تدني مستوى العيش وارتفاع تكاليف الحياة، ونقص فرص العمل. ويرى عبدالكريم سليماني أستاذ علم الاجتماع أن من الطبيعي جداً أن يحلم أي شاب جزائري بالاستقرار في إحدى دول الشمال، لا سيما بعد الانفتاح الاعلامي الذي شهدته البلاد بفضل انتشار الهوائيات، ما سمح للشباب باكتشاف حياة أخرى في الضفة الشمالية للبحر المتوسط، وأوضح ان تدني مستوى عيش الفرد، وارتفاع مستوى البطالة والفقر في المجتمع الجزائري، دفعا الشباب إلى الوقوع في فخ اليأس، واوجدا الرغبة في التغيير نحو الأفضل مهما كانت الطرق". وفي هذا السياق ترى خديجة بكوش خريجة معهد علم النفس في بوزريعة أن صعوبة الهجرة إلى الدول الغربية جعلت الكثير من الشبان يجعلون منها هدفاً في حياتهم أو حلماً يسعون الى تحقيقه، من دون أن يخططوا لمرحلة ما بعد السفر... وتقول: "تسببت الإجراءات الجديدة التي قامت بها مختلف الدول الأوروبية في السنوات العشر الماضية للحد من انتشار ظاهرة الهجرة غير الشرعية، في خلق شعور بالخطر لدى الشبان الذين أحسوا كأنهم في سجن، لا سيما خلال سنوات الإرهاب، لذلك نمت لديهم الرغبة في الهجرة إلى الشمال بأي ثمن أو طريقة، بما فيها الهجرة غير الشرعية والمخاطرة بحياتهم في بواخر الموت التي عادة ما تكون نهاية الرحلة على متنها مأسوية".