"يهاجمني المحرر في مقال أليم / جاء عن رقص السماح / كأن الكاتب المغرور أضحى / بهذا القول من أهل الصلاح / ليظهرني بقومي في ضلال / ويدعوهم الى سبل الفلاح / ولم يدر المغفل أن قومي / بلوني في الغدو وفي الرواح / ومن ذا قام من خمسين عاماً / يجاهد بالمقال وبالسلاح / وإني اليوم إن أدعو لرقص / فإني كم دعوت للكفاح". ربما تختصر هذه الأبيات مساراً كاملاً لحياة قائلها، وتظهر الكثير من جوانبه، واهتماماته في الشعر والسياسة والكتابة والموسيقى وكذلك في النضال الوطني... قالها فخري البارودي رداً على صحافي انتقل التفاته للموسيقى ورقص السماح "بعد النضال والكفاح". وأعاد قراءتها اليوم نبيل المالح في فيلمه التسجيلي الجديد "مخرج يبحث عن شيخ الشباب" من انتاج التلفزيون السوري، والذي نال الجائزة الذهبية للإبداع في مهرجان القاهرة الأخير للاذاعة والتلفزيون. "شيخ الشباب"، شخصية دمشقية شبهها المخرج ب"الكريستال" متعدد الوجوه. فما هي وجوه فخري البارودي، وهل استكملت في الفيلم؟ كيف رآها المخرج وكيف عرضها؟ وما الذي أراده من عرضها...؟ محاولة بحث فكرة البحث وإدخال كلمة "مخرج" على اسم الفيلم، تجعل من نبيل المالح جزءاً من الفيلم، يلعب دور الراوي، ويحضر كشخصية أساسية، بكاميراه وصوته ومعلوماته. أما بقية الشخصيات ابنة اخته: حزام، وجاره: رجا شربجي، ونهال صدقي التي كتبت أطروحتها عن فخري البارودي.... فهي تشكل وجهات نظر مختلفة، عاطفية من خلال ابنة الأخت، وعلمية من خلال نهال صدقي، أما الجار فهو شاهد ومراقب خارجي... ويجمعهم حبهم وتقديرهم لشخصية البارودي التي تشكل دافعاً للبحث والرواية... حاول المخرج عرض أهم جوانب حياة البارودي. ومن الواضح وجود انتقاء لبعض المعلومات وغياب أخرى... لكن ما قُدّم في الفيلم كافٍ ليستوضح المتلقي معظم جوانب حياة البارودي وانجازاته، خصوصاً ان الفيلم لم يقتصر على عرض الشخصية، بل على عرض الظروف الاجتماعية والسياسية والثقافية في تلك الفترة، والمتغيرات السريعة وانعكاسها على الشخصية لمعرفة أبعاد أفعالها... والأهم هو كيفية تناولها وعدم التركيز فقط على الجانب الثوري والقتالي فيها، فقد اعتدنا تسليط الضوء على الثوار الدمشقيين والاهتمام بالجانب العسكري أكثر من السياسي، على رغم أن أثرهم في الأخير كان أكبر ودورهم أهم. إذ تعددت آنذاك مكاتب الكتلة الوطنية، وفتحت الكثير من الجرائد التي استقطبت أقلاماً مؤثرة أدت الى إغلاق جريدتهم أحياناً أو اعتقال الصحافي أو المحلل السياسي... فخري البارودي قاتل وأسس قوات "القمصان الحديدية"، لكنه في المقابل وضع دستوراً للبلاد ألغاه الفرنسيون، كما أسس جريدة "حط بالخرج" وتنبأ بكارثة فلسطين... لكن المخرج لم يكتف بعرض هذه الجوانب، بل التفت الى شعره وترجماته ودراساته الموسيقية، وإنشائه للنادي الموسيقي الشرقي... لم يتم سابقاً تناول هذه الشخصيات من هذا المنظور، إذ تم تجاهل أن الثورة هي جزء من الثقافة، كما أن الموسيقى هي خلاصة تجربة وزخم سياسي واجتماعي وثقافي ونضالي... شخصية غائبة تكمن صعوبة تناول هذه الشخصيات، في غيابها عن الفيلم ما يقفده أحياناً الإيقاع النابض للحياة، مولداً الملل لدى الجمهور. لكن المخرج هنا عمل على رفع الحال الانفعالية لجذب المتلقي وكسب تعاطفه، لذا بدأ الفيلم بقراءة رسالة كتبها أحمد الصافي النجفي ينعي بها فخري البارودي قائلاً: "مات وجه دمشق... مات فخر دمشق... مات فخري البارودي". هذه الشخصية تُقدم اليوم لجمهور معظمه لا يعرف عنها سوى معلومات عامة قد تقتصر على الاسم فقط، لذا كان لا بد من أن يجمع الفيلم أهم المعلومات والوثائق والصور التي تثبت صحة ما يُقال... هذه الصور كانت ركيزة أساسية اعتمد المخرج عليها في فيلمه، فقسمت الى منظومتين زمنيتين: الماضي بصورة الطاغية أبيض وأسود والحاضر الملون الذي التقطه المخرج بكاميراه... وجود زمنين سمح للمخرج باللعب بينهما كراوٍ، بين الماضي بإيقاعه السريع المتغير والمفعهم بالحياة، لكنه اليوم عبارة عن صورة جامدة فقط، وبين الحاضر البارد الشبيه ببيت فخري البارودي المخرّب الذي يحمل اليوم ذاكرة متداعية مهجورة، ولا يوليه أحد أي اهتمام، بعدما كان "بيت الأمة"... تجتمع المنظومتان مع ظهور الشخصيات وحديثها عن البارودي، فالمخرج يصورها بكاميراه ويلتقط بريق الماضي في عينيها، بينما يضع خلفها صورة بالأبيض والأسود لرقص السماح مثلاً... كما يفاجئنا في آخر الفيلم تقريباً، بجعل صورة من الماضي تنطق وتضج بالحياة من خلال لقاء مسجل مأخوذ من أرشيف التلفزيون، أحيا به فخري البارودي، على الأقل، في أذهاننا. من الموت الى الحياة وربما كانت فكرة "الإحياء" هي هدف المخرج في الفيلم، لذا بدأه بجنازة البارودي وأنهاه بإحيائه من جديد في ذلك اللقاء المسجّل. ولم يأت عبثاً تركيزه على المكان كتعويض عن غياب الشخصية، مظهراً أهمية البيوت الدمشقية المفعمة بالحياة والمال، وإن هجرت، من خلال الشجر الموجود في فسحتها، وزخارفها ودفئها الداخلي. ومحاولة إحياء المكان كانت واضحة منذ البداية سواء بالموسيقى المسجلة للبارودي أم بالأغاني التي صدحت في حلم المخرج المتجسد على الشاشة، بإحياء العازفين وعلى رأسهم البارودي، وكذلك راقصي السماح في باحة المنزل... إذاً يمكن اعتبار الحلم اسلوباً فنياً اعتمده المخرج لفكرة الإحياء، وجعل النور ينبثق من الظلمة لاستذكار مثل هذه الشخصية التي تحمل في تناولها أشكالاً فنية عدة، كما يمكن الاستعانة ببعض مفرداتها الفنية لخدمة الفيلم، كالموسيقى والرقص والأغاني التي ألفها فخري البارودي... وربما كانت موسيقى الفيلم أكثر عناصره تميزاً، إذ تحيي المتفرج وتخرجه من الإخبارية التي يمكن أن يقع فيها الفيلم التسجيلي مع غياب الشخصية. هي موسيقى دمشقية صادقة تحمل تاريخاً كاملاً، حاول المخرج الالتفات اليه ليقول شيئاً من دمشق، ويبحث في تفاصيلها وزخارفها وشخوصها... وربما كان نبيل المالح موفقاً في اختيار مضامين أفلامه المؤثرة في المتلقي، حتى وإن اختار شكلاً فنياً كلاسيكياً بعيداً من التجديد في عرضها، لكنه هذه المرة جعل من الشكل مكملاً للمضمون، وجهه لخدمة ما يريد قوله... وفي النهاية يلخص نبيل المالح وجهة نظره كمخرج قائلاً: "هذا الذي منح الوطن كل ما يملك ولم يأخذ من الوطن سوى شرف الانتماء إليه".