إحسان عباس واحد من جيل الأساتذة الكبار في الثقافة العربية في القرن العشرين. سيرته الشخصية تلخص سير الكثيرين من المثقفين العرب الذين تفتح وعيهم على الصدام بين العرب والغرب، ونشوء إسرائيل على أجساد الفلسطينيين وتاريخهم الشخصي والجماعي. فهو ولد في قرية عين غزال في فلسطين عام 1920، وقد كان في السنوات الأخيرة من تعليمه الجامعي عندما ضاعت فلسطين وتشرد هو وأهله في جهات الأرض الأربع، ما جعل النكبة تحفر عميقاً في نفسه ليقيم في ما بعد توازياً بين ضياع فلسطين وضياع الأندلس، ويشغف بالتعرف على تاريخ الأندلس الذي كان واحداً من الموضوعات الأثيرة إلى نفسه. كان إحسان عباس أهم متخصص في تاريخ الأندلس وآدابها، انطلاقاً من ذلك التوازي القائم بين ضياع فردوسه الشخصي المفقود وفردوس العرب والمسلمين المفقود قبل خمسمئة عام. وقد أنجز على مدار عمره عدداً من الكتب التي تؤرخ للأندلس ومنجزها الحضاري الكبير، وعلى رأسها كتابه الضخم "تاريخ الأدب الأندلسي" في جزءين، وحقق أهم المصادر التراثية التي تصور اللحظات الذهبية التي عاشها العرب في تلك البلاد البعيدة عن قلب عالمهم الآسيوي. ومن هنا فإن مكتبة التراث العربي، في عصوره المختلفة الأندلسية وغير الأندلسية، تحمل بصماته لكثرة ما حقق من كتب وما أنجز من مؤلفات تعيد إحياء تلك الأزمنة التي ذكرته وذكرتنا بأن العرب كانوا في مقدمة الحضارات العتيقة التي خلدت في كتاب التاريخ. لكن اهتمامه بالتراث، وعمله الأكاديمي الموصول على مدار عقود في أقسام اللغة العربية سواء في جامعة الخرطوم السودانية أو الجامعة الأميركية في بيروت أو الجامعة الأردنية، لم يصرفاه عن محاولة الوصول بالنقد العربي إلى زمانه الراهن، ملخصاً ومترجماً النظريات النقدية الغربية التي راجت في زمان تكونه ونضجه الثقافي. لم يتعصب إحسان عباس للتراث والمنجز البلاغي والنقدي في ميراث العرب فانطلق يؤصل للنقد في زمان العرب الحديث ويفتح أفق هذا النقد على اللحظة المعاصرة في العالم. لقد كتب مؤلفه حول "تاريخ النقد العربي حتى القرن الرابع الهجري"، الذي نعود إليه كلما أردنا التعرف على تطور الفكر النقدي عند العرب وعلى اللحظات المتوهجة في ذلك المنجز النقدي، لكنه ألف كتباً أخرى حول "فن الشعر" و"فن السيرة"، وهما كتابان ممتعان يستندان إلى النظرية الرومانسية ونسلها من النظريات الغربية حول مفهوم الشعر والكتابة بعامة. كما استمر يزاوج في كتاباته النقدية بين معرفته العميقة بالتراث وتبصره بالرؤى النقدية المعاصرة في الغرب، مستنداً في ذلك إلى متابعة نشطة لما يصدر في الغرب من كتب نقدية وما يجد من كشوفات نظرية، خصوصاً أن الناقد الكبير الراحل ترجم الكثير من الكتب النقدية عن الإنكليزية ومن بينها "الرؤية المسلحة" لستانلي هايمان بالاشتراك مع د. محمد يوسف نجم الذي وضع له عباس عنوان "النقد الأدبي ومدارسه الحديثة"، و"مقالة في الإنسان" لإيرنست كاسيرر عن فلسفة كانط، وكتاب ماثيسن عن إليوت، وكتاب كارلوس بيكر عن همنغواي "الكاتب فناناً". هذا الاتصال العميق بما يصدر من كتب نقدية في العالم الأنجلو ساكسوني هو الذي جعل إحسان عباس متفرداً من بين الكثيرين من أبناء جيله من النقاد العرب، فهو لم يكتف بالترجمة والتعريف بالمدارس النقدية الحديثة بل صدر في عدد من كتبه حول الشعر العربي المعاصر من رؤى تلك المدارس الجديدة في زمنه. ولعل كتابيه الأساسيين عن حركة الشعر العربي المعاصر، وهما الكتابان المرجعيان عن البياتي والسياب، هما ثمرة الاتصال بالنقد الغربي في فترة الخمسينات والستينات من القرن الماضي. دفعته حماسته للقصيدة العربية الجديدة في نهاية الأربعينات، أي في فترة مبكرة صاحبت انبثاق رؤية جديدة للشعر والثقافة العربيين بعد نكبة فلسطين، لكي يخص عبد الوهاب البياتي، الشاعر الشاب في تلك الفترة، بكتاب عنوانه عبد الوهاب البياتي والشعر العراقي الحديث" 1955، منظراً لتحولات القصيدة العربية الجديدة وأتواقها، وكيفية نظرها إلى وظيفتها ورؤيتها للعالم والمجتمع والذات الفردية، من خلال قراءة منجز البياتي الشعري في تلك الفترة المبكرة من اندفاعة القصيدة العربية الجديدة. وبرهن عباس، في كتابه ذاك، عن جرأة نقدية واستبصار عميق لما يمكن أن تصير إليه القصيدة العربية في مقبل الأيام. أما كتابه الآخر عن "بدر شاكر السياب" 1969 فكان بمثابة حفريات في تاريخ السياب الشخصي وسيرته الشعرية، إذ تتبع بدقة الأكاديمي الحصيف مراحل حياة السياب وانشباك الحياة اليومية للشاعر بما يكتبه من شعر. أنهى عباس علاقته بما أنجزته القصيدة الجديدة في كتابه "اتجاهات الشعر العربي المعاصر" الذي نشرته سلسلة عالم المعرفة الكويتية عام 1978 حيث قرأ آفاق تحول الشعر العربي في القرن العشرين من خلال النظر إلى مواقف الشعراء من الزمن والمدينة والتراث والحب والمجتمع. وبغض النظر عن العاصفة التي أثارها ذلك الكتاب في حينه، والانتقادات الكثيرة التي وجهت إليه، فقد مثل تصورات عباس، الذي ظل طوال مسيرته النقدية واقعاً تحت تأثير إليوت الناقد والواقعين في ظلاله من جماعة النقد الجديد في بريطانيا وأميركا، حول مفهوم الشعر والثقافة بعامة. لكن اهتمام الناقد الراحل بمفهوم الالتزام، وهو المفهوم الذي كان أثيراً إلى نفوس نقاد الخمسينات والستينات في القرن الماضي، جعله ينظر إلى العمل الأدبي بصفته تعبيراً عن سياق اجتماعي محدد معطياً هذا العمل وظيفة سياسية اجتماعية، وهو الأمر الذي يتعارض في جوهره مع مدرسة النقد الجديد الأنغلو ساكسونية التي تقرأ العمل الأدبي بصفته أيقونة نازعة هذا العمل من سياق إنتاجه ناظرة إليه كمعطى غير زمني، ونص عابر للتاريخ. ولا أظن أن عباس قد آمن بهذا التصور للآثار الإبداعية على مدار تجربته النقدية على رغم كثرة ما ترجم عن نقاد ينتمون في فهمهم للعمل الإبداعي إلى مدرسة النقد الجديد. لكن إحسان عباس لم يكتف بالكتابة النقدية، أو تحقيق أمهات الكتب العربية أو ترجمة الكتب الكلاسيكية في النقد الأنجلو ساكسوني ، بل إنه صرف حوالى السنة ونصف السنة من عمره يترجم رواية الكاتب الأميركي الشهير هيرمان ملفيل "موبي ديك" ويعيد كتابتها بالعربية. وعلى رغم أنه تمرس في ترجمة الكتب النقدية والفلسفية ولم يترجم قبل "موبي ديك" رواية أو عملاً إبداعياً إلا أن قارئ الترجمة يجد أنها تضاهي الأصل في جماله وسلاسته وبنيته المركبة وتنوعه الأسلوبي وقدرته على عرض مستويات لغوية مختلفة تتناسب والشخصيات التي يحتشد بها العمل الروائي. ففي صفحات ترجمة إحسان عباس لموبي ديك، التي تزيد على التسعمئة صفحة، يجلو المترجم روح هذا العمل الروائي البديع الذي ينتقل من لغة الحياة اليومية في النصف الأول من القرن التاسع عشر إلى لغة الكتب المقدسة، ويعيد صوغ مقاطع من مسرحيات شكسبير، ويدمج التأملات بلغة الوصف التفصيلية. وحين تصدى عباس لنقل رواية ملفيل إلى العربية حاول أن يكون أميناً لمستوياتها اللغوية المختلفة، لكنه في الوقت نفسه حول الفصول المكتوبة بلغة إنكليزية رفيعة إلى عربية شديدة الفصاحة والرفعة تقترب في جمالها من لغة كبار الناثرين العرب من أمثال الجاحظ وطه حسين، في الوقت الذي ترجم العبارات الإنكليزية المكسرة إلى عربية مكسرة كذلك. ولهذا تستحق ترجمة عباس لرائعة هيرمان ملفيل أن تذكر بصفتها واحدة من إنجازاته الكبيرة التي لا ينبغي أن نمر عليها مرور الكرام. توزع إحسان عباس بين تحقيق التراث، الذي كان علماً من أعلامه الكبار في القرن العشرين، والترجمة وتاريخ الأدب والنقد، بل وكتابة التاريخ. ولعل هذا التمزق بين شجون معرفية عدة هو ما شغله عن تطوير عمله النقدي، خصوصاً في السنوات العشرين الأخيرة من حياته. لكنه، بما أنجزه في حقل تحقيق التراث والكتابة عنه وكذلك في الترجمة، يضيف إلى نقده بعداً مثرياً عميقاً يضيء لنا نحن أحفاده من النقاد العرب كيف عمل هذا الناقد الموسوعي الكبير في خضم هذه المعارف المتباعدة واصلاً بين العصور والحضارات، بين ثقافة الذات وثقافة الآخر.