كان يحبهما حباً لا يوصف، حباً جعله يثور حنقًا عندما شاهدهما يلفظان أنفاسهما الأخيرة في الأقاصي على مرأى ومسمع من عالم يتهافت فيه السواد على مآسي الآخرين، يتلقفونها بنهم قوتًا لفضول جشع ويقبلون عليها إقبال أكلة اللحوم على النيء. هو الفضول عينه الذي أراد تجنيبهما إياه عندما انتشلهما من مراحيض مستشفى "شميران" في شيراز حيث تخلى عنهما الأهل العاجزون عن الاهتمام بتوأمين ملتصقتين من الرأس- وكان لهما من الأولاد 11 - وقضّت مضجعهم الشائعات المنتشرة بتجسد لعنة الله على الأرض وحلول شؤم على بلدة كزرون الريفية الواقعة في جنوبإيران. لادان ولاله أراد لهما ما أراده لولديه، رامين وغولناز فلم يبخل عليهما باسمه ومنحهما بيتاً يحضنهما وتعليماً اكتسبتا بفضله لغات خمساً وشهادةً في الحقوق. لم يكن مؤمنًا بنجاح عملية فصل، هو الطبيب علي رضا صفيان، الذي لم يترك زميلاً مختصاً إلا وطرق بابه أملاً في إنقاذ طفلتيه، فسافر بهما إلى ألمانيا وهما في الخامسة، إلا أنّ الفحوص المموّلة من شركة "سيمنز" خلصت إلى عدم جواز الفصل لحتمية قضاء إحدى الشقيقتين على الأقل. وعندما بلغتا السابعة اصطحبهما عند آية الله الخميني الذي عارض بشدة إجراء جراحة، معتبرًا أنّ وفاة إحدى الشقيقتين أثناءها هو في منزلة القتل المتعمد بنظر الدين وأمر محظور في الشريعة الإسلامية. وعاشت التوأمان مع آل صفيان لأكثر من عشرين عامًا نجح خلالها الطبيب في انتزاع وثيقتي ولادة منفصلتين. وعلى رغم العودة إلى ألمانيا عام 1996 لإجراء مزيد من الفحوص الطبية كانت الشقيقتان مقتنعتين بوحدة المصير على رغم اختلاف الشخصية، فلاله رومانسية خجولة تحلم دومًا بغد تخطو فيه خطواتها منفردةً ولحظات حميمة تقضيها مع رجل بدأت تكنّ له مودة العاشقة، فيما كانت شقيقتها لادان أكثر واقعية وإدراكًا بأنّ القدر حتم عليهما ألا تعرفا طعم الحياة العادية، لذا فضلت عدم التفكير بالحب بل آثرت التكاتف للمضي في حياتهما بأفضل وجه ممكن. عودة والدهما وعندما بلغت التوأمان عامهما السابع والعشرين انقلبت حياتهما رأساً على عقب، بظهور والدهما الفعليّ دادولا بيجاني مطالباً بهما فجأةً وحصوله على حكم يقضي بعودتهما إليه. ولم تستطع التوأمان البقاء في مسقط رأسهما لفترة تفوق الشهر، فالظروف في بيت الوالد قاسية والمساعدة المطلوبة غير متوافرة. وعلى رغم مغادرتهما كنف عائلة بيجاني قررتا عدم العودة إلى والدهما بالتبني، ذلك أنّ رغبة الاستقلالية تدغدغ مشاعرهما، لا سيما أنّ الاعلام بدأ يهتمّ بحالتهما فظهرتا مرارًا على الشاشات حتى أنّ صانع الوثائقي المشهور محمد جعفري وضع فيلمًا عن حياتهما. وقبلت لاله ولادان السكن في شقة قدمها الهلال الاحمر الإيراني فيما كان والدهما صفيان يدفع أقساطها من دون معرفتهما. كان يشعر بالألم لفراقهما إلا أنّ احترامه الشديد لطفلتيه جعله يفضّل إعطاءهما متنفسًا من الوقت، ربما يقرران بعده العودة إليه بمحض إرادتهما. ولكنّ التوأمتين كانتا مشغولتين بأمور مصيرية فأنباء نجاح فصل توأمين نيباليين في سنغافورة عام 2001 جعلهما يأملان بحياة أفضل فقررتا الابحار عكس التيار ومخالفة رأي الكثير من الاطباء الذين عاينوا حالتهما على مرّ السنين، وفضلتا المخاطرة بحياتهما على إكمالها بهذا الشكل، تمامًا كما أرادت بنفسجة جبران الطموحة التحوّل إلى وردة ولو ليوم واحد. وشاء القدر- على رغم جهود حثيثة بذلها 28 اختصاصياً ونحو مئة مساعد - أن تلفظ لاله ولادان أنفاسهما الأخيرة في سنغافورة عقب جراحة دامت خمسين ساعة تابعها العالم بأسره. وكانت النتيجة مرتقبة نوعًا ما لخطورة الجراحة وشدّة تعقيدها. وفتحت التجربة وما آلت إليه من عواقب باب النقاش على مصراعيه في أخلاقية القيام بهذا النوع من الجراحات عندما يكون إمكان الوفاة حتمياً. ورأى بعض الأطباء في المضيّ بالجراحة على رغم رفض اهم المراكز الطبية في استراليا والمانيا وبريطانيا وغيرها القيام بها، أمراً منافياً للأخلاق المهنية. وأكد البعض الآخر عدم جواز إعطاء الطبيب المؤدي لقسم هيبوقراطس، المريض كلمة الفصل بشأن القيام بالجراحة أو عدمها لأنّ ذلك رديف لمساعدته على الانتحار لا سيما أنّ التوأمين كانتا بكامل الصحة ولم تكن الجراحة مسألة حياة أو موت بالنسبة إليهما، وإن كانتا تعيشان حياةً غير اعتيادية. وانتقد بعضهم مضي سينغافورة بالجراحة وتلمس فيها طمعاً بإحقاق سبق طبيّ والتفوّق في مجال ما زال بكرًا على أكبر المراكز الطبية. وسخر آخرون من الحملات الاعلامية التي سبقت الجراحة ورافقتها معارضين لجوء الاطباء إلى الدعاية ما جعلهم في منزلة الرياضيّ الذي يستغلّ الضجة الاعلامية لإعلان فوزه في مباراة قبل حصولها. وذكّرنا النقاش الدائر بذاك الذي هزّ العالم بشأن الموت الرحيم وما يرافقه من جدل أخلاقيّ وإنسانيّ. وقُسم العالم بين مؤيد ومعارض، ولكنّ الطبيب صفيان بقي معارضًا حتى النهاية ومصراً على أنّ أحداً ما كان يتلاعب بعقل التوأمين لغرض من الأغراض، محاولاً إقناعهما بفرص نجاح الجراحة. بقي الطبيب صفيان معارضاً لأنّه كان متأكدًا من أنّ الجراحة ستودي بحياة طفلتيه ولأنّه كان يريد لهما حياةً هنيئة ويحلم بأن تصبحا سفيرتين للأطفال المعوقين ولهذا السبب بالذات أعلن أنّه اتخذ إجراءات قانونية لمقاضاة الأطباء والمستشفى والسلطات السنغافورية وكلّ من له شأن بالموضوع، مشيرًا إلى أنّه سيستخدم المردود المالي الذي قد ينتج عن الدعاوى في انجاز مركز للأطفال المعوقين في طهران بدأ بإنشائه، مركز يشعر فيه الأطفال المختلفون بأنّ ثمة من يأتيهم ليمدّ لهم يد العون لا ليحدّق في عاهاتهم!