يسعى المفكر اللبناني جورج قرم في كتاباته (شرق وغرب: الشرخ الأسطوري، المسألة الدينية في القرن الواحد والعشرين، تاريخ أوروبا وبناء أسطورة الغرب) إلى أن يؤرّخ للغرب الأوروبي ولنتاجاته في مجالات الفلسفة والتاريخ والاجتماع والسياسة، ويعمد إلى أن يظهر العلاقات المعقّدة التي تربط هذا الغرب بالمجتمعات العربية - الإسلامية. ومسعاه هذا لا يقف عند حدود الوصف، بل يتعدّاه ليصل إلى حدود التساؤل، كيف أمكن هذه القارة الصغيرة المشتملة على شعوب وثقافات متنوّعة خلال القرنين الماضيين، أن تولّد هذا الكم من الأفكار الجديدة التي غيّرت وجه العالم. هذه الأفكارالجديدة التي جاءتنا من الغرب، ساهمت في صوغ إدراكاتنا الحسيّة للواقع، وما يحتويه من رهانات وتحدّيات، ومارست ضمناً أو جهاراً، تأثيراً بليغاً على اللغات والمفردات والمصطلحات والمفاهيم المستعملة في الحياة اليومية، وعلى تكوين الأيديولوجيات، وبرامج الأحزاب وأهدافها، كما مارست التأثير نفسه على الأدب العربي بشعره ونثره، وعلى كل الإنتاج الموصوف بالأكاديمي عموماً. إن تطوّر الطباعة والتربية والتعليم في أوروبا، والميل إلى القراءة، ونزعة التبحّر في العلوم، واكتساب المعرفة الموسوعية، وما لا يعدّ ويحصى من الترجمات عن لغات العالم، وحبّ الاستكشاف لقارات جديدة، كلها خاصيّات تميّز أوروبا منذ القرون الوسطى، وتعطي بلا ريب سعة وغزارة وقوة للأفكار، ولكن أيضاً لما يمكن أن تتضّمنه هذه الأفكار من صور نمطية مسيئة، وأفكار مسبقة غير منطقية، ومطامع مفرطة، وشهوات القوة والسيطرة. من الممكن الاستفاضة في تعداد الأمثلة عن التأثير الأوروبي الذي جال تقريباً في كل مكان من العالم، سواء اعتمد المسار العسكري، أم المسار السلمي، على المستوى الفكري أم على المستوى الفني. فما من شيء إلّا وتأثّر بأوروبا، بخاصة عندما كان هذا التأثير يتوسّل الطرق المختلفة التي اعتمدها الأوروبيون في سردهم تاريخ العالم، وسردهم تاريخهم، وشرح عبقريتهم، والتعليق على نجاحاتهم وإخفقاتهم. يدخل كتاب جورج قرم الجديد «نحو مقاربة دنيوية للنزاعات في الشرق الأوسط» الذي ترجمه سلام دياب وصدر عن دار الفارابي، في نطاق الجهد البحثي الذي يقوم به هذا المفكر اللبناني المميّز الذي يكتب باللغة الفرنسية، ونقرأه مترجماً إلى العربية لتبيان الأساليب والأدوات والتقنيات في بناء أسطورة وحدة أوروبا والغرب، بمكوّناتها وتبريراتها المختلفة. ذلك أننا في الشرق العربي، بنينا الكثير من الأساطير متأثّرين بتقنيات الثقافة الأوروبية في البناء الأسطوري، وأن كثرة من المقولات والمفاهيم الأسطورية الطابع التي أدخلت في صميم ثقافتنا العربية المعاصرة، هي في معظم الأحيان متأثّرة إلى أبعد الحدود بالمفاهيم والمقولات الأوروبية، بل قد تكون في بعض الأحيان معاكسة لها، وبذلك تندرج في إشكاليات تاريخية وسياسية واجتماعية، ليست من صنع ثقافة عربية مستقلّة، بل من نتاج ثقافة غربية وصلتنا مشوّشة في مضمونها وأدائها. من المفاهيم الأسطورية الطابع التي يلحظها المؤلف، مفهوم الغرب والشرق الذي أخذ يتكوّن في القرن الثالث الميلادي بين إمبراطورية «شرقية» جديدة مقرّها القسطنطينية، وإمبراطورية «غربية» أوجدت لها كياناً في روما، لكن هذا المفهوم الذي يحمل الطابع المسيحي، ويؤشّر إلى مسيحية شرقية مستقلّة (الروم الأورثوذكس)، وأخرى تدين بولائها إلى روما (الكاثوليك)، لم يبقَ على حاله بل تطوّر بعد الحرب العالمية الثانية، باستعماله من الولاياتالمتحدة الأميركية، في صراعها ضدّ نفوذ الأيديولوجية الماركسية وسيطرة الاتحاد السوفياتي. فقد انتشر على نطاق واسع الإحساس بصراع يضع وجهاً لوجه «الغرب» الليبرالي الديموقراطي، و«الشرق» السوفياتي والاستبدادي. أما اليوم وبعد اختفاء الاتحاد السوفياتي، لا يزال هذا الإحساس بالخطر قائماً، تؤجّجه أدبيات «صدام الحضارات» التي يروّج لها بعض الكتاب الغربيين الموتورين، إلا أن الخطر يقع هذه المرة بالنسبة إلى الغرب في «الشرق» العربي - الإسلامي. في الواقع، ينبع مفهوم الغرب في صيغته الحديثة، من كتابات الفيلسوف الألماني هيغل. ففي نظر هذا الفيلسوف يجسّد تاريخ أوروبا ارتقاء العقل، ما صيّر هذه القارة المحرّك الطليعي لتاريخ البشرية. في وقت لاحق ساهمت أعمال عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، في تفصيل أسباب هذه العبقرية الخاصة بالحضارة الأوروبية، بردها إلى المسيحية، والمسيحية البروتستانتية بالمقارنة مع الديانات الأخرى في العالم. ثمّ ما لبث مع تطوّر علم اللسانيات ونظرية الأعراق أن كرّس الكثير من المفكرين، وعلى رأسهم إرنست رينان فكرة العبقرية الآرية التي تتسم بها الشعوب الأوروبية في مقابل الشعوب السامية التي منها العرب، تتسم بعقل غليظ يخلو من الإبداع. ساهمت هذه الأفكار في إقناع الرأي العام الأوروبي بعظمته، وعظمة دينه، ودفعته إلى الخروج من حدوده لغزو العالم وتنصيره، ودفعته إلى اضطهاد الدين اليهودي، لأنه دين نظراً إلى ساميّته يعرقل مسيرة أوروبا نحو التناغم الاجتماعي والتقدّم، وتمّ اتهام المؤمنين بهذا الدين بأنهم رأسماليون جشعون، يمتصّون دماء الشعوب، وتارة بأنهم اشتراكيون وشيوعيون خرّبوا النظام القائم. وكان كل ذلك مدعاة لحدوث «المحرقة» في ألمانيا التي أهلكت قسماً كبيراً من يهود أوروبا، ومدعاة لتحوّل سريع من مفهوم الغرب ذي الجذور اليونانية – الرومانية الذي كان معتمداً في الغرب، إلى الغرب ذي الجذور المسيحية - اليهودية، بهدف طمس قرون من العداء المسيحي إزاء اليهودية في أوروبا. يهودية بلورت مع الوقت معارضة مستعصية لحلّ الصراع العربي - الفلسطيني بين «غرب» أصبح يصف نفسه بأنه مسيحي - يهودي يعتبر قيام إسرائيل إتماماً للتاريخ، بل غايته الأسمى بالمعنى الهيغلي للمصطلح، و«شرق» عربي – مسلم تجتاحه تيارات إسلامية متطرّفة. جاب النزاع حول الجذور العالم بأسره. استولت عليه أوّلاً الثقافة الروسية التي كان يتنازعها في القرن التاسع عشر تيّاران متناقضان: تيار «النزعة السلافية» من جهة، و «الغربيون» من جهة أخرى. اعتبر أنصار النزعة السلافية أن الغرب مادي، افتقد معنى الله وتخلّى عن القيم الدينية والروحية. أما الغربيون فقد اعتبروا أن روسيا بلد متخلّف، لا يمكنه التخلّص من هذا الركود الراهن إلا بالتحديث، بالتالي التماثل مع الغرب. هكذا، انطلاقاً من روسيا توجّه النزاع حول الجذور إلى الإمبراطورية العثمانية، ثمّ إلى اليابان والهند والصين، ولا يزال اليوم حاضراً في الجدالات التي تهزّ العالم العربي - الإسلامي منذ القرن التاسع عشر، بين أنصار الرجوع إلى القيم والأعراف الدينية القديمة، وأولئك الذين يتبّنون توجّهاً ليبرالياً وحداثوياً على الطريقة التي مارستها تاريخياً المجتمعات الأوروبية. لم ينته بعد النزاع حول الجذور كما رسمته القوى الغربية، والمعني الحقيقي في هذا النزاع هو الشرق الأوسط، وبلدان البحر الأبيض المتوسّط المجاورة مباشرة لأوروبا. نزاع قائم منذ قرنين على الانفعالات والقلق. وقد حان الوقت على ما يقول صاحب الكتاب لتهدئة هذه النزاعات نهائياً، وذلك يكون بالتخلي عن الرؤية الثنائية للعالم بين غرب وشرق، لأن لا وجود لشرق من دون غرب، ولا وجود لغرب من دون شرق. كتاب جورج قرم عمل يستحقّ القراءة والتقدير لطروحاته ومقارباته في تفكيك النزاعات التي تعصف بالعالم العربي منذ استقلال أقطاره. عمل يساعد على الخروج من التقوقع النفسي المبني على العصبيات الدينية والعشائرية، ويفتح أمام القارئ العربي الطريق إلى الاستقلال الفكري في معالجة الصراعات القائمة التي هي في التحليل الأخير، صراعات مصالح وهيمنة، وليست صراعات دينية ومذهبية.