هذا ليس فوّالاً مألوفاً. ليس نموذجاً للفوّالين في بلادنا. لكي تتأكد من هذا عليك أن تراه ظهراً، بعد أن تمضي فترة الصباح، وتخف وتيرة العمل قليلاً، ويكاد المطعم الصغير الأبيض أن يخلو من زبائنه. في هذه اللحظات يجلس الى طاولة في المدخل، يشرب فنجان قهوة اكسبرسو، يدخن سيجارة جيتان، وينظر الى العابرين. حليق الذقن دائماً. مصفف الشعر. وإزاره الأبيض نظيف، بلا تجعيدة واحدة. لن تراه أبداً يمسح يداً متسخة على هذا الإزار. في هذا المطعم كل شيء نظيف. الأغطية القماش على الطاولات قديمة. لكنها نظيفة. نظيفة ومكوية ومقسمة الى مربعات بيض وخضر. لن تجد على الطاولات قناني زيت زيتون. هذا ليس بخلاً. الفوّال يسألك كيف تريد صحنك. ويضع من الزيت ما يكفي وما يزيد. عيب أن يعمل لك فولاً مدمساً يحتاج الى رشة ملح أو عصرة حامض أو قطرة زيت. قليل الكلام. على بعد خطوتين من مطعمه الصغير تجد صديقه الحلاّق. ذاك رجل لا يكفّ عن الحكي. كأنه نموذج الحلاّق: المثال الأفلاطوني. أما الفوّال بطل هذا العمود فليس نموذجاً. القدر الكبيرة يتصاعد منها البخار. رائحة الفول الذي يُسلق طوال ساعات تفوح في المكان. ورائحة الحمص أيضاً. يقشر الثوم بحركة ماهرة من أصابع سمراء. ترى حركة الأصابع عبر زجاج المنضدة. حبات البندورة مرصوفة في جانب، وباقات البقدونس خضراء في اناء فخار، ولصقها مرطبان مخللات. في الزاوية صبي يقشر بصلاً. الفوّال يدقّ حصّ الثوم ويعصر حبّة ليمون حامض. حين يغرف الفول من القدر يرفع المغرفة عالياً قبل أن يدلقها في الطاسة حيث مزج الثوم والحامض والزيت. في هذه اللحظة الوجيزة يبدو باسماً. لا يضحك كثيراً. عنده ابن وحيد. وهذا الابن يعيش في أميركا البعيدة. سنة 1996 ذهب الى هناك وزاره. الابن لم يحصل على الجنسية الأميركية بعد. هذا مع أنه يحيا في تلك البلاد منذ سنة 1989. كل هذه الأعوام من الدراسة، ثم العمل، ولم يحصل على الجنسية الأميركية بعد. في مطلع آب أغسطس 2001 اتصل الابن من أميركا. الفوّال كان ينعس أمام التلفزيون. الابن أخبره انهم حدّدوا له موعداً في نيويورك. حدّدوا له موعداً في 27 أيلول سبتمبر. وان شاء الله سيحصل على الجنسية. الفوّال لا ينسى التاريخ: رسم علامة على الروزنامة. الابن كان سعيداً. قال انه سيأخذ عطلة ويسافر من كولورادو، الى نيويورك، بالباص. وبعد المقابلة يهاتف أباه. الابن يود لو يترك الأب هذا المطعم ويسافر اليه ويعيش عنده. لكنه يعرف ان هذا صعب. 11 أيلول 2001 وضع حدّاً لفرح الابن. حداً موقتاً. اتصلوا به من نيويورك وأعلموه ان كل المقابلات ألغيت لأن كل المكاتب أقفلت ولأن عدداً كبيراً من الملفات احترق. مضى عامان. هل أعطي الابن الجنسية في هذه المدة؟ الجواب عند الفوّال في مطعمه الأبيض الصغير. لكن المشكلة ان المطعم مقفل منذ أسابيع. الحل الوحيد أن يُسأل الحلاّق. لكن هذا رجل لا يتوقف عن الحكي حين يبدأ.