يحتل مطعم أبو عبدو لبيع الفول أو محل أبو عبدو الفوال موقعاً مهماً في الذاكرة الشعبية لأهالي مدينة حلب. ويمكن القول أنه ما من حلبي إلا وسمع به أو ذاق الفول فيه، ولو لمرة واحدة على الأقل. وعلى رغم وجود عدد كبير جداً من محلات لبيع الفول في كل شارع من شوارع حلب تقريباً، إلا أن شهرة وصيت أبو عبدو الفوال يغطيان على ما عداه من محلات بيع الفول. فما ان يذكر اسم أبو عبدو الفوال أمام أي حلبي حتى يثير عنده تلك المشاعر الحميمة التي تشد الكائن الى المكان وشخوصه. زبائن أبو عبدو لا يقتصرون على طبقة اجتماعية معينة، أو منطقة جغرافية محددة، فهم ينحدرون من مختلف الطبقات الاجتماعية وينتمون الى مناطق مختلفة داخل حلب وخارجها. منذ خيوط الفجر الأولى يكون أبو عبدو مستعداً لاستقبال الزبائن الذين يجلسون في المطعم ليأكلوا أو يحتشدون أمام واجهة المحل ليحملوا الفول الطازج. اما الى عملهم واما الى بيوتهم. شدة ازدحام الزبائن أمام المحل تشابه الازدحام أمام المؤسسات الاستهلاكية في الثمانينات، والازدحام أمام أفران الخبز في الوقت الراهن. لذلك يطلق الحلبيون على المحل اسم مؤسسة أو فرن أبو عبدو لبيع الفول، مازجين بذلك الحسرة بالحب. لا يصطف الزبائن خلف بعضهم البعض، فضيق الشارع لا يسمح لهم بذلك. ما أدى الى وضع كل واحد منهم شيئاً ما على زجاج الواجهة الزجاجية يدل على دوره مثل: كبريتة، مسبحة، مفتاح، قداحة، قطعة نقدية صغيرة. وهذا ينسحب تماماً على أفران الخبز. يراقب الزبائن تقيّد أبو عبدو بالدور بعيونهم، وهو أيضاً لا يخرقه إلا في حالتين استثنائيتين: الأولى عندما تجيء امرأة لتشتري الفول، فيعفيها من عناء الانتظار وتدافع الزبائن، وذلك كنتيجة طبيعية لتربيته الدينية، ككل أهالي حلب تقريباً، والحالة الثانية. وجود عنصر أمني فيبيعه فوراً نتيجة للخوف وتجنباً لإثارة المشكلات بالإضافة الى طبيعته المسالمة، ككل الأهالي. ينقسم الفول الذي يبيعه أبو عبدو الى نوعين اثنين: فول بطحينة وفول بحمص. الزبائن الكبار في العمر يمتدحونه بقولهم أن أجداده أول من مزجوا الفول المسلوق مع الطحينة، والثوم، مضافاً اليه قليلاً من الفليفلة والكمون وزيت الزيتون الكردي الأصلي، مشكلين بذلك خصويصة للفول الحلبي، ذاع صيتها وانتشر، مذكرين بأن الطحينة التي يستعملها أبو عبدو مكسورة بحمص. ابتكر أبو عبدو خدمة خاصة بالزبائن الذين يجيئون من مناطق نائية، سماها بالفول السفري، تصلح لحمل الفول مسافة بعيدة مع بقائه طازجاً، وذلك بوضع الفول والطحينة والحمص كلاً على حدة، في أكياس نايلون خاصة أو أواني يجلبها الزبون. أما لمن يرغب بالأكل داخل المحل، فيقدم أبو عبدو للزبون صحن الفول بأحد نوعيه، بحسب الطلب مرفقاً بصحن من الخبز، والبصل، والبندورة، وبإمكان الزبون أن يطلب كأساً من الزيت أو الطحينة المكسورة بالحمص بحسب رغبته. ثمة عرف يتبعه أبو عبدو يسمى بالتصليحة، وهي تعبئة الصحن بالفول مرة ثانية، في حال عدم اكتفاء الزبون بصحن واحد عادي، وسعرها لا يتجاوز العشر ليرات سورية وكان سابقاً أبو عبدو يقدمها مجاناً، وهذا ما ساهم في شيوع صيته، كونه يعمل على "تدليل" الزبون، ويحرص على خروجه من المطعم شبعان وسعيداً ومبسوطاً. لا أحد يذكر من الزبائن الذين تجاوز عمر بعضهم الستين عاماً الى أي تاريخ يعود محل أبو عبدو إلا أن الكل يذكر كيف ذهب في طفولته برفقه والده لعند حج عبدو الفوّال، ولم يكن حينذاك أية كراسي أو طاولات في المحل بل صفائح مستوية من الحجر المصقول مثبتة في الجدران. وكان الزبائن يأكلون وقوفاً، مع مرور السنين تغير ديكور المحل ولم يبق أي أثر للمساند الحجرية التي حلّت محلها الطاولات والكراسي، إلا أن أبو عبدو ظل يطبخ الفول بنفس الطريقة التي طبخه فيها أجداده، وظل يجذب الزبائن اليه. ورغم غزو الشيب شعر رأسه وشاربيه إلا أن حركة يديه وغرفهما الفول من القصعة النحاسية، واهتمامه بالزبائن، هي نفسها لم تتغير. لكنه أصبح أكثر صمتاً، وأشد حزناً، كأنما يخفي سراً أليماً في داخله يمنعه من الحديث والكلام، وحدها القبعة الصوفية الزرقاء المشغولة بسنارة اليد والمخرمة التي يرتديها دائماً تحولت رمزاً تناقله عن أبيه وأجداده، وهي تذكر دائماً الزبائن بسيره على تقاليد أجداده في صناعة الفول من جهة، واحترامه الشخصي لهم من جهة ثانية. الفنان التشكيلي نهاد الترك يتذكر أن أول مرة أكل فيها الفول من محل أبو عبدو ترجع الى أكثر من عشرين سنة، فأهم ما يتميز به أبو عبدو هو وجود "المعلميّة" التي توارثها عن أبيه وجده. الروائي نهاد سيريس يرجع تاريخ المحل الى ما قبل الحرب العالمية الأولى وهو يرتاده منذ الخمسينات ويرتبط في ذاكرته بالطفولة والحرية والانطلاق والعفوية بحسب تعبيره الأكل عند أبو عبدو بالنسبة للحلبي قضية رومانسية. أسباب كثيرة جعلت محل أبو عبدو الفوّال يأخذ هذا البعد الحميمي في الذاكرة الشعبية الحلبية. فبالإضافة الى طعم الفول المميز واهتمام أبو عبدو بالزبائن، هناك الموقع الاستراتيجي للمحل في منطقة أثرية في حلب تدعى "الجديدة" تقطنها الأثنيات المتعددة، وهي ما زالت محافظة على الطابع المعماري القديم، في أبنيتها وبيوتها العربية، أيضاً وقوعه في الطريق المختصر بين مركز المدينة المسمى "باب الفرج" والأحياء المحيطة به: التلل، العزيزية، بوابة القصب، قسطل الحرامي من جهة ومناطق حلب الجنوبية الشرقية من جهة أخرى. والذاهبون الى المناطق الجنوبية الشرقية مشياً على الأقدام اعتادوا سلوك الطرق الفرعية، ما يحتم عليهم المرور أمام محل أبو عبدو الفوال، الذي تحول الى استراحة لا بد منها.