يعلق المحامي البريطاني ديفيد فريمان في المقال الآتي على التحقيق الجاري في لندن حول مقتل خبير الأسلحة البريطاني ديفيد كيلي، والذي يفضح مواضع الضعف في حجج الحكومة البريطانية لتبرير مشاركتها في الحرب على العراق. أظهرت الأحداث التي وقعت مساء الثلثاء الماضي واستهداف مقر الأممالمتحدة في بغداد المعارضة العنيفة لغزو العراق. اذ تتوسع دائرة الأهداف الى الذين يعارضون محاولات الولاياتالمتحدة فرض إدارة على العراق، في وقت يتساءل الكثير من موظفي الأممالمتحدة لماذا باتوا هدفاً جديداً؟ فمقتل ممثل الأممالمتحدة في العراق ستكون له عواقب وخيمة لن تظهر فوراً، لكن من المؤكد ان المعركة من اجل العراق كانت وستكون اكبر بكثير من معركة على حصة من الأراضي الغنية بالنفط. وعلى رئيس الوزراء البريطاني توني بلير الذي قادنا الى الحرب على العراق على اساس ايمانه بأدلة واسباب التهديد الذي يشكله صدام على المملكة المتحدة، ان يبدأ بالتساؤل عما اذا فعل الشيء الصحيح؟آلاف الناخبين في المملكة المتحدة يفكرون ايضاً في ما اذا كان غزو العراق امراً صحيحاً. عارض الملايين الغزو، ولكن عند وقوعه وجهتهم المشاعر الوطنية ومجموعات الضغط نحو دعم جنود المملكة وما يفعلونه. ومع ظهور حقيقة الوثيقة التي استخدمتها الحكومة من اجل تبرير الحرب، يسأل الكثيرون ما اذا استُغلت مشاعرهم الوطنية. بلير يمضي الآن عطلته في بربادوس بعيداً من عدسات كاميرات الصحافة، لكن ليس هناك من شك في ان افكاره لا تنفك تعود الى مجرى الأحداث في محاكم العدل الملكية في لندن. قد تكون لديه عين على المسرح العالمي. لكن الأحداث في لندن على بعد اقل من ميل من مقر اقامته لا يمكن تجاهلها، وستغير صورته في المملكة المتحدة وبقية انحاء العالم. كان الدكتور ديفيد كيلي خبير اسلحة يعمل في وزارة الدفاع. وعلم اكثر من الجميع في الإدارة البريطانية تقريباً عن برامج الأسلحة العراقية وما اذا شكلت اسلحة الدمار الشامل المزعومة تهديداً او اختراعاً او مزيجاً من الاثنين معاً. استُخدم الوجود المزعوم لأسلحة الدمار الشامل في العراق لتبرير مشاركة بريطانيا في غزو العراق. وشارك كيلي في تحضير وثائق نشرتها الحكومة البريطانية في محاولة لإقناع شعبها والعالم بأن الحرب مبررة ولديها بعض الاساس القانوني. بعد الحرب، تحدث كيلي الى صحافيي هيئة الاذاعة البريطانية بي بي سي تموز/يوليو عن هذه الوثائق. وعلى رغم ان تقريرهم قد لا يرقى الى المستويات المتخصصة العليا، الا انها اثارت سجالاً من الإتهامات والإتهامات المضادة ادت الى نقاش علني بين "بي بي سي" والحكومة. وافادت "بي بي سي" ان الحكومة تورطت في جعل ملف الاستخبارات أكثر اثارة وتغيير لهجة الوثيقة التي نشرتها لجعل حجتها في الذهاب الى الحرب اقوى من ذي قبل. وزُعم ان الإشارة الى قدرة صدام على شن هجوم بالأسلحة الكيماوية او البيولوجية في غضون 45 دقيقة، أُدخلت الى التقرير بناءً على طلب الحكومة او تحفيزها وليس على تقدير الإستخبارات. نفى بلير وزملاؤه ذلك دوماً. ورأت "بي بي سي" والحكومة في النزاع معركة لا يمكن لأي منهما تحمل خسارتها. تعرضت نزاهة المؤسستين للخطر، وكان كيلي عالقاً بين الطرفين القويين. وعلى رغم ان حواراته كانت سرية وعلى رغم التزام "بي بي سي" عدم كشف هويته، ابلغ كيلي مرؤوسيه في وزارة الدفاع انه هو الذي تحدث الى الصحافيين. ويبدو ان الحكومة، وبالتحديد توني بلير، قررت ان اسم كيلي لا يمكن ان يبقى سراً، فكشف للإعلام. منذ تلك اللحظة، وجد كيلي نفسه وسط معركة اعلامية ضخمة لا تبدي الأطراف المتصارعة فيها اي اهتمام بالأشخاص والعائلات المتورطة. وتزايد الضغط على الرجل. فأرادت الحكومة استخدامه لإثبات خطأ "بي بي سي"، فيما وجد ان حواراته مع الصحافيين يمكن تأويلها في طرق مختلفة. وأبلغه مرؤوسوه انه قد يعاقب بسبب فعلته هذه، ومن الواضح ان مستقبله المهني ونزاهته كانا في خطر على رغم اعتباره في السابق شخصاً موثوقاً فيه يسمح له باعطاء الإعلام تصريحات عن هذه الأمور. الضغط كان قوياً جداً، وبعدما ركزت كل نشرة اخبارية على السجال الدائر بين "بي بي سي" والحكومة، وبعدما خضع لاستجواب من جانب لجنة برلمانية امام عدسات الصحافة، يعتقد بأنه أقدم على الإنتحار. لم يؤكد الإنتحار رسمياً حتى الآن، لكن الجميع تقريباً في المملكة المتحدة يجمع على ذلك. قبيل عطلته، اعلن بلير اجراء تحقيق حول الظروف المحيطة بمقتل كيلي. ومن المؤكد ان رئيس الوزراء تمنى تركيز التحقيق على المسائل الشخصية في الحادث، لكنه سمح للقاضي المحترم لورد هاتون بتحديد اسس تحقيقه. وتبين ان التحقيق يشمل اكثر بكثير من الظروف المحيطة بالمأساة الشخصية التي عانت منها عائلة كيلي. وعلى رغم ان تحقيق هاتون ليس محاكمة فلن يرسل احداً الى السجن او يدفع غرامة، لكن الواقع ان الحكومة البريطانية وال"بي بي سي" تخضعان لمحاكمة وتمتحن صدقيتهما علناً. وفي جميع الأحوال، تبقى المخاطر اكبر لتوني بلير وزملائه من اي شخص او طرف آخر. اذ يمكن ل"بي بي سي" القاء اللوم على مراسل مارق او ضعف في الرقابة الداخلية، في حال تبين ان المراسل جعل القصة اكثر اثارة مما تسمح به المصادر والحقائق. وتبقى صدقية بلير وزملائه وجميع من تورط في قرار الذهاب الى الحرب، في خطر. ووفقاً لاستطلاع للرأي العام في المملكة المتحدة، اعتبر 68 في المئة ان الحكومة كانت غير عادلة في تعاملها مع كيلي. وسبق ان اقر بلير الاسبوع الماضي بأن شعب المملكة المتحدة فقد ثقته في حكومته. وقال إن هذه "قضية علينا مواجهتها"، بل يظهر ان اكثر الناس مستعدون لتصديق "بي بي سي" بدلاً من الحكومة البريطانية. ومن الجدير ملاحظة ان هذه الإستطلاعات أجريت في وقت صعب لحكومة المملكة المتحدة. ويتمتع العاملون في القطاع الحكومي الذي يسمى في المملكة "الخدمة المدنية"، بغض النظر عمن في السلطة عمال او محافظون، بالبقاء بعيداً من الأضواء. ويملكون عادةً مستقبلاً مهنياً مضموناً الى جانب التقاعد، ويعملون من التاسعة صباحاً الى الخامسة ليلاً كل يوم. وينتمون الى الطبقة الوسطى في المملكة المتحدة، ومهما كان الحزب الموجود في السلطة، يواصلون ممارسة وظائفهم لضمان استمرارية عمل الحكومة. وفي السابق، في حال ارتكب مسؤول ما خطأ، يتحمل مسؤوليته بمفرده. ويتوقع منه ان يقدم استقالته او الإعتذار، فيما يبقى موظفو ادارته بعيدين من الإعلام ومن المحاسبة. لكن هذا تبدل الآن. كان السياسيون في السابق اكثر استعداداً للإستقالة عند ارتكابهم الأخطاء. ولم يعتمدوا على مناصبهم السياسية في مستوى معيشتهم، وكانوا لذلك مستعدين اكثر للإستقالة في النقاط المبدئية. تغير الوضع الآن. فلدينا سياسيون محترفون لا يستطيعون الإستقالة، ولديهم ميل اكبر لإلقاء اللوم على مستشاريهم في حال ظهرت مشكلة. اعتُبر ديفيد كيلي حلاً محتملاً لمشكلة سياسية، ويحتمل ان الحكومة اعتقدت بأنها اذا تمكنت من التعامل معه بتأن، ستكسب معركتها مع "بي بي سي". وللأسف، لم تع عائلته والحكومة و"بي بي سي" مدى الضغط الذي واجهه. وستظهر نتيجة تحقيق هاتون ما اذا كان هذا الضغط هو الذي دفعه الى الإنتحار. تحدثت إشاعات عدة ان توني بلير وجورج بوش اتفقا على ان الحرب حتمية قبل اشهر من عرض المسألة امام الاممالمتحدة، وان الإجراءات في المنظمة الدولية صممت لإضفاء بعض الشرعية المحدودة للدول التي ارادت في اي حدث كان اتباع سياسة تغيير النظام والتأثير في العراق. تم نفي كل هذه الإشاعات وقاتلت حكومة المملكة المتحدة بقوة من اجل اقناع الأمة بأن الحرب كانت الخيار الوحيد المتاح. وأكد بلير وزملاؤه ان صدام حسين مثّل تهديداً للمملكة، وانه يملك اسلحة دمار شامل يستطيع اطلاقها في 45 دقيقة. وفي 24 ايلول سبتمبر عام 2002، قال بلير بعد نشر تقريره: "صدام يملك خططاً عسكرية ناشطة لاستخدام الأسلحة الكيماوية والبيولوجية، والتي يمكن استخدامها في 45 دقيقة". هذا يبدو، اولاً، تصريحاً واضحاً بأن صدام حسين يمثل تهديداً ويملك القدرة لإطلاق الأسلحة الكيماوية والبيولوجية في غضون 45 دقيقة. وجميع هذه التصريحات وغيرها اثارت صخباً في الإعلام البريطاني، ودفعت الكثير من البريطانيين الذين ارادوا تصديق بلير الى التخيل بأنه في حال لم تقم بلادهم بعمل ما فإنها في خطر. وفي جميع الأحوال، كشف تحقيق هاتون انه قبل ايام قليلة من كلام بلير، ارسل جوناثون باول كبير موظفيه رسالة الكترونية في 17 ايلول سبتمبر 2002 جاء فيها: "علينا ان نوضح اثناء نشر التقرير اننا لا نزعم امتلاكنا ادلة تثبت ان صدام يمثل تهديداً حتمياً". اطّلع باول على التقرير وعلم ان لا ادلة فيه تثبت ان صدام يمثل تهديداً للمملكة المتحدة. وذكر ايضاً في النسخة النهائية للتقرير في كلام لرئيس الوزراء ان "التقرير يكشف ان تخطيط صدام العسكري يتيح تجهيز بعض اسلحة الدمار الشامل للإستخدام بعد امر بإطلاقها في غضون 45 دقيقة". ولمرة اخرى، تعطي لغة التقرير انطباعاً بأن هذه الأسلحة تشكل تهديداً حقيقياً للمملكة المتحدة، ولكن الحقيقة ان هذا التصريح يعني القليل. يُفسر هذا الكلام بأن صدام يخطط لامتلاك اسلحة مماثلة مستقبلاً تتيح له اطلاقها في غضون 45 دقيقة. واكد ايضاً ان لا قائد عسكرياً عراقياً سيقوم بإطلاق هذه الأسلحة الا في حال علم انه يمكن اطلاقها، ولذلك لا تعني الجملة برمتها شيئاً. ولكن من الواضح ان هذه الجملة وضعت في شكل يعطي انطباعاً بأنها تعني شيئاً، خصوصاً لدى ترديدها في شبكات الأخبار من دون اي تحليل او مع القليل منه. واشارت تصريحات اخرى لبلير الى كون العراق يمثل "تهديداً جدياً وملحاً". بلير خبير في استخدام اللغة وكلماته يجب درسها بعناية. وتحتاج كلماته الى ان تفسر وتؤول في الطريقة نفسها التي يفسر فيها محامي قانوناً او تنظيماً حكومياً، وليس في سياق حديث عادي. ومنذ قدوم حزب العمال الى السلطة عام 1997، تتهم حكومة بلير بأنها تركز على صورتها والإنطباع الذي تعطيه، بدلاً من العمل ونتائجه، وتتميز بقدرتها على تقديم سياساتها بمظهر جيد جداً. بلير معلم في هذا، ولكن قبل ممارسة النقد علينا تذكر ان هذا ما حاول السياسيون القيام به منذ آلاف السنين. من الذكاء جداً ان تتمكن من اقناع الناس بأنك على صواب من خلال استخدام لغة يعتقدون بأنهم يفهمونها، ولكن مع مخرج مفيد في حال جرت الأمور في شكل خاطئ. ظن الناس ان بلير قال إن صدام يشكل تهديداً. وهذا ظاهر قوله. ويبقى علينا ان ننتظر قول بلير ببساطة إنه كان يقصد ان صدام اراد ان يمثل تهديداً. يذكر ان تركيز الولاياتالمتحدة والمملكة المتحدة على ايجاد اسلحة الدمار الشامل تحول الى البحث عن برامج اسلحة الدمار الشامل. انا لست خبيراً في هذا المجال، ولكنني استطيع الزعم ان برنامج اسلحة الدمار الشامل دراسة ممهدة بسيطة يمكن ان تكون بداية برنامج قد يعني اي شيء تقريباً، ولكن اسلحة الدمار الشامل تعني شيئاً بعينه. يذكر ان عنوان التقرير المنشور في 24 ايلول سبتمبر الماضي هو: "اسلحة العراق للدمار الشامل، تقدير للحكومة البريطانية"، فيما جاء عنوان مسودة التقرير في 19 ايلول: "برنامج العراق لأسلحة الدمار الشامل". ان ازالة كلمة "برنامج" من النسخة النهائية صممت على الأرجح للتشديد على فورية التهديد التي فهمها الشعب. ربما يبدو كل هذا غير مهم وقانونياً الآن، ولكن كانت جميعها جزءاً من حملة الحكومة البريطانية لكسب التأييد لسياستها في الحرب على العراق. وفي قمة المعركة مع "بي بي سي"، قررت الحكومة ان من المناسب ان يقدم كيلي ادلة الى لجنة الشؤون الخارجية اف اي سي في مجلس العموم، إضافة الى لجنة الإستخبارات والأمن البرلمانية آي اس سي. استمعت اللجنتان الى الأدلة قبل مقتل كيلي، في جلستين علنية وسرية. كان توني بلير يعي ان ادلة كيلي ستكون مهمة جداً وأراد معرفة ماذا سيقول. سأل بلير عن آراء كيلي في شأن اسلحة الدمار الشامل في العراق، وماذا سيقول لو مثل امام "اي اس سي" او "اف اي سي"؟. جرت اجتماعات عدة في مكتب رئيس الوزراء ولا تزال نتيجة التحقيق غير اكيدة. الأمر المؤكد ان هناك عدداً متزايداً من الناس في المملكة المتحدة لا يثقون بالحكومة ولن يثقوا ببلير مرة اخرى ابداً. تظاهر مئات الآلاف في لندن لمعارضة الحرب، ومن الصعب تصور ان من بينهم من يؤيد صدام حسين. وفي جميع الأحوال، تثير الطريقة التي اقتيد بها الشعب الى الحرب وخرق القانون الدولي الذي يؤدي في نظر الكثير من المحامين المحترمين الى اعتبار المملكة المتحدةوالولاياتالمتحدة قوة احتلال في بلد اجنبي، قلق آلاف الناس. ويجب ان تقلق بلير ايضاً. وأكد السفير البريطاني الجديد في الولاياتالمتحدة السير ديفيد مانينغ ان مكتب رئيس الوزراء قلق من تقارير "بي بي سي" التي تفيد ان الحكومة تلاعبت في حجة الذهاب الى الحرب. وقال عن تقرير "بي بي سي": "اعتبرت هجوماً مباشراً على نزاهة بلير والمسؤولين في عشرة داونينغ ستريت" مقر رئيس الوزراء. الرسائل الإلكترونية والوثائق والذكريات والمذكرات التي قدمت الى تحقيق هاتون على مدار الأيام العشرة الماضية لم تفعل شيئاً لتقليص الشعور السائد بأن على بلير العمل جاهداً لإعادة كسب ثقة الناخبين في المملكة المتحدة.