كنت على علم بأن الباحث والمفكر تزفيتان تودوروف يعمل على تجميع نصوص غير منشورة للمؤرِخة الفرنسية جيرمان تيليون، نصوص كفيلة بإلقاء المزيد من الضوء على نتاج إثنولوجي وسوسيولوجي استثنائي لم يكتب له التألق نفسه كما كتب لأعمال باحثين آخرين نهلوا من أبحاثها ليصبحوا مشاهير في ما بعد. وبعد السيرة الذاتية التي كتبها المؤرخ جان لاكوتير عن حياة جيرمان تيليون ومسارها، يأتي المؤلف الذي أشرف عليه تزفيتان تودوروف في عنوان "بحثاً عن الحق والعدل"، تكملة لنتاج ولمسار يكشفان وفي كل مرة عن فرادة امرأة اخترقت القرن العشرين بمآسيه وآماله لتطرح أسئلة لا تزال تتحدى أفق الفكر الراهن. منذ ثلاثة أشهر إذاً وقبل أن يطرح الكتاب في المكتبات جرى اتصال بيني وبين تزفيتان تودوروف واتفقنا في مناسبة صدور الكتاب على منح الحدث صدى علمياً وإعلامياً ضمن فاعليات "خميس معهد العالم العربي"، ويكون أيضاً مناسبة لتكريم جيرمان تيليون. وهكذا وعبر مراسلات إلكترونية رتبنا قائمة المشاركين كان من بينهم محمد أركون، نانسي وود، سليمان زيغيدور، فاطمة زريويل، الفريد غروسير وأدار الندوة تزفيتان تودوروف. حررنا وثائق التعريف والتقديم، وهيأنا سبل إنجاح هذه التظاهرة التي اعتبرت مستهلاً لرد الاعتبار لبعض الوجوه الفكرية عربية كانت أم أوروبية. وإلى آخر لحظة بقي الحضور الشخصي لجيرمان تيليون محط تداول بيننا، خصوصاً أن المرأة البالغة من العمر 96 سنة لا تتنقل بسهولة. وقبل أسبوع من اللقاء أخبرني تودوروف بأنها قبلت المجئ إلى الندوة وستتابع أعمالها من دون أن تتدخل في النقاش. وهكذا أعددت شروط استقبالها في المعهد. ولما زرتها في بيتها الواقع في السان ماندي، المقاطعة الثانية عشرة، انتابني شعور اختلط فيه الرضى بالحيرة لأنني حلمت باستمرار أن التقي هذه المرأة رمز المقاومة والعدالة. أدخلتني مساعدتها إلى الصالون وكانت مناسبة لتسريح النظر على الكتب والوثائق والتذكارات التي رصعت جنباته ممتدة إلى البهو وربما إلى غرف أخرى. جوانية المكان تنضح بثقل التاريخ. وبدلاً من امراة تتلكأ في الكلام أو تجد صعوبة في ترتيب أفكارها خاطبتني السيدة في امتلاك كامل لطاقتها المعنوية، باستثناء صعوبة في المشي. ولما عرفت بأصلي المغربي قصت علي تفاصيل رحلتها إلى المغرب في الخمسينات. وأنا أنصت إليها تروي تفاصيل تنقلها من الجنوب إلى الشمال. قلت في خاطري إن التاريخ يستأنس ألفة أو معاشرة مثل هذه الشخصيات، لأنها تغذي ينابيعه، تذكي حميته ولا تترك الحيرة تتسرب إلى مجراه. ونحن في التاكسي قاصدين المعهد، لم تكف جيرمان تيليون من ممازحة السائق الجزائري الأصل. في السبعينات اهتم المغتربون الجامعيون العرب ولدواعٍ سياسية وأيديولوجية بأعلام فكرية مثل سارتر وكامو ثم لاحقاً بالبنيويين، أكثر من اهتمامهم بأعلام زاوجوا بين البحث الميداني والموقف السياسي المناهض لسياسات الاستعمارالتفكيكية. تأتي جيرمان تيليون على رأس قائمة المناضلين المفكرين زاوجت جيرمان تيليون في حركة واحدة النضال بالفكر يقول تودوروف في مدخل كتاب "بحثاً عن الحق والعدل"، الصادر عن منشورات سوي الذين أكدوا حضورهم الجسدي والفكري في ميدان مؤازرة المستضعفين، ضحايا العنف الاستعماري، ونصرتهم ولدت جيرمان تيليون سنة ،1907 توفي والدها وهي في السابعة عشرة. بعد أن درست الأركيولوجيا، اختارت شعبة الإثنولوجيا لتدرسها على العالم الشهير مارسيل موس. في عام 1934 حصلت على منحة لدراسة قبائل الأوراس في الجزائر ودامت إقامتها بين سكان القبائل إلى غاية 1940. ولما رجعت إلى فرنسا وجدت البلاد قد انهارت كلياً تحت زحف الجيوش الألمانية. قررت جيرمان تيليون على اثرها الالتحاق بالمقاومة الفرنسية حيث شكلت وأشرفت على خلية "متحف الإنسان". اعتقلت سنة 1942 وأرسلت إلى معسكر رافينزبروك. بعد إطلاق سراحها، تفرغت تيليون إلى تجميع أو تخزين الوثائق عن المقاومة وأدلت بالبعض من مضامينها في محاكمات ضد مجرمي الحرب النازيين. وكانت تيليون سباقة إلى الكشف عن وجود معسكرات التعذيب السوفياتية. في نهاية 1954 التحقت بالجزائر حيث تفرغت ولمدة ثلاث سنوات لمحاربة الفقر والأمية في الأوساط القروية. من خلال هذه التجربة عاينت تيليون آثار العنف والتعذيب الذي مارسه العسكر الفرنسي على مجتمع بكامله. وعلى ضوء هذا الواقع أصدرت ثلاث دراسات: "الجزائر عام 1957"، "أفريقيا تميل إلى المستقبل"، "الأعداء المتضافرون". مع نهاية الحرب عادت إلى فرنسا متفرغة للبحث والدراسة في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا. نشرت سنة 1966 "الحريم ونظام العمومة" الذي يعتبر بحسب الكثير من الباحثين والمفكرين في العلوم الإنسانية أحد المؤلفات الرئيسة التي أثرت بعمق في حقل العلوم الإنسانية. في منظور جيرمان تيليون ليست الحقيقة والعدالة مفاهيم مجردة، أو شعارات جوفاء، بل فلسفة حياة يجب النضال دوماً من أجلها. وفي منظورها، الحقيقة والعدالة تتلازمان، وفي الأزمنة التي تشوش فيها الحقائق يجب العمل على تربية العقل، أي الحيطة من الحماسة والحقد. ناضلت تيليون إذاً على ثلاث جبهات: محاربة التوتاليتارية، محاربة البؤس ومحاربة العنف. التوتاليتارية التي قاومتها لها ملامح نازية، أي وجه مغتصب بنظام لا إنساني. إزاء هذا النظام يجب أن تتآزر الحقيقة والعدالة لتقليص مساحة الشر. في الجزائر وقفت جيرمان تيليون عند المسلسل المنتج للمآزق والذي يؤدي في نهاية المطاف إلى صعلكة فئات كبيرة من المجتمع وبخاصة أهالي الأرياف الوافدين على المدن والمؤتلفين في فضاءات بائسة لحزام الفقر. السؤال الذي ما فتئت تطرحه تيليون هو: كيف يمكن هذا المجتمع أن يتصالح مع الحقيقة والعدالة وذلك عبر ردّه الاعتبار إلى المرأة وإلى الفتيات؟ إن التربية، تقول تيليون، هي مفتاح نجاح المجتمعات التي تعرضت لعنف خارجي وداخلي. لا تنطبق تحليلات أو دراسات جيرمان تيليون على الجزائر وحسب بل تسري على بقية المجتمعات المغاربية بل المشرقية بحكم تقاطع بنيات القرابة ضمن هذه المجتمعات. ونظراً إلى الانتكاص واستفحال الانحصار الذي تعيشه هذه المجتمعات يمكن القول إن تحاليل جيرمان تيليون لها بعد رؤيوي واضح. وفي أمسية التكريم، استمعت تيليون محفوفة بجمهور غفير من كل الأعمار إلى صدى التاريخ ورجعه في خطابات باحثين ومفكرين أخذوا على عاتقهم عبء مساءلة جزء من الموروث الكثيف الذي أنتجته في بحثها الدائم عن الحقيقة والعدالة.