ما يلفت حقاً في تجربة المخرج الفلسطيني الشاب هشام كايد هو شغله على تنفيد سيناريوات مدهشة يعدّها أطفال المخيمات الفلسطينية في لبنان "ليموناده" - "سكّر يافا" - "أحلامنا متى". هذا الشغل الواسع الطيف لخمسة أطفال صغار رباب عبدالهادي - منى زعرورة - زينب خيزران - محمد عزوقة - وليد بلقيس يقيمون في مخيم شاتيلا، هو من يولم للأحلام المستحيلة على طائر يرغب بالانقضاض على أبسط الأمنيات... من علٍّ شاهق... فلا يكفي أن تشيد المستقبل كله بركلة حذاء رياضي عتيق على أرض مقبرة صارت خرافة وهاجساً، أو أن تضعه في حنجرة عندليب صغير حتى تستوي الأمنيات، فتجيء صمَّاء وباذخة... وهادية لنا نحن جمهور الخرافات في الصالة أو في الاستاديون. السينمائيون الفلسطينيون الصغار لا يغادرون البذخ المفترض، في طريقة حكاية الفيلم، إذ يتحقق خواص الحلم في ثقل البراءة الفائضة، ذلك ان في وسع هذه "الرواية المترفة" أن تنقض البراءة ذاتها من على أسطح الصفيح والمباني العشوائية وهي تحفظ في خزائنها أنفاس من بقوا، ومن رحلوا من الأحباب. في "أحلامنا متى" ثمة ما يلفت الانتباه حقاً في الصورة الرمادية، ذلك ما يتعمده هشام كايد في غفلة من مؤلفي الفيلم الخمسة، في الحلم المقتبس من نَفَسِ العشب القصير الذي ينامون عليه بغية تحويله الى فكرة عارمة يرفعها بالون الحلم أعلى فأعلى. يدرك من يراقب عبر شاشة الكريستال اللصيقة بالهمس من الآن فصاعداً انها سينما خاصة جداً، لا تشبه سينمات أحد، فهم استثنائيون في محاولة تقصير عشب الزوال، والإبقاء على الأبد، وهو عشب طارئ لا تدركه الأمنيات الآن. السينمائيون الصغار يدركون بالحس الملهم معنى فضيلة الحلم ودورانه في متاهة لا يريد أحد الخروج منها، ذلك ان الفلسطيني المشار اليه في الفيلم يريد التأكد من أن الشاشة الزرقاء المركّبة على شاشة أخرى لا تسرق منه غفوة الأمنية ورشادها، إن صدح العندليب الصغير ب"نعم يا حبيبي نعم". أحلام فردانية بسيطة مشرعة على سهولة الصورة إن تحققت الحياة بأسرارها من خارج هذه الشاشة، ففي مستهل الفكرة التي عمل عليها السينمائيون الصغار إن جازت لنا التسمية طبعاً كانت اعادة بث الصداقة على شرائح ممغنطة، فمحمد ومنى وهما لبنانيان مفترضان في الفيلم يعملان كصحافي وطبيبة، فيما زينب ورباب ووليد عاطلون من العمل، لأنهم فلسطينيون في لبنان، وقد جمدت أمانيهم على أطراف مواقد الدنيا، فلم يكن سهلاً اقناع زينب كي تختار أمنية المستقبل، وقد رفضت أن تكون محامية ومتهمة في الوقت نفسه، إذ كيف لهذه الازدواجية ان تنقض من عهد البراءة المكلف لهؤلاء الفتيان، وأن تنقض أو حتى تبث معنى المستقبل بين المحاماة والاتهام، ذلك ان زينب تدرك سلفاً أنها محكومة لواقع عتم يغنِّيه وليد بدوره بصوت مجروح. يغنِّي ويصدح بإحساس عندليب متكلف، فيجور عليه الحب، ويقسو عليه قائد الفرقة وهو يعزل فرقته بعيداً منه في الخفاء. كان "الغرافيك الملهم" بمثابة دمعة على قبر العندليب المحتمل. عندليب بلا أفنان، أو مصائر، فلا يملك من غنائه المفترض ما يكفي لمراوغة جمهور لم يكن موجوداً في الأصل، فلم يكن هناك أعضاء فرقة موسيقية. فما ظهر من القائد سحاب، إنما هو غيظ فني مبتكر، أراده المخرج توطئة لاستحالة ناجزة، فوليد بلقيس المراهق الرقيق ابن مخيم شاتيلا، الذي لم يغادر أعوام مراهقته بعد، يحس بوطأة المتاهة، فيمد بحباله الصوتية مردداً كلمات المطرب العاطفي، فتنفجر أسباب النكبة في وجهه. ذلك هو الصدع الكبير في المتاهة الغامضة. "أحلامنا متى" لم يعد سؤالاً في حقل المنوِّمين المغناطيسيين الكبار... انه فيلم يعدّه سينمائيون فلسطينيون صغار في العلن، وينفذه في السر هشام كايد الذي لا يخفي أسباب ضحكه أبداً...!!!