كثيرة هي الاقتراحات والأفكار التي تتضمنها المبادرة المصرية المطروحة الآن لتطوير الجامعة العربية وتفعيل العمل العربي المشترك. ولكن بين عدد كبير من الأفكار التي يصعب اعتبارها جديدة، يبرز الاقتراح الأكثر مدعاة للاهتمام وهو إنشاء مجلس أمن عربي. فهذا الاقتراح هو الوحيد الذي يبدو جديدا مقارنة بغيره مثل تنقية الأجواء العربية، وتسوية المنازعات العربية، وتفعيل التكامل الاقتصادي العربي، ودعم المنظمات المتخصصة، وتعديل نظام التصويت في أجهزة الجامعة، وإقامة محكمة عدل عربية، وتشكيل برلمان عربي. فهذه الاقتراحات تتعلق إما بتفعيل أجهزة وآليات ومشاريع قديمة عمر بعضها من عمر النظام العربي الرسمي تقريبا، أو بإنشاء أجهزة جديدة سبق أن اقترحت مثل البرلمان العربي، بل اتخذت خطوات لتنفيذ بعضها ولم تستمر مثل محكمة العدل العربية، أو قطعت الجامعة شوطاً لا بأس به لتحقيقه مثل بناء علاقة مع المجتمع المدني العربي. جديد المبادرة المصرية، إذاً، هو اقتراح إنشاء مجلس أمن عربي. ولكن هذا الاقتراح الذي يبدو متفرداً، من بين كل ما حوته المبادرة، هو وحده الذي طرح من دون أي تصور لطابعه وطريقة تشكيله وصلاحياته ونظام التصويت فيه، وهو ما عزته المبادرة الى وجود تفصيلات تحتاج الى دراسات تحظى منا جميعا بأكبر قدر من الاهتمام والعناية. وعلى هذا النحو جاء الاقتراح الأكثر جدة في المبادرة خالياً من أي تفاصيل. فهو ليس أكثر من عنوان عام ربما يأمل واضعو المبادرة في أن يكتسب مضمونه عبر ما أسموه دراسات يهتم بها الجميع. وقد يكون المقصود بذلك حوارا عاما يمكن من خلاله درس الاقتراح بعناية. فالمبادرة تتعاطى مع مسألة الأمن الجماعي العربي بجدية شديدة تأسيسا على رؤية مفادها أن "أخطر المشكلات التي أصابت النظام العربي في الصميم كانت تلك المتعلقة بالأمن القومي، وهو ما يدعونا اليوم الى ضرورة إعادة ترتيب أوضاع النظام الأمني العربي". كما أن الرئيس حسني مبارك زعيم الدولة صاحبة هذه المبادرة كان قد أعطى اهتماما فائقا لموضوع الأمن العربي عندما دعا، في كلمة ألقاها يوم 31 آذار مارس الماضي عقب نشوب الحرب على العراق، الى تطوير النظام العربي الرسمي. فقد تحدث عن "ضرورة أن يكون لنا نظام أمن جماعي عربي متطور يواكب روح العصر ويعزز قدرتنا على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية على حد سواء". هذا الاهتمام الفائق بمسألة الأمن يفسر بحث واضعي المبادرة عن صيغة جديدة يمكن أن تعزز نظام الأمن الجماعي الذي كان النظام العربي الرسمي هو أكثر النظم الإقليمية حرصا عليه منذ تأسيسه عقب الحرب العالمية الثانية. ولكنه كان، في الوقت نفسه، من أقلها قدرة على تحقيقه على الأرض. غير أن واضعي المبادرة، حين اقترحوا صيغة مجلس أمن عربي في صورة عنوان عام وخطوط عريضة، أخذوا في الاعتبار إمكان ألا تجد هذه الصيغة مضموناً ملائماً في ظروف يصعب فيها تحقيق تفاهم عربي على مسائل أقل صعوبة وأدنى طموحاً. ولذلك طرحوا بديلاً مصحوباً بتصور واضح ومحدد، وهو إقامة منتدى للأمن القومي العربي، في صورة مؤسسة تعمل في ظل الجامعة، ويشارك فيها ممثلون دفاعيون وأمنيون للدول الأعضاء وخبراء ومختصون في القضايا الاستراتيجية. واقترحت المبادرة أن يعقد هذا المنتدى لقاءات وحوارات ويجري مناقشات حرة مفتوحة غير مقيدة حول قضايا تحددها أمانته بهدف بلورة اتجاهات عربية عامة في شأن مفاهيم الأمن ومصادر التهديد والصراعات الإقليمية وكل ما ترى الدول العربية أنه يمكن أن يفيد خلال مرحلة تالية في بناء نظام أمني عربي جديد. هذا الاقتراح البديل يبدو أكثر جدوى وأوفر فائدة، فضلاً عن أنه يتميز بوضوح وتحديد يفتقدهما اقتراح مجلس الأمن العربي. فليس في الإمكان الوصول الى مثل هذا المجلس من دون تحقيق قدر معقول من التفاهم العربي على القضايا الأساسية للأمن الجماعي. ولا يخفى أنه لا يوجد مثل هذا التفاهم الآن حتى على مصادر التهديد وليس فقط على كيفية مواجهة هذا التهديد. وحتي إسرائيل التي كان هناك حد أدنى من الاتفاق، على أنها المصدر الأول للتهديد لم تعد كذلك الآن بالنسبة الى دول عربية عدة. كما أن السياسة الأميركية الراهنة التي تراها دول عربية مصدر تهديد بدرجات متفاوتة، تنظر إليها دول أخرى باعتبارها عونا ضد مصادر تهديد تعتبرها أكثر خطرا عليها. وليس منطقياً تجاهل خلافات في العمق على هذا النحو، والقفز الى صيغة متقدمة جدا للأمن الجماعي من دون الوصول الى حد أدنى من التفاهم، إلا إذا أردنا أن يعيد التاريخ نفسه معنا ومن دون أن نستوعب دروسه. لقد كان القفز على الواقع و "حرق المراحل" من أهم الأخطاء التي حدثت في بناء النظام العربي الرسمي. وما المعضلات التي يواجهها هذا النظام اليوم، بما في ذلك مشكلات الأمن الجماعي التي قالت المبادرة المصرية أنها أصابته في الصميم، إلا نتاج هذه الأخطاء. فلم يبدأ أي نظام إقليمي، بخلاف النظام العربي، خطواته الأولى على أساس الحد الأقصى من الالتزامات الأمنية المتبادلة التي تصل الى مستوى الحلف العسكري من دون توفر أي من مقومات هذا الحلف وفي غياب أي قدر من الاستعداد للوفاء بتلك الالتزامات. ربط النظام العربي، في مستهل مسيرته، التعاون الاقتصادي بأعلى مستوى من الدفاع المشترك ولكن على الورق فحسب. فنقرأ، في هذا الورق، عن هيئة لرؤساء أركان حرب الجيوش العربية تشرف على لجنة عسكرية دائمة تضم ممثلي هيئات أركان حرب القوات المسلحة في الدول الأعضاء، فضلا عن مجلس دفاع مشترك يتكون من وزراء دفاع وخارجية هذه الدول. كان هناك الكثير جداً مما ينبغي عمله قبل الوصول الى نظام أمن جماعي على هذا المستوى. ولا نجد نظاما إقليميا آخر بدأ مسيرته بمثل طريقة "حرق المراحل" هذه. وحتى الاتحاد الأوروبى، الأكثر تطوراً بين المنظمات الإقليمية في العالم، بدأ كمنظمة اقتصادية في الأساس. فقد وفر تأسيس حلف شمال الأطلسي "الناتو" صيغة متقدمة للأمن الجماعي الأوروبي خارج نطاق هذا الاتحاد. غير أن التوافق على إنشاء حلف عسكري يعني وجود الأساس الموضوعي والذاتي لنظام أمن جماعي، لأن التعاقد هنا محدد لا لبس فيه، وبالتالي لا يمكن التملص منه عمليا. ويختلف ذلك عن دمج مهمات حلف عسكري في إطار منظمة إقليمية على نحو يمكن أن يقود الى خلط الأوراق. وهذا فضلا عن الفرق الجوهري بين دول متقدمة أنجزت مهمات التطور الاقتصادي - السياسي والعسكري ودول كان بعضها حديث الاستقلال ومعظمها لم يحصل على استقلاله في وقت تأسيس النظام العربي. لقد بدأ هذا النظام مسيرته قفزاً فوق الواقع على نحو لا مثيل له. فلا يوجد بين أجهزة أي نظام إقليمي في عالم اليوم مجلس للدفاع المشترك مثل الذي أسسه النظام العربي على الورق قبل أكثر من نصف قرن، ولا مجلس للأمن كذلك الذي تقترحه المبادرة المصرية. خذ مثلا منظمة إقليمية ناجحة مثل رابطة جنوب شرق آسيا الآسيان. مؤسساتها تخلو من جهاز أمني على رغم وجودها في منطقة كانت من أكثر مناطق العالم اضطراباً وخصوصاً في مرحلة الحرب الباردة الدولية، فضلاً عن أنها أنشئت في العام 1967 لمواجهة ما كان يسمى "التهديد الشيوعي" الذي كانت فيتنام تعتبر مصدره الرئيسي. والمفارقة أن هذه المنطقة لم تعط اهتماما مؤسساتيا لقضية الأمن الجماعي إلا بعد أن تراجعت حدة الاضطرابات وصارت المنطقة أكثر استقراراً من ذي قبل. ومع ذلك لم يتجاوز هذا الاهتمام عقد منتدى أمني في تموز يوليو 2000 لمناقشة قضايا صناعة الصواريخ والصراعات في المحيط الهندي والمشاكل التي تواجهها إحدى أهم أعضائها، وهي اندونيسيا بسبب محاولات بعض الجزر التابعة لها الانفصال مثل جزيرتي اتشيه وفالكو. ويبدو هذا المنتدى أقرب ما يكون الى الاقتراح البديل عن مجلس الأمن العربي، وهو منتدى الأمن القومي العربي. فهذا اقتراح جدي مفيد، ويمكن أن يمهد لصيغة أكثر تقدماً من نوع مجلس الأمن العربي إذا أقيم على أسس سليمة وأدى دوره جيداً وساهم في التقريب بين عقائد ومفاهيم أمنية عربية باتت متعارضة في بعض الحالات وليست فقط مختلفة. وحبذا إذا واكب ذلك عمل جاد دؤوب في شأن البند الأول في المبادرة المصرية وهو تنقية الأجواء العربية. فإذا كان ممكناً تحقيق بعض التعاون السياسي والاقتصادي في أجواء ملبدة بالغيوم، يستحيل إيجاد أي تعاون أمني من دون تحسين هذه الأجواء. فلا عمل أمنياً مشتركاً من دون حل أزمة عدم الثقة بين دول خلقت الشكوك المتبادلة بينها حواجز صارت أشد وأعلى مما كان قائماً في بداية مسيرة النظام العربي. * كاتب مصري، مساعد مدير مركز "الأهرام" للدراسات السياسية.