ربما نكون أول من تحدث عن الأمن القومي العربي في محاضرات وندوات، وربما نكون أول من كتب عن الموضوع الخطير نفسه في مقالات وكتب، وبدأ الكثيرون في خوض الملعب الصعب يضيفون ويبنون ولكن ظل تحقيق الأمن القومي العربي بعيد المنال وكأنه سراب يحسبه الظمآن ماء أو فاكهة محرمة لا يجوز لشعبنا من المحيط الى الخليج قطفها على رغم حاجتنا الملحة اليها. والأخطر من ذلك أن الكثيرين استخدموا الشعار استخداماً خاطئاً عن حسن نية وربما بسوء قصد. فالحروب التي تمت في الخليج نتيجة للاتجاه العدواني للنظام العراقي كانت شعار تحقيق الأمن القومي العربي البريء تماما من أن يُقْدم أحد افراد العائلة العربية على استباحة دم أخيه أو أن يشكك آخرون في جدواها. إذ تم العدوان - كما يرددون - في ظل الجامعة العربية وفي ظل العمل العربي الجماعي، بل في ظل مجلس التعاون الخليجي وله قواته المسماة "درع الجزيرة". وهذا غير حقيقي، لأن الجامعة مصابة بالشلل، ولأن العمل الجماعي لم تكن له آلياته، ولأن قوات "درع الجزيرة" كانت تفتقد القدرة القتالية. فالمسألة ليست أوراقاً موقعاً عليها من الجميع، إذ أن ايجابية المواثيق الجماعية تكمن في قدرتها على التحرك، لأن العدوان الذي حدث ما كان يمكن أن يتم تحت مظلة قادرة من وحدة القوى العربية Community of Force لأنها كانت ستتحرك ضد المخطئ، وربما تمنع الخطأ قبل حدوثه عن طريق ردعه، لأن قوة رد الفعل تمنع الفعل نفسه وهذا أهم مبدأ من مبادئ الردع الذي يفرض الاستقرار ويحافظ على مصلحة الجماعة. والأمن القومي ليس الأمن العسكري، فالأخير هو جزء من الأول الذي يعمل في محيط الاستراتيجية العليا للدولة، بينما يعمل الأمن العسكري في محيط الاستراتيجية بمعنى أنه يحقق القوة، فيما يتحقق الأمنَ القومي بالقدرة التي هي مجموعة قوى الدولة في المجالات المختلفة. ولذلك فإن الأمن القومي هو من مسؤولية القيادة السياسية، في حين أن الأمن الحربي من مسؤولية القيادة العسكرية تحت إشراف القيادة السياسية وبتوجيه كامل منها. وواضح أن مجلس الوزراء هو المسؤول عن الأمن القومي، بينما يكون وزير الدفاع مسؤولاً عن الأمن الحربي بصفته مندوب القيادة السياسية وممثلها على قمة المؤسسة العسكرية ويخضع لها، لأنه يُعين ويُترك بأمر منها مع ملاحظة أن الشؤون العسكرية اخطر من أن تُترك للعسكريين وحدهم. والأداة الرئيسية للأمن القومي هي حرب التكنولوجيا كما أن حرب التكنولوجيا هي الأداة الأساسية للقيادة العسكرية عن طريق الردع، أي استخدام القوة في حال الثبات أو القتال، أي أستخدام القوة في حال الحركة. ويلاحظ هنا أمران مهمان في بلادنا، الأول عدم وضوح المسؤوليات والعلاقات بين القيادتين السياسية والعسكرية، علاوة على أن مصدر السلاح والتكنولوجيا للجيوش العربية يقع في الدول المركزية التي تصنع السلاح والتكنولوجيا وتنقلهما الى الدول الهامشية تبعاً لقواعد وقوانين دقيقة تشكل بها توازنات القوى بما يخدم مصالحها ويحققها. وأخيراً فإن الأمن القومي يُعنى بمشاكل الحرب والسلام بينما يُعنى الأمن الحربي بمشاكل الحرب وإدارتها تحت السيطرة الفعلية للقيادة السياسية لأن الدولة تنظر من خلال دخان الحروب ونيرانها الى شكل السلام بعد ايقاف اطلاق النيران. فالغرض من أي حرب يجب ان يكون الانتقال الى سلم أفضل. وإذا قارنّا بين حال العرب قبل "عاصفة الصحراء" عموماً وحالتهم بعدها فإننا نلمس مقدار التآكل في قدراتهم والحال التعسة التي أصبحنا فيها، فإذا اخذنا منطقة الخليج كمثال ومصدرنا في ذلك الميزان العسكري لمعهد الدراسات الاستراتيجية في لندن العام 98/1999 لوجدنا ان الديون العراقية بلغت 23 بليون دولار، وهذا رقم متواضع جدا بالنسبة الى مصادر اخرى، ونفقات الدفاع 3.1 بليون دولار، بينما بلغت ديون الكويت 3.8 بليون دولار ونفقات دفاعها 2.1 بليون دينار كويتي، علما بأن قيمة الدينار حوالي اربعة دولارات، وديون السعودية 1.21 بليون دولار ونفقات الدفاع 9.8 بليون درهم، أي 1.2 بليون دولار، بينما ديون اسرائيل 56 بليون دولار ونفقات الدفاع 39 بليون شيكل، أي 1.11 بليون دولار، وديون ايران 8.18 بليون دولار ونفقات الدفاع 7.4 بليون دولار. وكما نلاحظ فإن حال سباق التسلح في المنطقة عموماً مرتفعة تدل على عدم الاستقرار، وفي الوقت نفسه ترتفع أحجام الديون. وهذا وضع حرج بالنسبة الى الأمن القومي إذ أن صاحب القرار يواجه دائماً بما يسمى بالمعضلة المالية الثلاثية، وهي الموازنة في توزيع الدخل القومي بين حجم النفقات للدفاع عن مصلحة الدولة القومية في ظل النظام العالمي المراوغ الذي يتشكل سريعاً في ثياب العولمة، وتلبية مطالب المواطنين العادلة من حرية سياسية وعدالة اجتماعية ورفع مستوى المعيشة واضعاً في اعتباره، خصوصاً في بعض المناطق كمصر، تفجر القنبلة السكانية، ثم اخيرا ما يخصصه لتثبيت حكمه. وتتشكل امامنا معادلة صعبة هي جوهر الأمن القومي والتي تؤرق صاحب القرار: هل يعطي الأسبقية لمواجهة التهديدات الخارجية؟ أو يعطيها لمواجهة التحديات الداخلية والمطالب العادلة للشعب، أو يخصصها لتعزيز حكمه؟ تحقيق التوازن بين الأطراف الثلاثة للمعادلة وسد الفجوات بين المتطلبات والإمكانات، بين الاستهلاك والتنمية، بين الغنى الفاحش للقلة والفقر المتزايد للكثرة، مسؤولية ضخمة لصاحب القرار وعليه اتخاذ القرارات الصعبة من بدائل صعبة في ظل ظروف ضاغطة، لأننا نعيش في عالم كالغابة فيه الحيوانات الكاسرة والمسالك الخطيرة، ويحتاج الى العقل لمواجهة اكثر من الحاجة الى العضلات. وقد حدثت في العقد الأخير من هذا القرن الذي اوشك أن ينتهي تغيرات كبيرة في توازنات القوى وفي النظرة الجيوستراتيجية والديموغرافية على المستويين العالمي والاقليمي، وانتقل العالم من ثنائية الأقطاب الى أحادية الأقطاب، واتسع مجال عمل حلف الاطلنطي بعد زوال حلف وارسو ليشمل العالم كله وانتقل بعض الأعداء الى مربع الاصدقاء واصبحت بعض المحرمات والثوابت جائزة ومتغيرة، فهل أثر هذا على مفهوم الأمن القومي للدول والأنظمة؟ في كتابه "الاستعداد للقرن 21" يقول بول كينيدي "أصبح الأمن القومي اكثر عالمية وارتباطاً بالأمن العالمي فأي تهديد على الكوكب الذي نعيش فيه ويؤثر في الصحة والسكان وازدهار الاقتصاد والاستقرار الاجتماعي والسلام السياسي هو في الوقت نفسه تهديد للأمن القومي". وجاء ما اعلنه اعضاء حلف الاطلسي ليؤيد هذه النظرة إذ حددوا ثلاثة مبادئ اساساً لعمل الحلف: حق الدفاع عن مصلحة دول الحلف في كل انحاء العالم إذ أن العمل الجماعي لا يبنى إلا لمواجهة تهديد جماعي، حق استخدام القوة العسكرية في ذلك من دون الرجوع الى مجلس الأمن أي فرض الأمر الواقع أولا ثم استخدام الغطاء الشرعي الدولي بعد ذلك، والقاعدة الثالثة والأخيرة هي حق الحلف في تسليح قواته بأحدث الأسلحة التقليدية وفوق التقليدية والنووية وحرمان من يراه من الدول الاخرى من مجاراته في ذلك أي احتكار التفوق النوعي لقوته الذاتية، ثم جاء كوفي انان، الأمين العام للامم المتحدة في خطابه الى مجلس الأمن ليزيد الأمر ايضاحاً فيطالب بوضع مفهوم جديد للمشاركة الدولية وأن الحدود السياسية للدول ليست سداً يمنع التدخل الدولي في أي مكان من التدخل لمنع الاعتداء على حقوق الانسان، فالانسانية لا تتجزأ كما طالب بتغيير مفهوم السيادة. والكلام كبير علينا، ولكن علينا ان ندركه ونضعه في الاعتبار لأنه يمثل تفكيرهم على الجانب الآخر من التل على رغم أن مفاهيم الأمن القومي بالنسبة الينا لا تطمع بأن تصل الى هذا المستوى وإلا ستصبح ثوباً فضفاضاً وعليه يصبح الأمن القومي المناسب لنا هو "الإجراءات التي تتخذها الدولة أو مجموعة الدول في حدود طاقتها وامكاناتها للحفاظ على كيانها ومصلحتها في الحاضر والمستقبل مع مراعاة المتغيرات الدولية" وهذا التعريف يشمل الإجراءات في كل المجالات اقتصادية - مالية - سياسية - عسكرية فهي اجراءات لا تتجزأ وان تكون هذه الاجراءات داخل طاقتها وفي حدود إمكاناتها إذ أن الآمال الطموحة التي تجاوز الامكانات المتاحة تقود الى التهلكة أي أن الرغبة يجب ان تكون في حدود القدرة، ولا بد للتخطيط أن يشمل الحاضر والمستقبل مع مراعاة المتغيرات الدولية. وعلينا ان نعترف ان البلاد العربية رغم امكاناتها غير المحدودة، لم تنجح في توظيف الامكانات المتاحة لها "للحفاظ على كيانها ومصلحتها" فأصبح امنها القومي مستباحاً كما نرى ونلمس ولأننا فشلنا في استخدام ما وهبنا الله اضطررنا الى الاستعانة بالغير ليحقق لنا ذلك، وإن كان ضد دول عربية شقيقة أخطأت في توجيه اسلحتها الى الوجهة الصحيحة فأوضعتنا في مأزق نحاول الافلات منه. والعمل الجماعي لتحقيق الأمن القومي العربي لا بد أن يُبنى لمواجهة تهديد جماعي، ومعنى ذلك وحدة النظر الى الاصدقاء والاعداء. فمن هو العدو؟ ومن هو الصديق؟ وأظن أن الإجابة عن ذلك لن تكون واحدة بل ستكون متناقضة، الأمر الذي يفتت الجهود ويشتتها، ما جعل الدول العربية اكثر انكفاءً على نفسها واكثر ميلاً الى الاقليمية. وتزيد من صعوبة الموقف حال الشك التي تسيطر على الدول العربية من بعضها بعضاً، ما يجعل البعض يلعب على البعض الآخر وليس معه. وهناك فرق كبير بأن يلعب الجميع مع بعضهم البعض وبين ان يلعبوا على بعضهم البعض، واكبر مظهر لهذا الشك هو خوف الدول الصغيرة من الدول الكبيرة ما جعل من المستحيل حتى في الأيام التي اعقبت هزيمة 1967 تمركز القوات العسكرية في دول الطوق، ومن ثم اصبح انشاء القيادات الموحدة أمراً مستحيلاً وخوف الصغير من الكبير أمراً مشروعاً وله مبرراته وأسبابه، الامر الذي تجب مواجهته بصراحة تامة. وكان هذا سبباً في تأجيل اعلان الاتحاد في اميركا، إذ ظهر هذا الخوف جلياً في مؤتمر فيلادلفيا الاول، وتصارح الجميع ووجدوا الحل في مؤتمر فيلادلفيا الثاني الذي عقد بعد سنتين في صفقة الكونغرس الذي يتم فيه انتخاب النواب في مجلس النواب بالغالبية، من دون النظر الى حجم الولاية، كما يتم فيه انتخاب اعضاء مجلس الشيوخ بواقع صوتين لكل ولاية. ثم وضعت القوانين التي تكفل التوازن بين السلطات الفيديرالية وسلطات الولايات حتى في مجال القضاء والقوات المسلحة. ولكننا لا نتصارح ابداً ولا نختلف ابداً في الاجتماعات داخل القاعات ويبدأ الخلاف عند التنفيذ، ولا عجب بعد ذلك ان تكون قراراتنا دائماً بالاجماع من دون اعتراض من أحد ولكن مع وقف التنفيذ! والأمن القومي للدولة أو لمجموعة الدول يُخطط ويبني وينفذ لمواجهة التهديدات الخارجة والتحديات الداخلية وعلى المستوى العالمي اختفت التهديدات الخارجية ذات الصبغة الحربية بعد انتهاء الحرب الباردة، فاستبدل التهديد الحربي بالتهديدات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، مثل الارهاب الذي يأتي عبر الحدود، تهريب المخدرات بعصابات دولية، ومشاكل تقسيم موارد المياه المتعاظمة وتهديد البيئة مثل سخونة الأرض وثقب الاوزون وتآكل الشواطئ، ومشاريع غريبة لتذويب القوميات، مثل الغات والسوق الشرق اوسطية، أو هياكل اقتصادية تفتح الابواب المغلقة لتفرض منافسات غير متكافئة أو احتكار انواع من الاسلحة شديدة التدمير. كلها تهديدات تؤثر على الأمن القومي من دون استخدام القوات المسلحة. فكيف تمكن مواجهة هذا النوع من التهديدات؟ ما واجب القوات المسلحة في هذه المواجهات ذات الصفة المدنية؟ ما هي الوسائل التي تتصدى بها لهذه التهديدات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية بعد تراجع الوسائل العسكرية لمواجهة ذلك؟ اسئلة خطيرة تحتاج الى إعمال الفكر وربما لحديث آخر. * كاتب، وزير دفاع مصري سابق