لا شك في ان الحظ كان حليف الكاتب والاختصاصي سيمون سيباغ مونتفيور عندما بدأ أبحاثه لوضع كتاب عن جوزف ستالين. تزامن ذلك مع خروج جزء كبير من الأرشيف الرئاسي الى العلانية للمرة الأولى عام 1999، فتوافر لدى المؤلف كمّ هائل من الوثائق والصور والرسائل الخاصة بستالين والنخبة المحيطة به. وفّق الكاتب بمقابلة الكثيرين ممّن شهدوا الأحداث المرافقة لفترة حكم ستالين، والاطلاع على الوثائق العائلية الخاصة به، بما فيها المذكرات غير المنشورة لبعض زملائه. واستخدم سيباغ مونتفيور هذه المعلومات لتأليف كتابه "ستالين: محكمة القيصر الأحمر" - منشورات وايدنفيلد ونيكولسون، الصادر قبل بضعة اسابيع احتفالاً بالذكرى الخمسين لوفاة ستالين. يرسم سيباغ مونتفيور صورة عن ستالين والمقربين العشرين إليه او زملائه وعائلاتهم في 700 صفحة. ويصف بدقة كيف حكم هؤلاء، او عاشوا حياتهم، او وقعوا في الحب في ظل ثقافة يتيمة مطلقة طبعت سنوات حكم ستالين. والكتاب سرد لسيرة افراد حاشية ستالين، ودراسة معمّقة في السياسات العليا والسلطات والتدابير غير الرسمية. وهو اشبه برواية روسية كبيرة، زاخرة بالشخصيات والألوان وتفاصيل الرعب والشغف والخيانة. فالعلاقات الغرامية ومسلسل الزيجات والطلاق والانفصال والاعتقال والاغتيال تتداخل مع السياسات المتبعة، وتؤدي المرأة دوراً بارزاً في التطورات المتعلقة بها. لا يعتبر سيباغ مونتفيور ستالين زير نساء، فهو كرس حياته في شكل اساس للبلشفية والتزم عاطفياً بالدراما التي سعى الى تغذيتها بكل جوارحه اي قضية الثورة. لكنه لم يكن غير مبال بالنساء، ولا شكّ في انهن كنّ من جهتهن مهتمات به الى اقصى درجة. "سواء كنّ زوجات رفاق، او قريبات او خادمات يحمن حوله كالنحل"... ويظهر الأرشيف ان رسائل المعجبات كانت تنهال عليه وكأنه نجم. كتبت له امرأة ريفية: "عزيزي الرفيق ستالين... أبصرتك في حلمي... ينبض في حنايا قلبي امل بلقائك... إليك رفقاً صورتي". رد عليها بإيجاز: "ايتها الرفيقة المجهولة، ثقي انني لا أود ابداً ان أخيّب املك، وأنني احترم رسالتك، إلا انني أفتقر الى موعد الى الوقت لإرضاء رغبتك. أتمنى لك كل التوفيق.ج. ستالين. أعيد إليك رسالتك وصورتك". لم يكن ستالين يرفض دعوات النساء كلها، حتى أن زوجته الثانية ناديا عليلوييف كانت تشك في انه يقيم علاقات غرامية سرية. وأحدثت ناديا بلبلة في المسرح ذات ليلة، قبل انتحارها بقليل، عندما رأت ستالين مغازلاً راقصة باليه. وسرت إشاعات عن علاقة غرامية بين ستالين ومصففة الشعر في الكرملين. الفصل الممهد للكتاب هو اشبه بوصف دقيق للأحداث التي ادت بزوجة ستالين الثانية الفطنة ولكن المضطربة عقلياً "ناديا" الى الانتحار في الثامن من تشرين الثاني نوفمبر 1932. وأردت ناديا نفسها قتيلة بعد مشادة كلامية مع زوجها اثناء حفلة عشاء في عيد الثورة الخامس عشر. ولقيت ناديا حتفها في الحادية والثلاثين ربيعاً فيما كان ستالين في الثانية والخمسين. فقد ستالين زوجته الأولى "كاتو سفانيتزي" في ظروف مأسوية، فهي توفيت بين ذراعيه من السلّ عام 1907، وله منها ولد وحيد. قال ستالين لصديقه في مراسم دفنها: "ليّنت هذه المخلوقة قلبي الحجر. ماتت فأخذت معها مشاعري الدافئة حيال البشر". ساهم انتحار زوجة ستالين الثانية ناديا بعد 25 عاماً في زيادة قسوة قلبه. كان العشاء المشؤوم في شقة المارشال الأول "كليم فوروشيلوف" وزوجته "ايكاتيرينا". وكان آل فوروشيلوف يقطنون شقة في الكرملين ويعيشون، اسوة برفاق ستالين الآخرين، في عالم منعزل وسريّ يصفه مونتفيور ب"القرية الحميمة". حضرت النخبة البلشفية بأكملها حفلة العشاء، بمن فيهم رئيس الوزراء "مولوتوف" وزوجته اليهودية النحيفة والذكية واللعوب "بولينا" صديقة ناديا الحميمة. كان مضى على زواج ستالين وناديا 14 عاماً. وكان دم غجري وجيورجي وروسي وألماني يسري في عروق ناديا التي كانت تعاني الهستيريا والإحباط، فتصيح بزوجها امام العلن وعلى الدوام. وتبرز الرسائل المتبادلة بين الزوجين علاقة معقدة وإن كانت قائمة على الحب. اعتنت ناديا بمظهرها لحفلة العشاء اعتناء فائقاً. ارتدت ثوباً طويلاً اسود نقشت عليه ورود حمر بإتقان، وزيّنت شعرها الأسود بخصلات حمر. إلا ان ذلك كله ما كان ليثني ستالين عن مغازلة الممثلة "غاليا يغوروفا". وعندما رفع كأسه شارباً نخب "سحق اعداء الدولة" لاحظ ان زوجته لم تحذُ حذوه فصاح بها حانقاً: "هاي! أنت! ارفعي كأسك!" فردّت عليه بغضب: "ليس اسمي "هاي"!. وغادرت الغرفة غاضبة فلحقت بها بولينا مولوتوفا لمواساتها. ويقال إن ستالين غادر العشاء بعد ذاك قاصداً احد منازله مع امرأة ما. حرّرت ناديا رسالة مروعة وجّهتها الى ستالين ثم اجهزت على نفسها بمسدس. يعلّق سيباغ مونتفيور: "انتهت حياة المجموعة الهانئة في تلك الليلة وبدأ العذاب". ويلمح الى ان انتحار ناديا قد يكون سبباً لمسلسل الرعب الذي تجلّى عبر تصفية معظم ضيوف حفلة العشاء في السنوات اللاحقة. وتعطي الصور المنشورة في الكتاب لمحة عن حياة "حاشية" ستالين. ويظهر فيها ستالين بالأسود والأبيض محاطاً ب25 رجلاً وامرأة، وفي صورة اخرى محاطاً بالنساء. اعتقل الكثير ممّن ظهروا في الصورتين، او تعرضوا للتعذيب او قتلوا او أعدموا في العقدين التاليين. ولم ينجُ احد من هذا المصير، حتى أسرة زوجة ستالين الأولى آل "سفانيتزي" وأسرة زوجته الثانية آل "عليلوييف". ويظهر "لافرانتي بيريا" الجيورجي العديم الشفقة الذي ترأس في ما بعد جهاز الاستخبارات في مقدم الصورة. واستطاع بيريا البقاء حياً في حقبة ستالين، ثم اعتقل بعد بضعة اسابيع من وفاته في حزيران يونيو 1953، وحكم عليه بالإعدام رمياً بالرصاص بتهمة الخيانة والإرهاب. ادى بيريا دوراً اساسياً في المصير الأسود الذي لقيه الأشخاص الظاهرون في الصورة، بمن فيهم "نستور لاكوبا" وزوجته. وكان نستور حاكم ابخازيا اللطيف، الذي بنى لستالين منازل جديدة على امتداد السنين وحضّر له المآدب. دعا بيريا لاكوبا الى العشاء عام 1937 ثم قصدا المسرح معاً. ألمّ مرض مبرّح ب"لاكوبا"، فقفل عائداً الى الفندق صائحاً: "ويحاً، قتلني الأفعى بيريا". وتوفي بذبحة قلبية وهو لا يتخطى الثالثة والأربعين. "تولى بيريا شخصياً مهمة تعذيب عائلة لاكوبا، فدفع بأرملته الى حافة الجنون عندما دسّ لها افعى في زنزانتها وضرب اطفالها ضرباً مبرحاً. وفي الصورتين امرأة جميلة دافئة الابتسامة جالسة قرب قدمي ستالين بثوبها الفضفاض وياقتها البيضاء. إنها "زينيا عليلوييف" زوجة "بافيل عليلوييف" شقيق ناديا. بعد انتحار ناديا قصدت زينيا ذات ليلة شقة ستالين. سمعت صيحة غريبة فتوجهت الى مكان الصوت لتجد ستالين متهالكاً على أريكة، شبه مغميّ عليه وهو يبصق على الحائط. ادركت انه كان قابعاً هناك منذ زمن طويل لأن الحائط كان يرشح بالبصاق. نظر إليها قائلاً: "حطّمت حياتي. جعلتني كسيحاً". كان ستالين معجباً بزينيا التي سكنت معه لاحقاً بعد وفاة ناديا واهتمت به. كان يغدق عليها بالإطراء لأناقة هندامها، مشجعاً إليها امتهان تصميم الأزياء "عليك تلقين السوفياتيات الأناقة!". وفق سيباغ مونتفيور، تطورت العلاقة بين ستالين وزينيا في العام 1934، وربما اضحيا عاشقين. وتؤكد ابنة زينيا الفنانة كيرا للمؤلف "كان ستالين مغرماً بوالدتي". إلا ان ستالين بدأ يبتعد عن اقربائه منذ عام 1937، وفي كانون الأول ديسمبر خضع افراد عائلة عليلوييف جميعاً للتحقيق، ولم يدعوا للاحتفال بعيد مولد ستالين. توفي بافيل زوج زينيا مسموماً في العام التالي، واتهمت زينيا بقتله بعد بضع سنوات. ويعلق مونتفيور: "كان ستالين يتهم الآخرين بجرائمه احياناً. لن نعرف الحقيقة ابداً". قال بيريا لزينيا بعد موت بافيل: "أنت امرأة لطيفة وجميلة، أتريدين الانتقال وتولي شؤون منزل ستالين؟!. كانت تلك بمثابة دعوة من ستالين للزواج، إلا أن القلق قضّ مضجع زينيا فأسرعت بالاقتران من صديقها المهندس اليهودي، فكان رد فعل ستالين حانقاً: اعتقلت زينيا عام 1947 واتهمت ب"نشر معلومات قادحة بحق رئيس الحكومة السوفياتية". حكم عليها بالسجن عشر سنوات، وعلى ابنتها "كيرا" بخمس سنوات ل"نقل معلومات عن حياة عائلة ستالين الخاصة للسفارة الأميركية". اطلق سراح زينيا بعد وفاة ستالين إلا انها بقيت معجبة به حتى وفاتها عام 1974. ويذكر سيباغ مونتفيور الصلة اليهودية للأحداث المحيطة ب"حاشية" ستالين، وعنون فصلاً من الكتاب وفق الآتي: "يهوديات ستالين والعائلة في خطر". كان "لازار كاغانوفيتش" زميل ستالين اليهودي. وسرت إشاعات بعد وفاة ناديا ان ستالين وقع في غرام شقيقته وتزوجها، او تزوج ابنة اخته او ابنته مايا التي كانت تشبه اليزابيث تايلور الى حد بعيد. كانت تلك دعاية مفيدة للنازيين، بما ان مصلحتهم تقضي ب"دمج الشيطانين اليهودي والبلشفي بشخص السيد والسيدة ستالين للادعاء بأن لستالين زوجة يهودية" إلا ان تلك المعلومة بقيت في منزلة الخرافة. ووفق سيباغ مونتفيور كانت الخادمة الشابة "فالنتينا فازيليفنا استومينا" التي عملت لدى ستالين منذ 1938 زوجة ستالين السرية. وكانت تلك المرأة المثالية بنظر ستالين: عارمة النهدين، كثيفة الشعر، ناعمة الأنف، فلاحة ريفية راضخة وعملية في كل معنى الكلمة. وكانت تكرس نفسها لستالين وتتميز بخفة ظلها ووجودها المستمر بالقرب منه عند الحاجة. إلا انه "بقي وحيداً لأنها ما كانت لتكون رفيقة الرجل السياسي هذا". كانت بولينا زوجة مولوتوف اكثر زوجات السياسيين سطوة وكانت تعتبر "السيدة الأولى" عام 1934، عندما التقطت صورة "حاشية" ستالين. وكان مولوتوف يجدها ذكية، رائعة الجمال، وأهم من ذلك كله بلشفية مثالية. وكان متيماً بها ويمجدها في رسائله تمجيداً لا مثيل له. اما بولينا التي كانت تعبد ستالين فكانت امرأة طموحة تتوق الى إنشاء مصنع للعطور. لقيت بولينا مصيرها المشؤوم بعد زيارة غولدا مائير موسكو في ايلول سبتمبر موفدة لدولة اسرائيل الحديثة الوجود. قصدت غولدا مائير كنيس موسكو الكبير بمناسبة رأس السنة اليهودية والتقت فيه بولينا مولوتوفا وتحدثت معها بالعبرية. امر ستالين مولوتوف بطلاق زوجته فانصاع له مع انهما كانا يحبان بعضهما بعضاً بجنون. وصوّت مولوتوف قسراً لمصلحة طرد بولينا من الحزب لإقامتها "علاقات وطيدة مع القوميين اليهود". اعتقلت بولينا وأختها وطبيبها ومعاونوها في حملة الاعتقالات التي طاولت اليهود في تشرين الثاني نوفمبر 1948 وكانت ترتدي معطفاً من فرو السنجاب توفي اخوها وأختها في السجن. وعلى رغم ان بولينا انكرت الاتهامات السياسية والجنسية كلها الموجهة ضدها حكم عليها بالنفي خمس سنوات. اختفت بولينا فخال الكثيرون انها توفيت إلا ان بيريا كان يهمس لمولوتوف في اجتماعات بوليتبورو "ما زالت بولينا على قيد الحياة!". أطلق سراحها اخيراً عام 1953 بعد مراسم دفن ستالين مباشرة فعاد بها مولوتوف الى البيت. وبقيا من المدافعين عن ستالين والمبررين لأساليبه. توفيت بولينا عام 1970 ومولوتوف عام 1986. اما الزوجة اليهودية الأخرى التي عرفت نهاية مأسوية مشابهة فهي برونكا بوسكريبيشيف. وقع رئيس حكومة ستالين "الكسندر بوسكريبيشيف" في غرام هذه الطبيبة المتزوجة في حفلة حضرها عام 1934 عندما كانت في الرابعة والعشرين وهو في الثالثة والأربعين وقدّر له الاقتران بها. كانت برونكا شقيقة طبيب الكرملين "ميتاليكوف". وكان بوسكريبيشيف القبيح متيماً بزوجته الجميلة وكان الناس يطلقون عليهما تسمية "الجميلة والوحش". في نيسان ابريل عام 1937 ارتدت برونكا اجمل ثيابها وذهبت خلسة لزيارة ستالين وحدها لتطلب منه اطلاق سراح اخيها المعتقل كانت زوجة اخيها قريبة تروتسكي. وكان ستالين يبغض توسل النساء له لإنقاذ اقاربهن، لذا رجعت برونكا من مهمتها خالية الوفاض مكسورة الخاطر. اخبرت ابنتها ناتاليا - التي ولدت بعد تسعة اشهر من هذه الزيارة - سيباغ مونتيفيور ان ستالين هو والدها الحقيقي، إلا ان المؤلف يعتبر ذلك الأمر عارياً من الصحة لأنها تشبه والدها بوسكريبيشيف الى حد بعيد. اتصلت برونكا ببيريا بعد سنتين طالبة منه ملاقاتها للتحدث في شأن اخيها. لم يرها احد بعد ذلك. وعلى رغم ان بوسكريبيتشيف توسّل ستالين إطلاق سراح زوجته، جاوبه هذا الأخير: "لا تقلق، سنجد لك زوجة اخرى". وقتلت برونكا بعد سنتين من الاعتقال بطلقة نارية وهي في الحادية والثلاثين من عمرها عند دنو الألمان من موسكو. وتزوج بوسكريبيشيف من جديد فعلاً. كانت الشابة اليهودية يفغينا يزوفا" صديقة برونكا الحميمة متزوجة من رئيس الاستخبارات المرعب نيكولاي يزوف الملقب ب"قزم السم" لم يكن طوله يتعدى ال151 سنتمتراً على رغم ان ستالين كان يدعوه باسمه المحبوب "التوت الأسود". قال رفيقه عنده ذات يوم "لا يعرف يزوف متى عليه ان يتوقف". وكان ذلك صحيحاً بالنسبة الى نشاطاته الإرهابية وحياته الشخصية. كان يزوف ثنائي الجنس يقيم علاقات جنسية مع الرجال والنساء على السواء. كتب سيباغ مونتفيور: "بينما كان يزوف يذبح ضحاياه، كانت زوجته تصادق نجوم الفنانين وتضاجع معظمهم". شمل صالونها الفنيّ الكاتبين اسحق بابل وميخائيل سولوخوف، والممثل اليهودي سولومون ميخويلز والمخرج السينمائي ايزنشتاين. اغتيل معظم عشاقها في ظروف غامضة. عندما ادرك يزوف ان بيريا سيستخدم يفغينا ضده عبر اتهامها بالتجسس للإنكليز، طلب منها الطلاق في ايلول 1938، ليحميها من الاعتقال على ما يبدو. قررت يفغينا التضحية بذاتها لإنقاذ زوجها وابنتها. عرضت على يزوف التخلّص من حياتها عبر تناولها جرعات كبيرة من حبات المنوم. طلبت من زوجها ان يرسل إليها تمثال قزم صغير عندما يحين وقت الانتحار. وفعلاً أرسل إليها يزوف التمثال الصغير والدواء فاستغرق موتها يومين بعد تناولها حبات المنوم. ولكن بعد يومين استقال كل من ستالين ومولوتوف وفوروشيلوف ويزوف من الاستخبارات. وعيّن بيريا مكان يزوف، واستقدم ستالين زمرة بيريا من جورجيا لتدمير زمرة يزوف ومعاونيه. * كاتبة بريطانية.