بعد أن حصل محترف "صحراء 93" المسرحي على دعم دوري من وزارة الثقافة، وقع اختيار المهرجان المسرحي السنوي البلجيكي - الهولندي هذا الموسم على مسرحية "العدادة". في هذا المهرجان السنوي يتم اختيار أفضل أعمال الموسم المسرحي المنصرم. "العدادة هي أحد أفضل عروض الموسم المسرحي" كتبت صحيفة De Morgen البلجيكية تحت عنوان "مجابهة فريدة بين الطقوس والواقع" وأضافت: "لن يمر وقت طويل حتى تصبح "العدادة" تمتمة غدير في جبل تحملك في جداولها من دون عناء لتمر بك فوق رمال الحب وأشنات الرياء والجوع. الأشنات ذات المذاق الحريف... في مسرحية "العدادة" نجح الفنان العراقي الأصل حازم كمال الدين كما لم سبق له أن ينجح في توحيد أواصر مشاربه الإبداعية العراقية مع التقاليد المسرحية الغربية من مثل الكوميديا دي لا رتي". هذا ما كتبه الناقد المسرحي واوتر هيلارت في صحيفة De Morgen . في المدينة المظلمة يترجّع الصدى: صوت "العدادة". عدادات تحت ضوء الشموع. حكايات تطلّ وتختفي كجذوة شمعة في ريح. حكايات عصية على الامساك كمثل شعب يبحث عن مقومات البقاء في لا دولة ولا مياه ولا كهرباء. حكايات كالرؤى تستقرئ ما يحدث وتؤرخ لحرب سوريالية قبل أن تقع. عمّ الخراب كل شيء بعد الغزو، ما عدا الذهب الأسود والقائد الذي كان سبب كل شيء. اختفى القائد وما زال ثمة من يهمس أنه سيعود!! انه حتى إذا ما مات فستتحطم مزاليج أبواب الجحيم وسيعود خالداً خلود الشر لكي يحكم أرض التصحّر. حتى بعد ولادة الشعب الجديدة، ما زال يهيمن على الغزاة ارتباك وحيرة تجاه الشعب. فردود أفعال الشعب ردود أفعال عدوانية. تم "تحريرهم" من الطاغية، لكنهم ما زالوا يدورون في متاهة مغلقة لا تستطيع حتى قبضة من الهواء أن تجد مخرجاً لها منها. ذلك أن المنطقية وعلاقة الأسباب بالنتائج هي من المفاهيم التي غابت منذ زمن طويل من قاموس بلاد الصحراء. وكل ما تبقى هناك هو اللهاث خلف اللقمة: - يا خباز ال...!! لن أتحرك من مكاني قبل أن أحصل على الخبز!! - هل رأيت العسس؟ انهم ينتشرون في كل مكان، في كل زاوية، وفي كل مدخل!! - نعم، رأيتهم. ومنذ أن غادر زوجي البيت هذا الصباح وأنا ميتة من الخوف. - يا خباز الخر ...! أسرع.. أريد خبزاً. أريد خبزاً! إنها حكاية تحكيها "عدادة" تندب الموتى، وترثي الحب الذي تناهبته رياح الشر وتنثره براعم مسمومة في كل مكان. قصة صريحة عن أشياء معقدة جداً في الظاهر، لكنها في واقع الحال بسيطة وواضحة. قصة كالرؤيا تنشرها الريح فترتحل صوب الثنايا النائية في عالمنا المجدب. قدمت مسرحية "العدادة" للمرة الأولى إبان الحرب وتناول فيها المؤلف والمخرج حال العراق أثناء الحرب وما بعدها والموقف من الديكتاتور ومن الاحتلال الاميركي. الشخصية المحورية في المسرحية هي "الخنساء". تلك التي نهلت الحكمة من صدور الحكيمات، من بطون الكتب، من رؤوس العالمات وتعلمت أصول السحر وفكّت رموز الخطوط الهيروغليفية والمسمارية. هي تلك التي ورثت وحدها ثروة أبيها الهائلة، ثروة تاجر بغداد الكبير: تاج محل. كانت الخنساء تعيش في بغداد حيث الخليفة سميرخان. سميرخان خليفة بغداد كان زير نساء. يتزوج من أجمل العذارى ويهجرهن بعد ثلاثة أشهر... ثم يتزوج أجمل العذراوات ليهجرها بعد اشهر ثلاثة. يتزوج ويهجر، وإذا بالخنساء تحتل قلب الخليفة، وبدلاً من أن يرميها الخليفة بعد ثلاثة أشهر أعلنها درّة للتاج. ولم يكتف الخليفة بذلك. ففي لحظة نشوة رمى وزيره خارج القصر وسمّى زوجته الخنساء وزيراً فأصيبت المدينة بصدمة عنيفة. "هل يمكن امرأة تحيض أن تتملّك مقاليد الضريبة المقدسة وأحكام الشريعة والزكاة؟". هكذا صاح وزير الخزانة، وأشعل النزاع. صار النزاع فتنة تمكنت بعد زمن من أن تنخر حتى بيت الخليفة وزوجته، فاستحالت الفتنة حريقاً: الخنساء ترمي بمالها وسلطة السوق كزيت الحريق فيجيبها الخليفة بالحطب: بالعسكر. اندلع الحريق في الشوارع وانقسمت المدينة اثنتين، وتصاعد الدخان واقتربت النجوم من الشمس وكادت تذوب وانطبقت السماء على الأرض وحانت الساعة. هذا هو جزء مما تخبرنا به "عدادة" بغداد، تلك التي روت كل القصص واكتشفت منابع أصول الحكمة، تلك التي سنّت أصول الطقوس وصارت وسيطاً بين عالم الدنيا وعالم الآخرة. العمل يتناول إذاً حال بغداد الآن، ولكن الرسالة كما هو معروف من أسلوب المخرج لا تحملها الشعارات، وإنما أجساد الممثلين والفضاءات. ولهذا لم تسجل مسرحية "العدادة" نجاحاً كبيراً في المسرح البلجيكي فقط بعد أن كتب عنها في الصحف باعتبارها أهم عروض الموسم المسرحي الحالي! كانت المسرحية استقراء مبكراً لما حدث بعد الحرب. كتب حازم كمال الدين العراقي الأصل مسرحية "العدادة" وأخرجها أثناء التحضيرات للحرب الأميركية ضد العراق، وقد تم افتتاح المسرحية يوم 26 آذار مارس 2003. رأى الفنان كل الأطراف، رأى المجازر ورأى المقابر. وعلى خشبة المسرح طرق أسئلته كالمسامير، أسئلة ما زالت قائمة حتى هذه اللحظة. بل ربما هي تلح علينا اليوم أكثر من تلك الأيام. نفخ مؤسس محترف "صحراء 93" المسرحي الروح في الطقس العراقي المعروف بطقس "العدادة"، ومنح هذا الإرث قيمة معاصرة. * تعرض المسرحية في المهرجان المسرحي البلجيكي الهولندي السنوي في المركز العالمي للثقافة de Singel من يوم 29 آب أغسطس حتى السادس من أيلول 2003سبتمبر في الساعة الثامنة مساء. يشترك في العرض المسرحي تمثيلاً: ليزا بويتارت، تينيكه كالس، حازم كمال الدين تأليف واخراج، جونيور مي توم بني تمثيل وموسيقى، تانيا بوبه اعداد وتمثيل، راف فان تويكم اعداد ودراماتورجي.