منذ ان اقدم الرئىس العراقي المختفي والمخلوع، صدام حسين، على غزو الكويت عام 1990، واستجلب بعدها حضوراً اميركياً مكثفاً في المنطقة، جاء مبكراً او في ميعاده لا فارق، ادركت، على رغم سني عمري الصغيرة آنذاك، انه ليس بالقائد القومي، وحارس البوابة الشرقية من الايرانيين، كما كان يروج له جيش صحافي يكتب فيه الحكايات البطولية، ويصنع منه اسطورة على النمط الناصري في الصحف المصرية. وعندما عرفت عنه المزيد حلبجة، وانتفاضة الجنوب العراقي، والهياكل العظمية المتراصة في مقابر جماعية، والسجون الشيطانية، والرعب الذي كان مختلطاً بالهواء الذي يتنفسه العراقيون، تساءلت: كيف يمكن ان يرى من كتب عن صدام حسين، ووصفه بكل هذه الصفات التي تقترب من النبوة، ان يقف امام المرآة ويواجه نفسه؟ كيف يمكنه ان يمسك قلمه ويكتب زيفاً وزوراً مرة اخرى؟ في مجالس النميمة الصحافية في مصر التي اقتربت من واحدة منها ذات يوم، يتحاكون، باقتناع تام وثقة لا مرد لها، عن ان واحداً من رؤساء تحرير احدى الصحف ذات الشهرة، كان يتقاضى من دون علم السلطات، قبيل سقوط بغداد في يد الاحتلال الاميركي، نقوداً من نظام صدام، وان ذلك وضعه في تصادم مع الحكومة المصرية بعد شهر عسل طويل وممتد. الكارثة ليست في صدام فحسب. فهو سقط، فطفقنا جميعاً ننهش جسده، ونخرج كل ما هو مخنوق ومحبوس في نفوسنا من زفرات وآهات ورغبات. وهي لعبة قديمة نلعبها دائماً مع كل من يسقط. فعلناها من قبل مع عبدالناصر الذي لم يجرؤ احد ان يتفوه في عهده بلفظة "لا". وامتلأت في عهده السجون، وتعذب من تعذب، ومات من مات. ومع ذلك تجد مثقفاً يخرج بثقة ليقول لك، في حكمة وهو ينفث دخان السيجار الفخم في وجهك: "لا، لا، عبدالناصر كان لا يعرف شيئاً عما يدور من خلفه في المعتقلات والسجون وما كان يفعله الوحشيون من اتباعه". ولا اعرف كيف يمكن ان يكون عبدالناصر زعيماً للوطن العربي بأسره، ولا يدرك، على رغم كل هذه السطوة والجبروت، ما يجري في سجون بلاده؟ فعلناها مع الملك حسين. فبعدما رحل خرج من يكتب عن علاقاته مع اسرائىل، وكيف انه استقل طائرة خاصة، وانطلق بها من الاردن صوب اسرائىل في يوم الخامس من تشرين الاول اكتوبر عام 1973 ليخبرهم بموعد الهجوم المصري - السوري في اليوم التالي. ولم يتفوه احد بكلمة واحدة عن علاقاته. فعلناها مع الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، وان جاء تولي ابنه بشار للسلطة في سورية مخففاً من حدة الهجوم إلا انك تطالع من يبارك اصلاحات الرئىس بشار في سورية، وميله للحوار، وإتاحته لبعض الحريات التي كانت ممنوعة في عصر والده، في اشارة ضمنية الى القبضة الحديد التي كان يحكم بها الرئىس الراحل. كل هذا يبدو حلقة من مسلسل تعمية الشعوب الذي يجري بواسطة مثقفين وكتّآب وصحافيين آثروا السلامة، وعدم الصدام مع السلطة - أي سلطة - لأنها كاسحة تستأصل من يقف امامها. وهم بذلك يقتلون الحقيقة والشعوب العربية في ذات الوقت، فليست الشجاعة ان تقول للغول انت قبيح بعد ان يموت الغول بسنوات طويلة. كما ان القتيل لا يستفيد مطلقاً من محاكمة قاتله بعد ان يكون مات هو الآخر، وشبع موتاً الأمر الذي يصيب المرء بالحسرة عندما يرى "المفرمة" التي تصنعها الصحافة الاميركية والانكليزية لكل من بوش وبلير، بسبب الكذب في شأن حرب العراق. فهم يكذبونهما، ويطعنون في سلامة نياتهما. وهو ما هدد - بل لعله انهى بالفعل - مستقبلهما السياسي في بلادهما، بينما في العالم العربي كلنا يؤثر السلامة، والوقوف بجوار الحائط، بل والتحول في احيان كثيرة الى جزء من الحائط نفسه - راضياً هانئاً بما ظفر به في عالم قاس لا يرحم. يتساوى في ذلك الصحافي الذي يخفي خبراً مهماً، والمثقف الذي يعقد صفقة مع الحكومة، والكاتب الذي يصنع كذباً، والمواطن العادي الذي يتحمل كل هذا ولا يملك الرغبة في اعمال عقله. الدقهلية مصر - محمد هشام عبيه بكالوريوس علوم وتربية [email protected]