معلوم ربما ان مسألة امتلاك العراق اسلحة دمار شامل باتت تحمل في بريطانيا اسم "الملف المريب"، أي الملف الذي يتضمن جملة التلفيقات التي اذاعها رئيس الحكومة توني بلير ومدير مكتبه للشؤون الإعلامية والذي بات يهدد مستقبل بلير السياسي. ومعلوم ايضاً ان قسماً من الصحافيين الأنغلو - ساكسون، خصوصاً في الولاياتالمتحدة، باتوا يتحدثون عن "اسلحة الاختفاء الشامل" بعد انقضاء شهرين ونصف على احتلال العراق من دون العثور على شيء، ومن دون الاعتذار على الإجحاف الذي ألحق بعمل المفتشين الدوليين الذين تصرفوا بنزاهة لم يتوقعها كثيرون في العالم. وأجرت صحيفة "لوموند" الفرنسية في عددها الصادر بتاريخ 13 حزيران/ يونيو الفائت مقابلة مع رئيس المفتشين الدوليين عن الأسلحة الكيماوية والجرثومية في العراق، السيد هانز بليكس، وسألته إذا كان صحيحاً انه قال في حديث لصحيفة "الغارديان" البريطانية قبل يومين، بأن هناك "أنذالاً" في الإدارة الأميركية؟ وأجاب بليكس بأنه لم يقل ابداً بأن هناك أنذالاً في الإدارة، بل في واشنطن. وكان يعني بعبارته هذه عدداً من الأشخاص العاملين في القطاع الخاص والذين ظلوا ينتقدون عمل الوكالة الدولية للطاقة الذرية طوال التسعينات. وعندما سئل بليكس عن رأيه في واقعة ان الأميركيين يطلبون اليوم قدراً من الوقت ومن الصبر لاكتشاف اسلحة الدمار الشامل، فيما كانوا يفصحون عن فراغ ضميرهم حيال عمل المفتشين الدوليين، اجاب الرجل بأنه يتمنى لهم حظاً طيباً، ذلك اننا كلّنا نريد معرفة الحقيقة. ومن المفترض ان يكون إثبات الحقيقة امراً أسهل عليهم منّا". فالشهود باتوا يستطيعون التحدث من دون ان يشعروا بالخوف، "والنظام التوتاليتاري سقط". ومن دروس الأزمة العراقية، يرى بليكس بأن القيام بتوجيه ضربات استباقية على قاعدة معلومات صادرة عن اجهزة الاستخبارات السرية لهو شيء ينبغي التعامل معه بحذر فائق. فهذه ليست المرة الأولى التي تستخدم فيها القوة بالاستناد الى معلومات استخباراتية يتبين في ما بعد انها خاطئة. فقد حصل هذا لدى قصف السفارة الصينية في بلغراد، ولدى تدمير مصنع للمشتقات الكيماوية في موقع قريب من مدينة الخرطوم. في الحال العراقية، يضيف بليكس اندلعت حرب بالاستناد الى معلومات استخباراتية، ونحن لا نعلم بعد اذا كانت هذه المعلومات صحيحة. "على ان السؤال يُطرح: على اية قاعدة يمكن البدء بشن حرب؟ هل هذه القاعدة صلبة بما فيه الكفاية؟ وما هي الأهمية المعطاة للحصول على إذن من مجلس الأمن يجيز الحرب؟". بعد عشرة ايام، اي ليل الاثنين في 23 حزيران/ يونيو الفائت، كرّر بليكس تقويماته الحذرة والمنقحة امام مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك. فقال انه لا يستبعد "احتمال عثور المفتشين الأميركيين على شيء ما". لكنه استدرك قائلاً: "من المحيّر بعض الشيء ان تكون اكيداً مئة في المئة في شأن وجود اسلحة الدمار الشامل، وغير اكيد على الإطلاق حول مكان وجودها". وشدد بليكس على ان الدليل على وجود مثل هذه الأسلحة "كان دائماً غير ثابت"، بما في ذلك شهادات المنشقين العراقيين والنتائج المهمة لتفتيش الشاحنات التي اكدت واشنطن مراراً انها تشتبه في كونها مختبرات متحركة. وتساءل بليكس كيف توصلت دول مثل الولاياتالمتحدةوبريطانيا الى استنتاجات قوية بناء على المعلومات الاستخباراتية المتوافرة، وأضاف: "مرة اخرى كان هناك تسرّع في التوصل الى استنتاجات، بينما كنا نحن اكثر حذراً". وشكا بليكس من ان "انموفيك" لم تمنح الوقت الكافي لاستكمال عمليات التفتيش قبل غزو العراق. وعبّر عن استغرابه ان تدعو الولاياتالمتحدة اليوم الى التحلّي بالصبر بانتظار نتائج بحثها عن الأسلحة. واعتبر بليكس انه كلما طالت فترة الاحتلال الأميركي - البريطاني من دون العثور على اسلحة محظورة، كلما قوي الاعتقاد بأن بغداد دمرتها بعد حرب الخليج الثانية عام 1991. قد يكون مفيداً التذكير بأن فرق "انموفيك" نفذت خلال 15 اسبوعاً من عملها 731 عملية تفتيش في 411 موقعاً مشبوهاً، وأن السيد بلكيس الذي انتهت مدة وظيفته الدولية منذ عشرة ايام تقريباً، كان يدافع ليس عن شرفه المهني وعن راحة ضميره خلال السنوات المقبلة والباقية من حياته فحسب، بل كان يدافع بلغة مشذّبة عن صدقية الهيئات الدولية وصلاحية الاحتكام إليها. فهو يعلم قبل غيره ان من اتفاقات الأمور، الغريبة بعض الشيء، ان الإدارة الأميركية الحالية اختارت احد الذين واظبوا على التحامل والتشكيك في عمل بليكس وفريقه، واسمه دافيد كاي، ليكون مستشاراً في مجال البحث عن اسلحة الدمار الشامل، ولمساعدة مدير ال"سي آي ايه" جورج تينيت، سيكون مقر المستشار الجديد، الذي كان في عداد مفتشين دوليين سابقين، في بغداد. وتدور مهمته على "إرهاف البحث الشامل عن اسلحة الدمار العراقية". وعمليات البحث هذه انيطت اخيراً بفرقة تابعة لوزارة الدفاع البنتاغون، وتتألف من 1400 عسكري، مما يؤذن مجدداً بازدياد التنافس بين الأجهزة العاملة في هذا المضمار. ولم يعد سراً، ان هناك صراعات داخل الإدارة الأميركية. وهي تدور، في بعض وجوهها، على تعيين الطرف الذي يمكن ان يتحول الى كبش فداء ويدفع ثمن التلفيقات المتعلقة بامتلاك العراق اسلحة دمار شامل. ويبدو، بحسب بعض التقارير الصحافية، ان وكالة ال"سي آي ايه" غير مستعدة لدفع هذا الثمن بدلاً من هيئات اخرى، وتحديداً من البنتاغون والهيئة المتصلة به التي تحمل اسم "مكتب المخططات الخاصة"، وهو مكتب انشئ بعد اعتداءات 11 ايلول سبتمبر وعلى يد الرجل الثاني في وزارة الدفاع بول وولفوفيتز. وتشير التقارير نفسها الى ان المكتب المذكور نجح في إقناع البيت الأبيض بفكرة ان وكالة ال"سي اي ايه" لم تكن تدرك حقيقة وواقع التهديد العراقي. وبات معلوماً اليوم ان "الوثائق" المتعلقة بمحاولات عراقية لشراء اليورانيوم من ان النيجر كانت مزيفة ومزورة. ولدى تقديم هذه الوثائق الى البيت الأبيض لم تقل ال"سي آي ايه" بأنها مزوّرة، فتحدث عنها الرئيس بوش في خطابه عن "حال الاتحاد". ففي 28 كانون الثاني يناير الفائت اتهم الرئيس بوش العراق بالشروع في تطوير برنامجه النووي ساعياً الى شراء اليورانيوم من افريقيا. وخلال الفترة ذاتها عاود رامسفيلد وغوندوليزا رايس الحديث عن الموضوع ذاته، ناهيك عن انه أدرج ضمن لائحة مختصرة تتضمن ابرز الاتهامات الأميركية ضد العراق ونشرت اللائحة في مطبوعات وزارة الخارجية الأميركية. وأظهرت تحقيقات وتحريات صحافية اميركية ان هذه المعلومة صدرت نهاية عام 2001 عن الاستخبارات الإيطالية، وتلقفتها كما هي الأجهزة الأميركية والبريطانية. وخرجت الى العلن للمرة الأولى في تقرير مظنون فيه أذاعه توني بلير في 14 ايلول 2002. ويبدو ان وكالة الاستخبارات الأميركية كانت تعلم منذ شهر شباط فبراير 2002 بأن هذه المعلومة ملفقة ومغشوشة، ففي مطلع شهر شباط هذا من عام 2002 ارسلت ال"سي آي ايه" الى النيجر سفيراً سابقاً للتحقق من واقعة المحاولة العراقية شراء اوكسيد اليورانيوم في عام 2000. والتقى الديبلوماسي الأميركي السابق برئيس النيجر وبالكثير من اعضاء الحكومة وموظفي الإدارة ربما في ذلك اولئك الذين قيل انهم ضالعون في الصفقة. وتوصل بسرعة الى خلاصة مفادها ان الموضوع كله زائف جملة وتفصيلاً، وأنه جرى تدبيج رسائل مزورة بين عملاء عراقيين مزعومين وبين اعضاء في حكومة النيجر. وتوصل محمد البرادعي في 8 آذار مارس الى الخلاصة ذاتها بعد بضعة اسابيع من حصوله على الوثائق. واعترف البيت الأبيض قبل ايام بحصول اخطاء، وذلك إثر نشر الديبلوماسي السابق، واسمه جيمس ويسلون، مقالة في صحيفة اميركية عن ملابسات المسألة وعن خلاصات مهمته الاستخبارية في النيجر. كذلك اعترف مدير وكالة ال"سي آي ايه" اخيراً انه ما كان ينبغي ان ترد هذه القضية في خطاب الرئيس بوش، ملقياً على نفسه وعلى وكالته مسؤولية استخدامها، فهو اعلن: "انني مسؤول عن عملية الموافقة في وكالتي". وأضاف شارحاً باختصار: "كان لدى الرئيس كل الأسباب التي تجعله يعتقد ان النص المقدّم له سليم، لم يكن يتعين ابداً إدراج الست عشرة كلمة تلك ضمن النص المكتوب للرئيس". وكان تينيت اصدر بيانه هذا بعد ساعات من إعلان بوش ان اجهزة الاستخبارات الأميركية وافقت على اتهام العراق بأنه حاول شراء يورانيوم من افريقيا. عقب بيان مدير الوكالة الاستخباراتية اعلن بوش في ختام جولته الافريقية: "أثق في جورج تينيت. أثق في الرجال والنساء الذين يعملون في الاستخبارات المركزية. وأتطلع للعمل معهم". ورد بوش بالإيجاب على سؤال لمعرفة ما اذا كان يعتبر الجدل في هذا الموضوع انتهى. وهذا ما اكده آري فليشر، المتحدث باسم البيت الأبيض، امام الصحافيين اثناء زيارة بوش في العاصمة النيجيرية، فقال ان "الرئيس تجاوز الأمر وأعتقد بصراحة ان معظم البلد الولاياتالمتحدة تجاوز الأمر ايضاً. الرئيس يثق في تينيت. ويثق في الاستخبارات المركزية الأميركية". يفهم من سلسلة التصريحات المتصادية الأخيرة، انه تم التوصل الى تسوية بين اجهزة الإدارة الأميركية، وهي تسوية لا يموت فيها الذئب ولا يفنى الغنم. وهذا معنى الإعلان عن الانتهاء من هذه القضية، علماً ان المسألة لم تنته ما دامت تتعلق بشرعية الحرب وتوسلها بالكذب والتلفيق. وكان صاحب العبارات الرؤيوية الجامعة والقليلة، اي وزير الدفاع دونالد رامسفيلد، المتمتع على ما يبدو بشاعرية بيروقراطية رثة، صرّح في 29 ايار مايو قائلاً بأنه "من الممكن ان يكون العراق قام بتدمير اسلحته الكيماوية والبيولوجية قبل الحرب". اثار هذا التصريح سجالاً في الصحافة الأنغلو - ساكسونية وغيرها، الأمر الذي اضطر رامسفيلد الى تصويب رميته، فقال بعد يومين اثنين بأننا "كنا وما نزال دائماً نعتقد بأن العراقيين يمتلكون - او امتلكوا - اسلحة بيو - كيمياوية، وبأنهم كانوا يمتلكون برنامجاً لتطوير اسلحة نووية، ولكنهم لم يكونوا يملكون هذه الأسلحة". ويرفض رامسفيلد الرأي القائل بأنه لم يتم العثور على اسلحة الدمار لأنها غير موجودة، "فنحن نعتقد بأنها موجودة وبأن العثور عليها سيأخذ بعض الوقت". وقد يكون مفيداً التذكير بأن السيد رامسفيلد نفسه اكد في 30 آذار مارس: "نحن نعلم اين هي اسلحة الدمار الشامل، إنها في منطقة حول تكريت وبغداد". على ان تصويبات رامسفيلد كانت تهدف في الوقت ذاته الى تصويب تصريحات مساعده الأول في وزارة الدفاع، ومنظر استراتيجية الإدارة الحالية بول وولفوفيتز. * كاتب لبناني مقيم في باريس.