في صبيحة أحد أيام الجمعة من تشرين الأول اكتوبر من العام 1963 رن الهاتف في مقصورة حراس البيت الريفي الذي خلد اليه الكاتب الفرنسي جان كوكتو للراحة والنقاهة. على طرف الخط، أعلن صحافي من الإذاعة الفرنسية نبأ وفاة المغنية الفرنسية إديث بياف طالباً مقابلة من جان كوكتو، بحكم الصداقة التي جمعت بين الاثنين طوال عقود. كان كوكتو نائماً في الطابق الأول ومخافة أن يؤثر عليه الخبر، لم يبلغه الحراس بالواقعة. لكن الصحافي ألح كثيراً الى أن حصل على كوكتو الذي طلب منه إعادة الاتصال بعد الظهر في انتظار أن يهيئ ورقة نعي. اختلى كوكتو في المكتب وقد تدافعت في ذهنه صور بياف التي خصها بنصوص لامعة، بياف ابنة الشعب، التي ألهبت بحنجرتها الملايين من العشاق. وبينما هو يكتب المقالة انتابته وعكة في القلب تطلبت حضور الطبيب الذي لم ينفع تدخله في رأب أثر الذبحة القلبية الصاعقة التي أودت به في دقائق. "نلتقي لاحقاً"، كانت هي آخر كلمة نطق بها كوكتو قبل وفاته. أما عبارة النعي التي أوصى بأن تعلو قبره "ما زلت بينكم"، فهي تعبر عن الرغبة في الخلود التي طالما ناضل من أجلها. جان كوكتو، الذي لقب ب"أمير الشعراء"، يعد بحق المبدع الشامل الذي عاش زمنه بحماسة وشغف متنقلاً بين الرسم والشعر والمسرح والموسيقى والرواية... ترك في مشهد الثقافة الفرنسية بصمات ابتكارية نادرة فاجأت معاصريه حيناً وأزعجت الحافظين منهم في أحايين كثيرة. كيف تنسى لهذا الفتى المتحدر من أصول بورجوازية، أن يزوغ عن الدراسة ليندس من دون تردد ولا قيد في أحضان المشاهير من رجالات الموسيقى والفكر والفن؟ خالط صالونات الأدب والحلقات المغلقة لكبار الأدباء والسياسيين. ولمراوغة معاصريه، مارس باحترافية سلوك البهلوانية والتخفي، الأمر الذي أزعج الكثير من معارفه والمقربين إليه. في الحادي عشر من تشرين الأول اكتوبر المقبل، تحتفل فرنسا بالذكرى الأربعين لرحيله. وستكون مناسبة للاحتفاء بنتاجه عبر معارض فنية، وفي مقدمها المعرض الذي سيقيمه مركز جورج بومبيدو. وتصدر دراسات عن مساره ونتاجه الشعري والمسرحي والروائي والموسيقي، ومنها بحث يصدر عن منشورات "سوي" بقلم كارول فيسفيلير في عنوان "جان كوكتو: سنوات فرانسين فيسفيلير"، وكذلك المؤلف الجماعي الذي يصدر عن دار "بوشي شاتيل". ولد جان كوكتو، وهو سليل عائلة بورجوازية، في الخامس من تموز يوليو عام 1889، في ميزون لافيت في الضاحية الفرنسية. شب في أجواء الأماسي والحفلات الموسيقية التي كان يقيمها والده الثري. في أحد الأيام ظن هذا الأخير انه خسر ثروته، فانتحر. كان كوكتو في التاسعة من عمره واضطر الى كتم بل الى كبت هذا الحدث المأسوي الذي كان له وقع خفي على لاوعيه وعلى نتاجه لاحقاً، إذ أصبح الموت هاجساً أساسياً في كتابته. في نهاية القرن العشرين كان المناخ الثقافي المهيمن مشبعاً بالرومانسية التي يعتبر فيكتور هيغو أحد أعلامها الرئيسيين. لازم كوكتو الأمكنة التي كان يتردد عليها كل من غيوم أبولينير، ماكس جاكوب، بيكاسو، إيريك ساستي، إيغور سترافينسكي، وكل المثقفين الذين ابتكروا الحياة الثقافية في حي مونبارناس في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى. أصدر ديوانه الأول "فانوس علاء الدين"، وهو لا يزال دون العشرين، وتلاه سنة 1910 ديوان آخر في عنوان سالأمير المستهتر". بيد أن لقاءه بمدير الباليه الروسي دياغيلاف، كان هزة قوية في حياته، إذ شجعه هذا الأخير على استنباط علاقة المسرح بالموسيقى. اكتشف كوكتو سلطة الحلم وقدرته على إعادة صوغ أشكال الحياة، بما هو تجاوز للواقع واقترب من التوجه السريالي الذي أثار حفيظة الكثيرين في الأوساط الأدبية، وبخاصة الرقابة التي شملت نصوصاً مثل "استعراض" و"الآلة الكاتبة"، و"العائلة القاسية". عام 1923 دخل جان كوكتو عالم الأفيون وكانت تجربة قصوى مؤثرة في نتاجه. على أن فن السينما يكاد يكون أحد الأساليب التي مرر عبرها كوكتو أحلامه وهلوساته المتكررة. في شريط "دم الشاعر"، نقف عند هذا الحرص على تسريب اللاواقع الى مخيلة المشاهد عبر صور شفافة هي الحلم بذاته، أي المشهد البدائي الذي ينبهر فيه الإنسان - الطفل بأعاجيب عدنية. وهكذا وبعد الحرب العالمية الأولى تفرغ كوكتو للكتابة السينمائية. ولكن وفي كل مرة وكل المناسبات، يبقى الشعر هو القوام أو العمود الفقري لأي مسعى في انتاج كوكتو الذي تجاوز الحاضر الآني الى أحداث تؤالف بين الرؤيا الإغريقية اللاتينية والحضارة المصرية القديمة داخل القصيد الشعري المشبع حباً ومعارك وخيانات واندحارات. وهو بذلك كان شاعراً درامياً يزج الماضي في الحاضر ضمن رؤية شمولية.