العائد الى العراق بعد سقوط تماثيل صدام حسين في ساحة الفردوس في التاسع من نيسان ابريل الماضي، سيروع بمشاهد وحكايات اكثر من عقدين من الرعب. ويبدو بعد تقصي اعماق العراقيين ان حكايات العقدين صارت عبراً، بتعبير كتّاب ألف ليلة وليلة البغدادية. الفوضى التي تخيم على الشارع العراقي في ظهيرات القيظ، وشح مقومات الحياة الطبيعية قد لا تحدث في مكان آخر كما في مدينة كبرى كبغداد يسكنها قرابة ستة ملايين. إنها من نوع خاص، لا يعكر "صفو" هذه الفوضى غير الدوريات الأميركية ونقاط التفتيش عند الجسور والمعابر. إذ يبدو ان العراقيين غير مهتمين لا بالشمس الحارقة ولا بفوضى السير ونقص الوقود ولا بالدوريات الأميركية الكثيفة احياناً. اكثر ما يشغلهم ما تغير حولهم وما تغير فيهم لحظة تداعي التماثيل وتبخر النظام بسرعة قياسية، توازي ما تفعله شمس بغداد بالملابس المغسولة. إنهم منشغلون، قبل كل شيء بمصيرهم كشعب وبمستقبلهم كأمة. الدولة التي تبخرت مع تبخر سلطة صدام حسين في شكل لم يسبق له مثيل في تاريخ افول الدول هي ما يبحث عنه العراقيون، فاستعادة الدولة من وجهة نظرهم هي استعادة لتاريخهم كشعب منضو تحت راية تمثله. الصراعات الدينية والمذهبية والقومية والإيديولوجية اتخذت لديهم صيغة خطابات موقتة في انتظار استعادة الدولة التي ستنظم هذه الخطابات في سياقاتها الطبيعية واضعة حداً للفوضى التي يسيطرون عليها في شكل فذ وبصورة يخشون ان لا تدوم طويلاً. ثمة ضبط للنفس عجيب يتمتع به المواطن العراقي بعد التاسع من نيسان. اذ ان هذه الفوضى منتظمة داخلياً بمقاييس لا يستطيع فهمها، كما يبدو، غير الذين عاشوا عقدين من الرعب الأبيض. ثمة تفاهم نادر بين مواطن عراقي وآخر على قوانين لعبة لم تحدد اصولها يوماً، غير ان الجميع يتحسس مسالكها وأخطار المغامرة بخرقها. ذلك لا ينطبق على احتياطي "فوق الموت" التي تمثل الفلول الباقية من النظام الصدامي وحلفائه من اللصوص الذين يناورون في الشروخ الضيقة لهذه الفوضى المنتظمة، إذ انها مجالهم الوحيد للمناورة في غياب الدولة التي لحظها قيامها ستنقض عليهم في ايام. بعد اربعة شهور من الاحتلال - التحرير لم يحدث ما توقع معظم المراقبين. فشبح الحرب الأهلية ما زال بعيداً، وتقسيم البلاد الى كانتونات يبدو بعيداً هو الآخر، اما انقضاض رجال الدين الشيعة على السلطة فلم يعد ماثلاً بعد موقف المرجعية الشيعية المعلن وتعاون الأحزاب الدينية في اطار مجلس الحكم الموقت. وفي ما يتعلق بعودة نظام صدام حسين فهي الرهان الخاسر في كل الاحتمالات وهي سابع المستحيلات كما يعبر العراقي. هكذا، وبعيداً من الشكوى اليومية للعراقيين من المعارضة السابقة والأميركيين، والتي تعبر عن نضال سلمي ضد المحتلين اكثر منها خيبة كما يصورها البعض، فإن وعياً مكتسباً، بفعل عقدين من الحروب والقمع الوحشي والعزلة، يتجسد في رؤية برغماتية لدى معظم العراقيين، عرباً وأكراداً وأقليات. صورة هذ الوعي تتمثل في ولادة "العراقية" لدى الجميع. فالأكراد واثقون اليوم ان ما حققوه من مكاسب لهم داخل هذا العراق هي اكثر منطقية من شعاراتهم القديمة. والفيديرالية تشابه امراً واقعاً. اما في ما يخص العرب الشيعة فإنهم قد تخلصوا من صدام ونظامه وهكذا عادوا اكثرية بديهية في مجلس الحكم الموقت والجغرافيا البشرية. العرب السنة في موقف لا يختلف كثيراً، إذ ان سلطة صدام حسين لم تكن تمثلهم جميعاً. في حالة القناعة النسبية هذه، فإن "العراقية" ماضية بالجميع الى تحالف وطني باتجاه إعادة بناء الدولة بأي ثمن، من اجل تطبيق هذه "العراقية" في مفردات برغماتية تتمثل في بناء دولة عصرية، غنية، تعيش ممكنات مجتمع الوفرة الذي لم يتحقق طوال عقود الحكم الصدامي. القومية العربية وشعاراتها تبدو اليوم بعيدة من مطامح العراقيين. بعد الخيبة التي عانوها جراء قوميتهم التي اصبحت جسراً لثراء الآخرين على حسابهم. الاشتراكية، هي الأخرى تبدو اكثر عزلة بعد تخبط سنوات البعث التي شكلت مجتمعاً من افقر مجتمعات المنطقة على رغم خيراته. اما الإسلامية، فإن ايران المجاورة لا تبدو نموذجاً للعراقيين الطامحين الى ربيع من الحرية اطول. كما ان الجمهورية الإسلامية، على رغم حرب السنوات الثماني، فإنها ساعدت بشكل وآخر في ديمومة نظام صدام على حساب شيعة العراق. حالة "العراقية" تبدو اليوم على اشدها لدى غالبية العراقيين. وهي في شكل ما تمثل رغبة في العزلة عن المحيط العربي والإسلامي، ولو في شكل موقت، بعدما اثبت هذا المحيط عجزه عن مساعدتهم في الماضي بل عدم اعترافه بمأساتهم ولو عبر بيانات مؤتمرات الجامعة العربية او الوحدة الإسلامية، انها، بتعبير آخر، رغبة في قلب صفحة والبدء من جديد وفق قواعد اخرى تأخذ في الاعتبار، وقبل كل شيء، مصالحهم كشعب دفع ثمناً باهظاً لخيباته، التي يبدو حتى اليوم ان البعض لا يريد النظر فيها. حالة "العراقية" هي ايضاً نوع من الحداد على حقبة مريرة كان العراقيون فيها وحيدين امام رعبهم ومقابرهم الجماعية وزحفهم المليوني نحو الشتات. اليوم يبدو انهم في حاجة الى هذه الوحدة التأملية التي تتيح التفكير، بهدوء، في مستقبلهم، وبناء الدولة التي ستفضي بهم الى علاقات طبيعية مع حاضرهم ومستقبلهم. مع مواطنيهم وجيرانهم، مع الماضي وإمكانات التطهر منه. "العراقية" لو تركت على سجيتها فإنها ستكون شفاء للجميع وخطوة لإصلاح كسور حقبة طويلة، مسكوت عنها، من الجميع. * كاتب عراقي