بعد مقالة نشرت اول من امس عن سجن "الكاتراز" الأميركي من خلال كتاب صدر حديثاً في الولاياتالمتحدة تحت عنوان "تحطم الصخرة"، هنا قراءة في كتاب "غولاغ: تاريخ المعسكرات السوفياتية" الذي أحدث ضجة في العالم الانكلوساكسوني. والكتابان يلقيان ضوءاً على المعقلين التاريخيين كاشفين خفاياهما وأسرارهما الكثيرة. تصف الكاتبة والصحافية الأميركية آن أبلبوم في كتابها المثير واللافت في آن واحد "غولاغ: تاريخ المعسكرات السوفياتية"، معسكرات النظام السوفياتي السابق في شكل لم نقرأ له مثيلاً في اللغة الإنكليزية. وتصف المؤلفة بدقة في ما يربو على 600 صفحة كلّ حقبة من حقبات النموّ التاريخي لمعسكرات الاعتقال والحياة اليومية القاسية بداخلها. بين العام 1929 ووفاة ستالين عام 1953 اختبر نحو 18 مليون شخص نظام معسكرات الاعتقال، وأرسل نحو 6 ملايين إلى المنفى. وكان عدد المعسكرات يصل إلى 466، كلّ منها مؤلف من عشرات الوحدات الصغيرة. وعرف النظام بأكمله باسم "الغولاغ" - المختصر الروسي ل"الإدارة المركزية للمعسكرات". المسؤولون الذي خلفوا ستالين شرعوا في تفكيك المعسكرات بعد موته، إلا أنّها لم تختف كلياً. وأعيد تصميم البعض منها في السبعينات وبداية الثمانينات واستخدم كسجون تؤوي جيلاً جديداً من الناشطين الديموقراطيين والقوميين المناهضين للنظام السوفياتي. ولم يبدأ تفكيك المعسكرات فعلياً إلا عندما أخذ ميخائيل غورباتشيف هذه المبادرة عام 1987، وكان جدّاه أسرا في الغولاغ. آن أبلبوم محررة وعضو في هيئة تحرير صحيفة "واشنطن بوست". ويعتبر كتابها الذي نشرته دار راندوم في مطبوعات بنغوين في المملكة البريطانية، من أكثر الكتب مبيعاً. ونال الكتاب الكثير من النقد الإيجابي، فصنّف عالمياً كأحد أهم الكتب الصادرة أخيراً في الدراسات السوفياتية. إلا أنّ الكتاب نكأ جراحاً قديمة، خصوصاً في ما يتعلّق بالتساؤل عن ردّ الفعل المختلف للغاية والملحوظ لدى الغرب، ولا سيما اليسار منه، حيال معسكرات الغولاغ وتلك التي أقامها النازيون. وتتساءل أبلبوم عن السبب الذي جعل الغرب واليسار تحديداً، مستعداً للتغاضي عن جرائم ستالين أكثر من تلك التي اقترفها هتلر. وليست المؤلفة بالطبع أوّل من طرح هذا السؤال، إلا أنّها حثت بذلك بعض الأكاديميين والناشطين على اعتماد موقف دفاعي. أسماء معسكرات الموت النازية معروفة في العالم أجمع طبعاً. وفي المقابل ليست أسماء المعسكرات السوفياتية معروفة أبداً. على صعيد الثقافة الشعبية ليس من فيلم كبير أنجزته هوليوود عن المعسكرات السوفياتية يوازي تلك المعروضة عن معسكرات الموت النازية على غرار "شليندرز ليست" و"صوفيز شويس". ولكنّ كتب ألكسندر زولزينيتسين، المنشورة في الغرب في الستينات والسبعينات، التي يسرد فيها تجربته الشخصية في المعسكرات السوفياتية حصدت الكثير من الاهتمام، وخصوصاً كتابه المنشور عام 1973 في مجلدات عدة تحت عنوان "أرخبيل الغولاغ: 1918-1956". تعتبر آن أبلبوم أنّ أنظمة معسكرات الاعتقال السوفياتية والنازية متشابهة إلى حدّ بعيد. فالنظامان السوفياتي والنازي على السواء "يعطيان شرعية جزئيةً لنفسهما، عبر إنشاء فئات من "الأعداء" أو من "دون البشر" الذين يطاردونهم ويقضون عليهم في حملة واسعة النطاق". ولم يعامل سجناء النظامين بإنسانية. إلا أنّها تعترف بأنّ ثمة فوارق عدّة بين معسكرات الغولاغ وتلك النازية. وكان الغرض الأساس من إنشاء معسكرات الغولاغ اقتصادياً: استخدام العمالة القسرية لاستغلال الأراضي النائية من الاتحاد السوفياتي وتنمية مواردها الطبيعية الغنية. وعلى رغم المذابح الجماعية التي ارتكبت بحقّ المواطنين السوفيات، اختلفت معسكرات الاعتقال في الاتحاد السوفياتي عن مثيلاتها النازية، فهي لم تكن مصممة لارتكاب جرائم جماعية. ويعزى سبب وفاة سجناء سوفياتيين في الغولاغ إلى التمادي في الإهمال، وقضى بعض السجناء من المجاعة أو أثناء مزاولتهم أعمالاً خطرة في المناجم والمصانع أو من جراء الأوبئة المتفشية أو انتحاراً. وتشير أبلبوم إلى أنّ الحياة في المعسكرات كانت تعكس الحياة السائدة في المجتمع السوفياتي. فإذا كانت الحياة في المعسكرات مروّعة ولا إنسانية، ومعدلات الموت مرتفعة، فلم يكن ذلك بأمر مدهش: "في بعض الحقبات كانت الحياة في الاتحاد السوفياتي مروّعة ولا إنسانية، وكانت معدلات الموت خارج المعسكرات تحاكي تلك المسجلة في داخلها". بين 1941 و1942 توفي ربع المحتجزين في الغولاغ من المجاعة. ولا شكّ في أنّ هذا الرقم مروّع، ولكن يجب ألا ننسى في الوقت عينه أنّ "قرابة مليون مواطن من مدينة لينينغراد ماتوا من المجاعة أيضاً، عندما وقعوا فريسة الحصار الألماني". تهاجم أبلبوم الروس اليوم لعدم اهتمامهم بتاريخ الغولاغ. إلا أنّ بعض العلماء الروس انبرى يحقّق في التاريخ السوفياتي، خصوصاً أولئك التابعين ل"هيئة المعطيات التاريخية" في موسكو. وأعدّت الهيئة أول دليل عن أسماء معسكرات الاعتقال ومواقعها، ونشرت مجموعة من الكتب التاريخية، وجمعت أرشيفاً تاريخياً واسعاً مكتوباً وشفهياً حول الناجين من هذه المعسكرات. استخدمت أبلبوم عند قيامها بالبحث معطيات من هيئة المعطيات التاريخية وأخرى من أرشيف كشف النقاب عنه أخيراً. وقرأت المؤلفة مئات المذكرات التي وضعها الناجون من المعسكرات وأجرت مقابلات مع حوالى 25 منهم. أنشأ البولشيفيون سجون الغولاغ عام 1918، إلا أنّ جذور الغولاغ تعود إلى أيام روسيا القيصرية. في بداية القرن الثامن عشر، استخدم بطرس الكبير السجناء لبناء مدينة سانت بطرسبورغ والطرقات والقلاع والمصانع والسفن. ونفى كذلك المجرمين وزوجاتهم وأطفالهم عام 1722 إلى جوار مناجم الفضة في سيبيريا. وكما الغولاغ، لم يكن نظام المنفى القيصري مجرّد شكل من أشكال العقوبة، بل كان قادة روسيا يعتمدون بذلك الإجراء وسيلةً ليحلّ المنفيون، أكانوا من المجرمين أو المتهمين السياسيين، المشكلات الاقتصادية التي عرقلت تقدّم روسيا طوال عقود: سوء نموّ أقصى الشمال والشرق من الأراضي الروسية، ما يعني عدم نمو الموارد الطبيعية. طبّق مفهوم العمالة القسرية لإحقاق ربح اقتصادي أولاً في معسكر "سولوفيتسكي" في أرخبيل جزر البحر الأبيض في العشرينات. وظهر زخم لتنمية الغولاغ في العام 1929 عندما وافقت الحكومة على خطة خمسية جديدة. وفرضت الزراعة الاشتراكية، ما مهّد لتفشي المجاعة في السنوات التالية. وكان الاتحاد السوفياتي في حاجة إلى كميات كبيرة من الفحم والغاز والنفط والخشب والذهب من سيبيريا وكازاخستان وأقصى الشمال لتطبيق خطته الخمسية. وتشير أبلبوم إلى أن ستالين كان مهتماً بالمعسكرات شخصياً ومارس الضغوط لتنميتها، وهو من قرّر تسليم شؤونها إلى بيروقراطية الشرطة السرية. وفي نهاية العشرينات شيّدت العمالة القسرية أحد أهم المشاريع العملاقة التي يميل إليها: قناة البحر الأبيض، التي تربط البحر الأبيض بمرافئ البلطيق. وتوفي قرابة 25 ألف شخص في ظروف عمل مروّعة. تصف أبلبوم في فصول كتابها الحياة في المعسكرات وصفاً دقيقاً. كانت المعسكرات تضمّ سجناء من المجرمين والسياسيين و"عامّة الناس". كان للمجتمع الإجرامي هرمية، وللمجرمين لهجة خاصة وثياب ووشمات تفصلهم عن غيرهم من الناس. وكانت الظروف في المعسكرات عصيبة خصوصاً للنساء والأطفال. وكانت النسوة يتعرضن للاغتصاب في معظم الأحيان أو يرغمن على إقامة علاقات قسرية مع الرجال. ولكنّ معسكرات الغولاغ شهدت قصص حبّ حقيقية أيضاً: "مهما بدا الأمر غريباً لم يبلغ الإرهاق واليأس بالسجناء حدّ التخلي عن الأمل بحبّ واعد". أما العمل الجسدي، وهو من أبرز مهمات سجناء الغولاغ فكان مضنياً ومؤلماً، إذ كان عليهم العمل ساعات طويلة في ظروف عصيبة وفي درجات من الحرارة تصل أحياناً في الشتاء إلى نحو الخمسين درجة تحت الصفر. أما الطعام فكان أكثر ما يتوق إليه السجناء المتعطشون الى الحساء الذي يقدّم لهم مرة أو مرتين يومياً ويتذكر أحد السجناء حساء لحم الكلاب الذي رفض سجين فرنسيّ تناوله. وكانت حصص الخبز هوس السجناء وحلمهم اليوميّ. ولمواجهة هذا الواقع الأليم، اخترع السجناء استراتيجيات عدّة للبقاء على قيد الحياة، فتحوّل بعضهم مخبرين. واعترف سولزينيتسين بأنّه تلقى عرض عمل أفضل وحسّن هندامه ونوعية طعامه في مقابل قبوله العمل كمخبر، على رغم أنّه لم يؤدّ هذا الدور فعلاً. وحاول البعض الآخر مواساة أنفسهم عبر إقامة علاقات صداقة والاهتمام بقوتهم الفكري فزاولوا الشعر والكتابة. وتمكّن قلة من السجناء من الهرب. وتصف أبلبوم كيف خطط رجلان للهرب مع رجل ثالث قطعة اللحم كانا اتفقا على قتله وأكله لاحقاً. وفي إحدى هذه القصص هرب صديقان مع طباخ قتلاه لاحقاً والتهماه. وأخذ الجوع يستبدّ بهما مجدداً في رحلتهما الطويلة، وكان كلّ منهما يعرف أنّ الآخر سيقتله ما إن يستسلم للنوم. وحقاً حين كان أحدهما يغط في النوم ذبحه الآخر من الوريد إلى الوريد، فألقت الشرطة القبض عليه بعد يومين وفي حقيبته لحم نيء. وتشدّد أبلبوم على أهمية خوض الحرب الباردة. وتناقض وجهة النظر الواردة في مجلة "سباكتاتور" المشاهد العام الماضي، ومفادها أنّ الحرب الباردة كانت "من أكثر النزاعات هباءً". وعند تبريرها عدم إثارة جرائم ستالين الرعب في قلوب الناس شأنها شأن جرائم هتلر، تقتبس ما قاله لها عمدة لندن النائب العمالي الأسبق كين ليفينغستون: "نعم كان النازيون "أشراراً"، إلا أنّ الاتحاد السوفياتي كان "مشوهاً". وتعلّق أبلبوم: "تعكس وجهة النظر هذه شعور الكثير من الناس، حتى الذين ليسوا من اليساريين التقليديين: الاتحاد السوفياتي أخطأ لسبب من الأسباب، إلا أنّ خطأه لم يبلغ مبلغ هتلر ألمانيا". كان التحالف بين بريطانياوالولاياتالمتحدة في الحرب العالمية الثانية سبباً آخر للتردّد في انتقاد الاتحاد السوفياتي. صرّح وزير الخارجية البريطاني أنطوني إيدن لأحد أصدقائه: "يعجبني ستالين فعلاً، فهو لم ينكث بوعده أبداً". وعلى رغم أنّ اليمينيين الغربيين ينددون بالجرائم السوفياتية، إلا أنّهم استخدموا للقيام بذلك أساليب أضرت بقضيتهم أحياناً. وكتبت أبلبوم عن هذا الموضوع: "لا شكّ في أنّ السيناتور الأميركيّ جو ماكارثي أكثر من ألحق ضرراً بقضية مناهضة الشيوعية. ولا تبدّد الوثائق الحديثة التي تبرهن صوابية بعض اتهاماته الوقع الذي خلّفته الملاحقة المفرطة في الحماسة للشيوعيين في الحياة الأميركية العامة، وكانت "محاكماته" العلنية لمتعاطفين شيوعيين تسيء إلى قضية مناهضة الشيوعية لأنّها كانت مشوبةً بالتعصّب وعدم التساهل". ينوّه الأستاذ المحاضر في التاريخ الروسي في كلية سانت أنطوني- جامعة أوكسفورد، روبيرت سيرفيس بالغولاغ في مقالة له منشورة في صحيفة "الغارديان"، إلا أنّه ينتقد أبلبوم لأنّها "تشير إلى صوابية أفكار جو ماكارثي عن ستالين". ويناقض البروفيسور سيرفيس بعض تأكيدات أبلبوم، ويؤكد أنّ نظام العمالة القسرية في الاتحاد السوفياتي لم يكن أمراً سريّاً، وأنّ الكثيرين من السياسيين والكتاب انتقدوا نظام الاتحاد السوفياتي عند اندلاع الحرب الباردة بعد الحرب العالمية الثانية. وكتب سيرفيس: "لم يقتصر التنديد بديكتاتورية النظام السوفياتي على كلّ من هاري ترومان وونستون تشرشل فحسب، بل شمل كلاً من جورج أورويل وآرثر كستلر". يعدّ البروفيسور سيرفيس، مؤلّف كتاب "روسيا: اختبار بشعب" حالياً كتاباً عن سيرة ستالين. ويمكننا التوقع أنّ النقاش حول الغولاغ وستالين سيستمرّ فترةً طويلة في المستقبل. ترجمة: جولي مراد