اليزابيث ديك تشيني، ابنة نائب الرئيس الاميركي التي ترأس برنامج تنمية الديموقراطية في العالم العربي التابع للخارجية الاميركية، عرضت اهداف البرنامج في مقابلة مهمة نشرتها "الحياة" يوم 3 آب اغسطس الماضي. يمثل هذا البرنامج الذي اعلن عنه قبل اكثر من سنة نقطة انعطاف اساسية في السياسة الخارجية الاميركية ازاء موضوع الديموقراطية في المنطقة العربية. فتلك السياسة كانت، رسمياً وظاهرياً، "تترك الامور الداخلية للشعوب والحكومات ولا تتدخل فيها"، ويهمها ما يتعلق بالخارج من سياسات الدول العربية واقتصاداتها ومواردها. كانت تلك السياسة مريحة للغاية بطبيعة الحال للولايات المتحدة وللحكومات العربية الاستبدادية على حد سواء، وكانت مسوغاتها تحوم حول مقولات عدم التدخل في الشؤون الداخلية او "احترام الخصوصيات الثقافية" وغير ذلك. بعد ايلول سبتمبر 2001 تغيرت الامور، وتنامى، كما نعرف جميعاً، التيار اليميني الداعي الى تغيّر البنى الداخلية للمجتمعات العربية باعتبار ان هذه البنى هي "المولد الاساسي للارهاب والتطرّف"، وهو تنامٍ قاد الى احداث تغيير رسمي وجذري في السياسة الاميركية. قراءة مقولات وافكار اليزابيث تشيني تشير الى "الميكانيكية الساذجة" التي تتبناها الادارة الاميركية ازاء موضوع الديموقراطية في البلدان العربية، وهي مقولات تستحق وقفة. نقطة الانطلاق في الاكتشاف الاميركي المفاجئ بأن المنطقة "غير ديموقراطية" وتحتاج الى "دمقرطة" عاجلة، هي المصالح الاميركية ليس إلا، وهو ما تقوله السيدة تشيني بكل جلاء ووضوح ومن دون ديبلوماسيات لا لزوم لها. وهكذا فإن السعي نحو "دمقرطة" هذه المنطقة، اذا افترضنا جديته، ليس هدفه مصلحة شعوبها ولا تحقيق طموحاتها في الانفتاح والتحرر أو تفكيك النظم الديكتاتورية فيها، بل مرتبط عضوياً بما يدور خارج الفضاءات السياسية لتلك الشعوب وتحديداً في واشنطن وتقلبات مزاجها الاستراتيجي والمصلحي. وهذه بالطبع ليست المرة الاولى التي تكون فيها "مصلحة الامن القومي الاميركي" هي البوصلة التي تحدد "السقف" الذي يجب ان يصل اليه الانفتاح السياسي للمجتمعات العربية. فتلك المصلحة هي التي حكمت ونظّمت ديمومة استمرار الاوضاع غير الديموقراطية في الشرق الاوسط بعامة طوال نصف القرن الماضي. ففي تلك العقود تحالفت الولاياتالمتحدة مع انظمة ديكتاتورية كانت شعوبها تعاني الامرين منها، لكن السياسة الاميركية كانت لا تهتم بمعاناة تلك الشعوب بل بتعزيز المصلحة القومية الاميركية وتحالفاتها الاستراتيجية والاقتصادية والنفطية مع الحكومات والنخب السياسية. هذا الربط العضوي، التعسفي وغير الموضوعي من ناحية تجريدية، بين الشكل السياسي الاجتماعي الذي يجب ان تكون عليه المجتمعات العربية والمصلحة الاميركية العليا يكشف خواء الفكرة السخيفة التي يقوم عليها البرنامج الاميركي لتنمية الديموقراطية في العالم العربي وترأسه السيدة تشيني. كما يجهض أي تقدم ديموقراطي اصيل ونابع من القوى والفعاليات العربية ذاتها وغير مفروض من اعلى، لأنه سيربط أي تقدم حتى لو تم داخلياً وذاتياً بالبرنامج الاميركي المذكور لخلق الانطباع بأن ذلك التقدم هو من انجازاته. مسألة تحكم الامن والمصلحة القومية الاميركية في مسار العالم العربي، بل العالم كله، تطرح السؤال المركزي الآتي: ماذا لو اكتشف المخطط الاميركي بعد عشرين او ثلاثين سنة، او بعد ان تقوم الديموقراطية المنشودة في العالم العربي، ان مصلحة الامن القومي الاميركي عادت لتشير بأن تحقيقها يتم عبر اضعاف الديموقراطية العربية لا رعايتها؟ ماذا لو قادت تلك الديموقراطية المنشودة الى تسلم الاسلاميين الحكم في اكثر من بلد عربي؟ او تسلم اية قوى تعتبرها الولاياتالمتحدة معادية لها ولمصالحها؟ هل تبقى وجهة المجتمعات العربية، والمنطقة برمتها، محكومة ببوصلة المصلحة الاميركية تتماهي موضوعياً مع المصلحة الاسرائيلية في المنطقة، فكيف سيصار الى حل اشكالية تعارض مصالح اسرائيل مع انجاز الديموقراطية في البلدان العربية التي قد تأتي بمجموعات اكثر عداء لاسرائيل؟ كل هذا يعني ان الربط الآلي بين دمقرطة العالم العربي والمصلحة الاميركية ساذج وسخيف وغير عملي في آن. اليزابيث تشيني تعترف في المقابلة المذكورة بأن صدقية الولاياتالمتحدة مفقودة في المنطقة العربية وان هذا الامر من المعضلات التي تواجه برنامجها، لكنها تقول ان الحل هو المضي في الجهود واثبات عكس ما هو سائد عن الولاياتالمتحدة في اوساط الرأي العام العربي. لكن هذا الاقرار سرعان ما يفقد أي معنى له عندما تنفي أي صلة بين السياسة الاميركية الخارجية وبروز تيارات التطرف او مشاعر العداء تجاه الولاياتالمتحدة المسيطرة على الشارع العربي. اذا كانت تشيني وبرنامجها لا يعترفان بهذه الفكرة الجوهرية الاساسية، مركزية أثر السياسة الاميركية الخارجية المعادية للقضايا العربية على نظرة العرب الى الولاياتالمتحدة وبالتالي تقبلهم او عدم تقبلهم لبرنامجها الديموقراطي، فإنها تعيش في كوكب آخر. واذا كانت تصر على ان "السلوك" الاميركي في المنطقة، في العراق وازاء فلسطين، سيثبت جدية الولاياتالمتحدة في جلب الديموقراطية فإنها لا تتوقف عند القضية الضخمة المتمثلة في انحياز السياسة الخارجية الاميركية الصارخ لاسرائيل واثره على اجهاض مشروعها وهو في بداياته. والأخطر من كل ذلك، والمرتبط به، هو ان يصبح مشروع احداث الديموقراطية في العالم العربي، الذي يخدم المصلحة القومية الاميركية، شقيق الدعم الاميركي لاسرائيل التي تخدم بدورها المصلحة القومية الاميركية فيصبح "الدعمان" عنصرين في مشروع واحد. هذا الربط ليس تعسفياً وليس بعيداً عن الطريقة التي ستتأمل بها قطاعات عريضة من المجتمعات العربية المسألة الديموقراطية المدعومة اميركياً. وهذا سيقود ذهنياً واعلامياً الى حشر كل الدعوات الى الديموقراطية العربية، الداخلي منها والخارجي، الحقيقي منها والمزيف، تحت مظلة الدعوة الاميركية وبالتالي تشويهها والطعن في صدقيتها. تردد تشيني المقولة التقليدية بأن التطرف والارهاب مصدرهما الفقر والفاقة الاقتصادية، وان تحسين الظروف الاقتصادية في المنطقة مرتبط بشكل ما بتحسين الظروف الديموقراطية، وان تحسين أي من الظرفين يخدم الظرف الآخر. لكنها لا تقول لنا كيف تفسر وجود قيادات وافراد عديدين من بلدان الخليج الثرية في تنظيمات متطرفة، بل وفي اعلى المراتب القيادية لتلك التنظيمات. وهكذا فهي، وغيرها، عندما تحيد اثر السياسة الخارجية الاميركية الفظة فإنها ما ان تسقط في مطب حتى تقع في آخر في محاولتها صياغة مقولات متماسكة. فما تعانيه مقولة "التطرف والارهاب نتاج الفقر"، على رغم صحتها الجزئية وانطباقها في بعض الحالات، هو اغفالها عمداً اثر السياسة الخارجية الاميركية على دفع الناس في المنطقة ليس الى حدود التطرف فحسب، بل الى الجنون يكفي التأمل بالمساندة الحالية المطلقة والمقرفة لكل ما يقوم به شارون المطارد في محاكم العالم بتهم جرائم الحرب. ما يجب ان تعرفه اليزابيث تشيني، الوافدة الجديدة الى شؤون المنطقة العربية، هو ان أي مشروع تغيير اجتماعي سياسي ثقافي يستهدف المجتمعات العربية ويكون قادماً من الولاياتالمتحدة سيكون متهماً في اهدافه وآلياته. وان اقصر طريق لوأد أي فكرة جيدة في المنطقة هو ربطها بالولاياتالمتحدة. وفكرة دمقرطة العالم العربي، الماسة جداً والضرورية جداً والتي تأخرت جداً وكانت الولاياتالمتحدة نفسها ومحاربتها لها في نصف القرن الماضي سبباً في ذلك، ستتهم بأنها فكرة اميركية ولها اهداف مشبوهة اذا نشط برنامج السيدة تشيني وصار معروفاً اكثر. وهي عندما تقول ان برنامجها سيعمل على تعزيز دور المرأة وتحريرها فهي عملياً توجه ضربة قاصمة لحركات تعزيز دور، وتحرير المرأة العربية لأن كل جهود تلك الحركات سينظر إليها بأنها منخرطة في مشاريع وأهداف أميركية "مشبوهة". وعندما تقول تشيني ان برنامجها سيتعاون مع المنظمات غير الحكومية العربية لانجاز أهدافه، فإنها عملياً ستدمر سمعة كل جمعية غير حكومية تتعاون معها. وهكذا فإن كل ما يتمناه أي ديموقراطي حقيقي في المنطقة هو ان يفشل برنامج تشيني، ليس معاداة للديموقرطية في العالم العربي، بل رغبة فيها وايماناً بالحاجة الشديدة اليها. واذا كانت الولاياتالمتحدة حريصة على نشوء الديموقراطية العربية فإن افضل خدمة تقدمها لها هي ان تبقى بعيدة عنها، لان هذه الديموقراطية اذا ولدت بقابلة اميركية فإنها ستكون وليداً مشوهاً ومكروهاً، وهذا آخر ما يريده كل من يرغب في رؤية مجتمعات عربية متحررة من ديكتاتورياتها. * باحث وكاتب فلسطيني، كامبردج.