لم يكن سهلاً تجاوز الكلام الذي اطلقته فاطمة حقيقت جو النائب في البرلمان الايراني عن طهران وعضو اللجنة المركزية لجبهة المشاركة، ابرز الاحزاب الاصلاحية، لما حمله من وصف لمشاهداتها خلال زيارتها لمساكن طلاب جامعة العلامة الطباطبائي وتحمل اسم ابرز شهداء الثورة "منامة الشهيد همت". الصفات التي اطلقتها حقيقت جو على الاشخاص الذين هاجموا المساكن كانت قاسية الى حد دفع التيار المحافظ والصحافة الناطقة باسمه الى فتح النار على هذه السيدة التي لا تتجاوز الرابعة والثلاثين والآتية الى العمل البرلماني والسياسي من صفوف الطلبة وتعتبر، الى حد ما، احد الناطقين باسمهم. وطالب المحافظون بمحاكمتها. وقالت حقيقت جو ان الطلاب وغرفهم تعرضوا لهجوم من قبل اشخاص "ينتمون للمغول والعملاء والبلطجية المدعومين بغطاء من بعض مراكز القرار". هذا الكلام، والكثير من التفاصيل الواردة في التقرير الذي تلته حقيقت جو في جلسة علنية لمجلس النواب قبل اسبوع، دفعني الى التفتيش عن وسيلة اصل بها الى احد الطلاب المقيمين في ذلك المكان. وهو لا يبعد كثيراً عن المجمع السكني لطلاب جامعة طهران الذي شهد انطلاقة حركة الاحتجاجات الاخيرة، والحركة الطالبية عام 1999، وأدت الى سقوط قتلى وجرحى. وكان الهدف الحصول على بعض التفاصيل والاحاديث عما جرى في تلك الليلة. وبعد جهد، وجدت من لا ينكر ان الخوف يعتريه ليس من هول ما رآه فحسب، بل ايضاً من ان يفتضح امره وتطاوله يد المحاسبة الطويلة. لكن الرغبة في ان يستعيد شريط ما جرى بين الطلاب وبعض القوى المدنية، او ما يعرف ب"انصار حزب الله" او "مجموعات الضغط" المنضوية تحت شعار التيار المحافظ والمدافعين عن النظام، كانت اقوى من الخوف. اتفقت معه على ان ازوره في مكان سكنه مع الطلاب، بعد التأكد من امكانية ذلك، إذ ان القوى الامنية كانت تولت مهمة حراسة مساكن الطلاب من المدخل وحتى الاروقة الداخلية بين المباني، مانعة الدخول على كل من لا يحمل بطاقة تعريف خاصة من ادارة السكن. في الموعد المحدد، حملت اوراقي وما يثبت هويتي وتوجهت الى حيث المبنى السكني. عند وصولي الى المكان المخصص للحراسة، واجهني أحدهم وسألني عما اريد والى اين انا ذاهب؟ كنت قد حاولت التسلل وتجاوز الحراسة، مستفيداً من الازدحام الناتج من تواجد عدد كبير من الطلاب في هذه الغرفة وهي المعبر الوحيد للخروج والدخول ولا تتعدى مساحتها المترين. الا انني فشلت. وواجهني بسؤاله الاول: "هل انت طالب؟". فقلت له: "لا، الا ان لدي موعداً مع احد الطلاب في الداخل". عندها قال: "انتظر هنا سوف اناديه على مكبر الصوت". دوى مكبر الصوت في المرة الاولى. وبعد دقيقتين دوى للمرة الثانية، منادياً على اسم الشخص الذي اريده. وبقيت انتظر لمدة ربع ساعة تقريباً في الغرفة المزدحمة. الا ان وجودي في هذا الازدحام جعلني اقف الى جانب احد المحامين الذين انتدبتهم وزارة العلوم والجامعة التي ينتمي اليها الطلاب ويتولى رئاستها احد ابرز الشخصيات العلمية في اللجنة المركزية لحزب جبهة المشاركة الاصلاحية الدكتور حبيبي. ما منحني بعض العزاء لعدم السماح لي بالدخول بسرعة. وتركزت مهمة المحامي على نقل شهادات الطلاب الذين تعرضوا للضرب والاعتداء على يد القوات والعناصر المهاجمة ليترافع عنهم في المحكمة اذا ما جرت محاكمة. عندما تنبهت الى ما يدور حولي، انقسمت حواسي الى بعدين. واحد يحاول ان يلتقط كل ما يصدر من همهمات في زاوية الغرفة بين هذا المحامي الممنوع من الدخول والطلاب المصابين، وواحد يحاول ان يسجل ما تشاهده العين من اصابات موزعة على انحاء اجساد هؤلاء الطلبة. في البداية كان يقف امامي طالب تغطي انفه ضمادات كثيرة. اعتقدت للوهلة الاولى انه اجرى عملية ترميم تجميلية لأنفه كما هو شائع بين شبيبة طهران هذه الايام بدافع الغيرة والتقليد للفتيات. ثم مددت رأسي لأقرأ جانباً من الورقة الرسمية التي بين يديه، ليتبين لي انها نص وكالة قانونية. ثم اتى آخر يحمل ذراعه الملفوفة بالجبس يشدها الى عنقه وينتظر دوره لتوكيل المحامي، ثم اخر يضع على وجنتيه لاصقات طبية ليغطي بها آثار طعنات بالسكين طاولت منطقة اسفل العينين، وآخر اعتمر قبعة من الشاش على رأسه ليخفي بها الجرح العميق الذي استدعى اجراء عملية تقطيب كبيرة 15 قطبة على اثر ضربة من "قامة" وهي آلة حادة يراوح حجمها ما بين السكين والساطور. في هذه الاثناء انتبه احد الحراس لما افعله. فخاطبني بالقول: "ان صديقك لم يأت، ما يعني انه ليس موجوداً. فاذا كنت تريد الانتظار بإمكانك ذلك خارج هذه الغرفة في الشارع". وبما انني كنت متأكداً ان هذا الصديق موجود في الداخل، فقد حاولت ان اطلب من بعض الطلاب الآخرين ان يذهب الى غرفته ويقول له انني انتظر على المدخل. في هذه الاثناء توجه الي احد الطلاب وقال لي: "صديقك لن يأت، لا شك في انه خائف". تملكني التعجب، وسألته "لماذا الخوف؟" فقال: "لقد حدث في الايام السابقة ان يأتي بعض الاشخاص ويطلبوا من الحراسة ان تنادي على احد الطلبة. فما كاد الطالب يصل الى باب المدخل الرئيس حتى يتعرض لعملية خطف. وقد جرى هذا مع اثنين من زملائنا لا نعرف اين هم حتى الان". عندها رجوته ان يساعدني في التواصل مع صديقنا هذا، بعد ان اوضحت له ما اريده. بعد انتظار طال نحو ساعة على رصيف الشارع العام، جاءني هذا الصديق، متعجباً من عدم دخولي. وقال انه سمع النداء لكن الخوف منعه من المجيء، فأعدت عليه ما حدث. دخل هذا الصديق، سليم حاجلو، الاتي من آذربيجان الايرانية في حديث مع الحراس لم افهم منه شيئاً. فهو كان يعرف ان الحارس من اصول تركية، مثله، ولم انتبه الا وهو يدعوني للدخول. قال انني ضيفه ولا يجوز ان ابقى في الشارع. واضاف "بعد جدل حول القرار الجديد الذي يمنع حتى الطلاب من غير الساكنين بالدخول، وافق شرط ان لا تبيت هنا". عندما اصبحت داخل الحرم السكني، تلفت حولي علّي اجد آثار ما حدث في تلك الليلة، فقال سليم: "لن تجد هنا شيئاً، فقد تم ترميم كل الاضرار". المكان موزع على مبنيين كل منهما يتألف من اربع طبقات، وكل طابق فيه نحو 25 غرفة، يسكن في كل واحدة اربعة طلاب كمعدل، فتشكل كل غرفة بحد ذاتها مكاناً تجتمع فيه الثقافات القومية الايرانية المختلفة والمتعددة. غرفة سليم في الطابق الرابع. في الطريق الى هناك، بدأ صديقي يشير الى الاماكن التي تعرضت للتدمير والتخريب، فقال: "كل الزجاج الذي تراه الان تم وضعه وتركيبه قبل يومين فقط، لان السابق قام المهاجمون بتهشيمه". العلب الزجاجية المخصصة لجريدة الحائط والاعلانات تم تكسيرها على رغم صيحات بعض المهاجمين بانها تعود ل"بيت المال". ولا تزال آثار الزجاج والسكاكين واضحة على القماش الاخضر في خلفيتها. اما ابواب الغرف، فقد فتح فيها المهاجمون نوافذ تسمح بالعبور حتى لشخص مثلي من الوزن الثقيل. وتحولت الى اماكن مستباحة امام اعين المارة بعد ان كانت تشكل اماكن خلوة وهدوء لساكنيها. وصلنا الى الغرفة في الطابق الرابع. قلت له: "حدثني عما جرى تلك الليلة وكيف بدأ الامر". فقال: "اثناء التظاهرات التي قام بها طلاب جامعة طهران، جاءت قوات من الشرطة والوحدات الخاصة وقطعت الطريق المؤدي الى الحرم الجامعي بالقرب من هذا المكان، وذلك تحت اعين الطلاب هنا. فما كان من بعضهم الا ان صاح انهم يقطعون الطريق على زملائنا ويحاصرونهم، ونزل الى مدخل المبنى فلحق به عدد من الطلاب الاخرين لم يتجاوز عددهم الخمسة عشر. ثم بدأ العدد بالتزايد حتى نزل الجميع من المبنيين، ثم خرجوا الى رصيف الشارع العام واشعلوا النيران في بعض الاطارات. تجمع بعض سكان المنطقة من غير الطلاب واشعلوا الاطارات ايضاً، ثم تطور الامر الى قطع الشارع المؤدي الى جامعة طهران. فتقدمت بعض سيارات الشرطة نحو هذا التجمع وطالبت المدنيين بالابتعاد عن الطلاب. وصلت دراجة نارية عليها شخص مدني اتصل بآخرين ما لبثوا ان توافدوا الى المكان حتى جاوز عددهم المئتين. كانوا مجهزين بالسواطير والقامات والزناجير والسلاسل الحديد والسكاكين، وراحوا في البداية يهاجمون السيارات المدنية التي كانت تعبر الشارع آتية من ناحية الطلاب ويحطمون زجاجها ويضربون من فيها. تدخلت الشرطة ودفعت الطلاب الى داخل اسوار المبنى، فما كان منهم الا ان صعدوا الى الغرف المواجهة واحتلوا الشرفات لتبدأ بعدها سمفونية الشتائم المتبادلة بين الطرفين، تحولت بعدها الى تراشق بالحجارة. ثم احتل الطلاب سطوح المباني التي طوقت من جميع الجهات استعداداً لبدء الهجوم عليها. لم يتراجع انصار "حزب الله" على رغم وابل الحجارة الذي تساقط عليهم. وفوجئ الطلاب بمجموعات من المهاجمين استطاعوا اعتلاء الاسوار والدخول، فانكفأ بعضهم في غرفته تحاشياً لأي اصطدام. انتشرت قوات المهاجمين في ارجاء المبنيين وعلى السطوح، وبدأوا بالضرب بسلاسل الحديد وتمزيق الاجساد بالقامات، فتلطخت السطوح والممرات بدماء الطلاب، اما من دخل الى غرفته من الطلاب طلباً للنجاة، فلم يسلم ولم يساعده الباب الخشبي الهش في اتقاء الهجمات. ويقول سليم انه كان يسمع اصوات تحطيم الابواب ممزوجة بصيحات التكبير والتهليل ونية القربى لله، ويضيف "في هذه اللحظة تملكني خوف شديد، فما كان مني الا ان ازحت خزانة الثياب ووضعتها خلف الباب لتمنع او تعيق دخول المهاجمين في حال استطاعوا كسر الباب الذي كنت قد اقفلته من الخارج ودخلت من شرفة الغرفة المجاورة. والحمد لله نجوت، وباب غرفتي من الابواب النادرة التي لم تتعرض للكسر". يقول سليم انه شاهد احد زملائه يتدلى من على شرفة غرفته في الطابق الرابع يريد ان يقذف بنفسه الى الاسفل، فما كان من زملائه في الطابق الثالث الا ان امسكوه وانزلوه الى غرفتهم. ولم تكن حال طالب آخر بأفضل، فقد وقع في ايدي المهاجمين الذين رموه من غرفته في الطابق الثاني الى الساحة الداخلية فتهشمت عظامه، في حين تعرض احد الطلاب الذين لم يتدخلوا بأي عمل، وبقي في غرفته يشاهد ما يجرى من الشرفة، لضربة من الخلف بسيف يشبه السيف الياباني او سيوف مقاتلي الساموراي بحدته وشكله، فشقت الضربة رأسه من الخلف. كذلك تعرض طالب آخر للضرب بسكين في خاصرته قد تؤدي بحسب التقارير الطبية الى فقدان الكلية. ويروي سليم ان في احد المبنيين غرفة مخصصة لأربعة طلاب مكفوفين، لا يستطيعون التحرك من دون مساعدة، وقد بقوا في غرفتهم اثناء الاحداث، بعضهم محسوب على التعبئة الطالبية البسيج، وقد تعرضوا للضرب المبرح والاعتداء على ما تحتويه غرفهم من اغراض. اضافة الى هذه الانجازات للمهاجمين، فقد قام بعضهم بتمزيق ما تحتويه مكتبات الطلاب الصغيرة في الغرف من كتب واوراق، واجبروهم على اطلاق شعارات مؤيدة لقائد الثورة تحت الضرب والتهديد. وتقول النائب فاطمة حقيقت جو التي زارت المكان متسائلة عن اسباب اعتقال اعداد قليلة من مجموعات انصار "حزب الله" او "اصحاب اللباس المدني"، واعتقال اعداد كبيرة من الطلاب، حتى ان بعضهم تم نقله من المستشفى التي يعالج فيها الى السجن مباشرة. واشارت الى ان هذه المجموعات "تحظى بدعم بعض مراكز السلطة وحمايتها، ونحن اليوم نشاهد استعادة لما حدث في احداث الحرم الجامعي عام 1999، الذي تعاطى معه الجميع بتبويس اللحى وتبرئة المسؤول عما جرى في حينها، في حين ان القضاء اصدر حكماً بالاعدام على الطالب احمد باطبي لانه رفع قميصاً ملطخاً بالدم يعود لصديقه الذي قتل في تلك الاحداث، اضافة الى ان العديد من الطلاب ما زال في السجن منذ ذلك اليوم".