يستحق "اجماع جاكارتا للسلام" أن تنشره الصحف العربية بحرفيته، وذلك لأسباب ثلاثة: أولها أهمية النص بذاته، وثانيها وزن القوى التي شاركت في إقراره وحمله، وثالثها النتائج العملية التي يمكن أن تترتب عليه، والتي تخص بصورة مباشرة العراق وفلسطين. وليس من أهمية لأي وجه من هذه الوجوه الثلاثة بمفرده، وإنما في اجتماعها معاً. فما يميز هذا الإعلان هو توفره على ما يجعله قابلا للتحول إلى أداة فعلية، وفعالة، في التأثير على الواقع. فهو قد صاغ مقاربة أولية لمسألة علاقة الحرب بالليبرالية لجديدة، ستكون عملية تفحصها، أي تدقيقها وتعميقها، التحدي الفكري والسياسي الأبرز من الآن وصاعداً، من أجل فهم الأحداث التي تعصف بالعالم، وربما أيضاً من أجل بلورة التصورات التي تسمح بالتصدي لاتساع رقعة الحرب والبؤس، بأشكالهما المتنوعة، بحيث يبدوان الطابع العام السائد في العالم اليوم، والمهدِّد بالتحول إلى حال اعتيادية مألوفة، وبمعنى ما مقبولة. قُدمت في المؤتمر فرضية تقول إن الحرب ليست حادثاً عارضاً في سياق تعميم العلاقات الليبرالية الجديدة على العالم، بل هي واحدة من أبرز أدوات هذه العملية، أي أنها تنتمي إلى آلياتها الداخلية. يدخل في سياق ذلك شن الحروب العدوانية والاستعمارية، كالحرب على العراق، وكذلك تشجيع حروب داخلية أو اقليمية، عندما تتوافر إمكان إدارتها، أي ابقائها في دوائر سياسية وجغرافية محتواة، بمعنى محددة سلفاً أو يمكن التحكم بسياقاتها. وأن الإدارة البوليسية والقمعية للنتائج الاجتماعية المترتبة على تقدم الليبرالية الجديدة في البلدان الصناعية تنتمي إلى السياق نفسه، حيث يتضح بجلاء متزايد الافتقار إلى أجوبة اقتصادية واجتماعية على الآثار التي تخلفها الخصخصة المتعاظمة لكل النشاطات الانتاجية والاجتماعية، وما يرافقها من انهيار الضمانات الأساسية وأيضاً من اتساع البطالة وتقلص فرص العمل وتحوله إلى عمل متقطع، والعجز عن استيعاب الهجرة والتعامل مع الفوارق الاثنية والدينية، وتحول الأحياء والضواحي الفقيرة إلى نوع من الغيتوات المعزولة والمهملة والتي تُخاطَب بلغة القمع فحسب. وعلى رغم ما يتبقى من حاجة إلى بلورة حقيقية لهذه الفرضية، وإلى الاجابة عن أسئلة الحتمية أو البدائل، فقد أقر مؤتمر جاكارتا، والإعلان الصادر عنه، هذه الوجهة في النظر إلى الحرب على العراق واحتلاله، فأدانها بلا لبس، وانحاز إلى الموقف الرافض لاضفاء أي شرعية، من أي نوع كان، على الاحتلال الأميركي للعراق، وحث المجتمع الدولي والحكومات حول العالم على رفض الاعتراف بكل أشكال السلطة أو الحكومة التي تقام بواسطة جو تحت سيطرة قوات الاحتلال، وأعلن دعمه للجهود التي تهدف إلى عقد مؤتمر وطني أو جمعية تأسيسية لإرساء شرعية الدولة العراقية الجديدة، و"هي عملية يجب أن تتمتع بالاستقلالية التامة عن الاحتلال". كما صادق البيان على اقتراحات محددة لإطلاق حملة تدعو إلى محاكمة دولية لجرائم الحرب، يخضع لها المسؤولون عن غزو واحتلال العراق، وكذلك طالب بتعويض الشعب العراقي عن الكوارث التي نجمت عن سنوات الحصار وعن الحرب. وأعلن المشاركون في اجتماع جاكارتا، وهم ممثلو أوسع الشبكات العالمية المناهضة للحرب، ولليبرالية الجديدة، عن التزامهم بتنظيم وفود مدنية متلاحقة إلى العراق، لمساندة مقاومة أبنائه للاحتلال، وعن انشاء "مرصد لمراقبة الاحتلال" سيتخذ الصفة الدائمة. وكان موقف المؤتمر، والإعلان الصادر عنه، من نضال الشعب الفلسطيني من أجل حقوقه الوطنية، من الطبيعة نفسها. يصلح الإعلان وثيقةً تمثل نوعاً من الأساس أو الإطار الجامع لنظرة حركات مناهضة العولمة الليبرالية ومناهضة الحرب، واللتين تتقاربان باضطراد. فقد أعيد تبني الوثيقة في المؤتمر المضاد لقمة الثمانية الكبار في ايفيان في مطلع حزيران يونيو الفائت. وستقدم الوثيقة إلى المؤتمر المناهض لقمة منظمة التجارة العالمية التي ستنعقد في المكسيك في أيلول سبتمبر المقبل، والمعنية كثيراً بالاستثمارات العالمية التي تفد إلى العراق تحت عنوان مضلل هو "إعادة الإعمار"، وتفتح الباب أمام عملية نهب واسعة ومنظمة لثرواته وإمكاناته. كذلك ستقدم الوثيقة إلى المنتدى الاجتماعي الأوروبي في باريس في تشرين الثاني نوفمبر المقبل وإلى المنتدى العالمي الذي سيعقد هذه المرة في بومباي في الهند وليس في بورتو اليغري كما جرت العادة مند نشوئه منذ أعوام ثلاثة. ولا يستهان بالطبع بتلك القوى التي تنضوي في هذه الأطر، فهي تتسع باستمرار، حيث نشهد التحاق حركات ذات طابع ديموقراطي وأخرى ذات طابع ديني، مسيحي وإسلامي على الأخص، بها، بحيث يجري تجاوز نقطة الانطلاق أو البداية التي كانت تتسم بطابع شديد الراديكالية. وهذا الاتساع ليس مرده إلى القناعة الفكرية فحسب، بل هو احدى العلامات على شمول نتائج الحروب والافقار فئات متزايدة كل يوم. إلا أن الأهمية الحاسمة للإعلان تأتي من مكان آخر: في التقاطع مع تطورات على أرض الواقع، توفر التداخل بين البعد العام، العالمي، والبعد المحلي الملموس. ففي خصوص العراق، وهو الموضوع الأساسي لمؤتمر جاكارتا، يتجاوز الإعلان ما هو مجرد الموقف المبدئي، والذي كان يمكن أن يبقى عمومياً ونظرياً، إلى دعم أحداث سياسية بعينها، تجري واقعياً وعلى الأرض، كما يقال. فهناك دعوة إلى عقد اجتماع عام في العراق، تحوز على تأييد فئات شديدة الاتساع في البلاد وشديدة التنوع في آن. وسيتولى هذا الاجتماع إقرار الدعوة إلى عقد مؤتمر وطني تأسيسي يكون مصدر الشرعية، وينظم الانتخابات العامة ويشكل الحكومة الانتقالية ويقترح الدستور. وهذه آلية داخلية يشكل انطلاقها احباطاً لوجود الاحتلال وتصدياً لمشاريعه في إقامة ركائز استمرار همينته. أي أن هناك بداية تبلور للإرادة الوطنية العراقية وحملها إلى حيز التحقق. ويطابق ذلك ما تبناه "اجماع جاكارتا للسلام"، ويعطيه، في الوقت نفسه، كل معناه بوصفه معبراً عن وجهة قابلة للتحقق، وعن ملمح أساسي من ملامح صراع ممكن. لذلك، سيلقى الاجتماع الوطني العراقي الأول، الذي سينعقد خلال أسابيع، وكذلك المؤتمر التأسيسي، دعم الشبكات العالمية التي التقت في جاكارتا، والتي تنتمي بدورها إلى أطر متعددة ومتنوعة. وينوي ممثلون عن كل تلك الشبكات حضور الاجتماعات العراقية لتوفير الحماية والغطاء الإعلامي، ولإطلاق عملية مساندة عالمية لهذا الاتجاه العراقي. وستكون هذه المساندة حاسمة في ابطال مفعول الخلل الذي يلحقه بميزان القوى القائم واقع جبروت الاحتلال، ووسائله العسكرية والقمعية والاعتباطية، والأوهام التي يثيرها أو الفساد الذي يتقصد نشره. إلا أن هذه المساندة ستكون حاسمة في إبطال مفعول ما يبدو وكأنه انعدام الآفاق الأخرى، سوى تلك التي تدعو إلى التعامل بواقعية مع الاحتلال، خشية الفوضى أو خشية بعبع عودة صدام حسين ونظامه إلى السلطة. وسيسجل نجاح تلاقي الحركة العالمية المناهضة للعولمة والحرب، بالإمكانات الداخلية المتولدة عن الخيارات الوطنية، أي هذا النوع من التدخل في الصراع، بداية شيء جديد لن تتوقف آثاره على العراق فحسب، على أهمية ذلك، بل هو يمتلك مدى عاماً، نافذة ضوء طال انتظارها، تخرج القضايا الكبرى، كالعراق وفلسطين، من دائرة ثنائية عقيمة، محكمة الاغلاق، بغيضة وقاتلة، هي الخضوع أو الانتحار، إلى فضاء الأمل.