توحي جموع النساء اللبنانيات اللواتي يركضن صباح كل يوم على كورنيش البحر وإقبالهن الكثيف خلال النهار والليل على الأندية الرياضية للهرولة على الآلات الخاصة وحمل الأثقال والسباحة ومزاولة تمارين الليونة والشد، بأن الرياضة جزء من أسلوب حياتهن يمهد الى الاحتراف، لا وسيلة معزولة للتنحيف والرشاقة. لكن المتمعن في هذه الجموع وفي أحوال الرياضة في لبنان يفاجأ بضحالة حضور المرأة في الألعاب الرياضية لاعبة ومدربة وحكماً وإدارية على رغم محاولات إقحامها واقتحامها هذه المجالات. قد تكون صورة فتيات ارتدين الشورت الفضفاض وأقحمن أياديهن في قفازات ضخمة مبطنة ورددن شعورهن الى الخلف ورحن يكلن الخصم الذكر لكمات موجعة بقبضاتهن وهن يقفزن من دون توقف ويتحايلن برؤوسهن لتفادي لكمات الآخر لهن، مبعثاً على التصفيق الحاد في عرض رياضي من متحمسات لقدرة المرأة على التساوي مع الرجل في كل المهن والهوايات التي يمارسها، بل على إمكان التفوق عليه وإسقاطه ب"الضربة القاضية"، غير ان هذه الصورة تظهر جانباً من الواقع. جانب مشجع ويدعو الى الدهشة، لكن الواقع ليس كله "انتصارات". الفتاة اللبنانية نجحت ومنذ الخمسينات في فرض وجودها رياضياً وهي حققت انجازات على مستويات متنوعة، فكانت السبّاحة والعداءة ورامية الكرة الحديد ولاعبة الجمباز وكرة السلة وكرة المضرب والكرة الطائرة وكرة الطاولة، وشهدت فترة بداية السبعينات حال تألق رياضي ترجمته الأندية الرياضية والملاعب المتميزة التي استطاعت استقطاب الشباب، ولا سيما المدينة الرياضية وقصر اليونيسكو اللذين دمرهما الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، بعدما قضت الحرب الأهلية على ملاعب أخرى أبرزها كان "ستاد دو شايلا" على خطوط التماس في بيروت، فتراجعت الرياضة أمام أولويات أخرى للمجتمع اللبناني، بل انها غُيبت في المدارس والجامعات شأنها شأن سائر الفنون الأخرى لمصلحة العلوم التقليدية. وصارت الرياضة المتوافرة مقتصرة على أطفال ومراهقين يلعبون كرة القدم في الزواريب والأزقة ويركبون الدراجات في الأماكن الأكثر أمناً ويسبحون في أوقات السلم المتقطعة. فيما حمل البعض السلاح وتحولوا الى خزان يرفد القوى المتقاتلة ب"اللحم الحي". ومن لم يشارك في هذا أو ذاك هاجر. وكان على الفتيات أن يتراجعن الى داخل البيوت في انتظار تغيّر الحال. سلام التسعينات جلب معه انتعاشاً رياضياً... لكنه مشوه. فالتجاذبات الداخلية فعلت فعلها في الأندية والاتحادات الرياضية وبؤس الأحوال المعيشية جعل ممارسة انواع الرياضة حكراً على الطبقة الميسورة، فيما أدت ظاهرة التشدد، التي تفشت في بعض الأوساط، الى منع الفتيات من احتراف الرياضة أو حتى ممارستها، إما بحجة الزواج المبكر أو بحجة أن الحجاب يتناقض مع مقتضيات اللباس الرياضي. ويبدو المثال فاقعاً في لعبة الجمباز حالياً ذلك أن الفتيات "يتسربن" من اللعبة فور بلوغهن سن 13 أو 14 عاماً. لكن التعميم في هذا المجال ظالم، فثمة فتيات تحدين واقعهن الاجتماعي الذي يُظهر انفتاحاً فيما يخفي انغلاقاً. ومنهن من تلقى تشجيعاً من الأهل خصوصاً إذا كانوا رياضيين. وتبقى الثغرة في احتراف المرأة التدريب والتحكيم والإدارة. وإذا كانت دور المعلمين قبل الحرب أنتجت متخصصات في التدريب الرياضي، فإن الانقطاع الذي سببته الحرب أحدث شغوراً يحاول بعض الجامعات في لبنان ملأه من خلال اختصاص التربية الرياضية التي تستقطب الطلاب، ولأن الحال على ما هي عليه في قاعدة الهرم فإن ادارات الاتحادات الرياضية ظلت حكراً على الرجال. ولم تتمكن أي رياضية أو سيدة من دخولها نتيجة جهد شخصي أو قناعة جماعية بوجوب اشراكها في صنع القرار، حتى كان قرار اللجنة الأولمبية الدولية بوجوب اشراك المرأة بنسبة 20 في المئة في إدارات الأندية واللجان الأهلية الرياضية الوطنية. وإذا كان مضى على صدور القرار الدولي نحو 19 عاماً وجرى التأكيد عليه قبل تسع سنوات في الذكرى المئوية للجنة الدولية في باريس، فإن مشاركة المرأة اللبنانية لم تتحقق إلا أخيراً، ذلك ان المهلة التي أعطتها اللجنة الدولية للتنفيذ تنتهي بحلول عام 2005 ومن مفاعيل عدم التنفيذ حرمان الاتحادات الرياضية من المساعدات الدولية. لذا سارعت اللجنة الأولمبية في لبنان الى تشكيل لجنة نسائية تم تعيين أعضائها ممن عملن في مجال الرياضة احترافاً وصحافة أو على علاقة ما بهذا الميدان. وجرى تصوير الأمر على أنه "دليل انفتاح لبناني على المحافل الدولية وبرهان على أن المرأة عنصر أساسي في المجتمع". لكن اللجنة، التي أبدت حماسة أثارت غيرة الرجال في مناصبهم الرياضية، اصطدمت بأكثر من عائق لترجمة حماستها الى أفعال. فقد رُفض اقتراحها بإدخال المرأة الى اللجنة التنفيذية، وبذلك ظلت اللجنة النسائية تحت وصاية اللجنة الأولمبية "الذكورية"، وحينما اقترحت تخصيص مقعد تتنافس عليه النساء في لجان الاتحادات الرياضية جاء رد الفعل جفلة وسؤالاً "أتردن الوصول الى اللجان بهذه السهولة؟" ولأن المهلة المعطاة ضاقت زمنياً. كان لا بد من التطبيق وجاء مدوياً في بعض الأحيان. فقد صار للاتحاد اللبناني ل"التايكواندو" رئيسة وان كانت ابنة رئيس جمهورية البلاد. وصار لاتحاد الفروسية أمينة للصندوق ولاتحاد الغولف أمينة للسر وكذلك لاتحاد الجمباز وبات للرقص الرياضي رئيسة لاتحاده وان لم يكن هذا النوع من الرياضة من ضمن الألعاب الأولمبية. واخترقت نساء عضوية اتحادات أخرى مثل ألعاب القوى وكرة المضرب، وذلك قبل تشكيل اللجنة النسائية. ومع ذلك، تعتقد رئيسة اللجنة النسائية عضو الاتحاد الآسيوي لألعاب القوى وممثلة القارة في الاتحاد الدولي والبطلة السابقة في الجري السيدة كلير شهاب ان حضور المرأة "لا يزال خجولاً". وتقول: "ان تعرض المرأة للصد الدائم من الرجل يجب ألا يمنعها من المثابرة والتجربة وصولاً الى اثبات الوجود". وترى "ان العمل يجب أن يتركز على الأندية والاتحادات الرياضية من أجل الوصول الى صنع القرار، ليس علينا أن ننتظر فسح المجال لنا بل أن نجعل الرجال يقرون بأنهم لا يستطيعون الاستغناء عنا. ان الاتحادات التي باتت النساء مشاركات في صنع قرارها لم تعد العلاقة داخل لجانها الإدارية بين امرأة ورجل، صار الرأي هو ما يُناقش وليس من يقوله". لكن الهم الرياضي لا يقتصر على ضعف المشاركة النسائية، فالاحتراف الرياضي له حوافزه المفقودة على مستوى القاعدة إناثاً وذكوراً وعلى مستوى وزارتي التربية والشباب والرياضة والاتحادات الرياضية، فأساتذة الرياضة تابعون لوزارة التربية غير المؤهلة للنهوض بهذا الاختصاص، والمناهج التربوية في المدارس الرسمية لا تحتسب للرياضة علامة، إضافة الى غياب الملاعب والتجهيزات والأندية المحلية المجانية، ما يجعل المدارس الخاصة مصدراً وحيداً للرياضيين المحتملين وذلك يبقى رهن رغبتهم في الاحتراف خصوصاً أن الدراسة الجامعية عامل تراجع لدى الفتاة والشاب في آن. لا تجد السيدة شهاب ثمة مبررات لعدم احتراف الرياضة في كل مجالاتها من النساء "فلدينا حالياً 18 فتاة يمارسن رياضة المصارعة وهن يحتفظن بكامل انوثتهن، وفي إيران تمارس المرأة كل أنواع الرياضة من دون أن تتخلى عن لباسها الشرعي وهي حققت ذاتها كلاعبة وإدارية وحكم وباتت تشارك في ألعاب أولمبية تتناسب ملابسها والتزامها الديني، فهي تمارس رياضة التزلج ورمي الكرة الحديد، والاحتراف النسائي نشاهده في الكويت والبحرين. وفي لبنان ثمة فريقان نسائيان يلعبان كرة القدم حبياً حتى الآن ونأمل أن يهتم بهما اتحاد كرة القدم ويصبحان من الفرق الرسمية خصوصاً أن هناك بطولة عالمية في كرة القدم النسائية". والفارق تجده شهاب شاسعاً بين اهتمام دول العالم وتحديداً في آسيا بلاعبيها المحترفين وبين اهتمام الدولة اللبنانية برياضييها، "فلبنان ليس بيروت فقط. بعلبك أعطت لبنان في زمن ما لاعبين مميزين في الوثب والقفز". والمسألة التي تحيّر شهاب وأعضاء اللجنة النسائية التجاهل الرسمي للإمكانات التي يمكن أن توفرها المدنية الرياضية والملاعب التي شيدت في المناطق والتي هي مقفلة في وجه الاتحادات وكل الشباب فتياناً وفتيات لممارسة الرياضة فيها من دون مقابل ما يحرم لبنان من اكتشاف أبطاله. وإذا كانت الحجة الخوف من تعرض هذه المراكز للتخريب بعدما تكلفت الدولة ملايين الدولارات لتشييدها وتأهيلها، فإن الامتناع عن صيانتها سيكبد الدولة مبالغ مماثلة عندما يستضيف لبنان عام 2009 الألعاب الفرنكوفونية. وتعتبر شهاب أن جمع الاتحادات الرياضية في المدينة الرياضية وجعلها مسؤولة عن صيانة ما تستخدمه يجعل المدينة مركز استقطاب لآلاف الشبان والفتيات ويجسد الحلم الذي يسعى الرياضيون في لبنان الى تحقيقه. بين النساء اللواتي يركضن على كورنيش البحر من تحاول اختراق سقوف زجاجية ذاتية، لعلها بداية لاختراق أكثر من قوقعة استسهلت النساء وجودهن فيها في عصر لم تعد فيه المرأة من "الكماليات".