حفلت مناقشات دورة المجمع البطريركي الماروني الأولى من الأول من حزيران/ يونيو الى السابع منه ومن السادس عشر الى الحادي والعشرين، شأن ديباجة البيان الختامي في صحف 22 حزيران، بعبارات وكلمات تدل على محاولة المجمعيين الموارنة، بلبنان والانتشار، الجمع بين وجوه متباينة ومتفرقة تعرّف احوالهم وأعمالهم ومنازعهم، اليوم. فالكنيسة المارونية، على قولهم، تأتلف من "بعدين: كاثوليكي ومشرقي". ورعاياها ينتسبون، في آن، الى الكنيسة الجامعة والواحدة و"الرومانية" - على مثال اوسع وأعرض سلطان ارضي ودنيوي عرفه العالم القديم، هو السلطان الروماني، وكني به عن البشرية و"المسكونية" -، وإلى كنيسة "أم" شدتها حوادث تاريخها الى "ارض لبنان"، ورسختها في "العالم العربي"، وتحدر إليها "تراث انطاكي سرياني" و"مشرقي" الجذور، فنسبها الى "عائلة الكنائس السريانية المنتشرة من البحر المتوسط الى المحيط الهندي". ويعول اهل المجمّع على "لقاء البعدين" هذين. ويحملون عقد مجمعهم، وهو الثاني بعد مجمع لبناني يعود عقده الى 1736، على "الربيع المتجدد الذي طلع على الكنيسة الجامعة بفضل المجمع الفاتيكاني الثاني". وهذا كان مسكونياً عاماً، أصغى الى أصوات أساقفة افريقيين وآسيويين وأميركيين جنوبيين وشرق اوسطيين، ويرقى ختامه الى 1965. واضطلع فعلاً ب"ثورة" فكرية كنسية ادخلت اهل الاعتقاد الكاثوليكي في زمن كان بعضهم يخاصمون حداثته، وكانت مقالاتهم المعلنة ترى إليه ضداً او نقيضاً نهض على أنقاض الكثلكة ومذهبها في الثقافة والتاريخ والاجتماع والسياسة. وعلى نحو ما يحمل اهل "المجمع البطريركي" مؤتمرهم على حافز جامع، منشأه مجمع كاثوليكي ومسكوني "روماني"، يحملونه، ومن وجه ملازم، على "حاجة الكنيسة المارونية الى ان يلتقي ابناؤها ... وأن يصلوا معاً...". وعلى مثال قريب يريد اهل المجمع التأليف بين "تراث نسكي" و"عيش رهباني"، وهما قرينة على صدارة "الداخل" الكنسي والإيماني على "الخارج" الاجتماعي وهيئاته، وبين "الفعل في الزمن الحاضر"، و"الاندراج في العالم العربي" و"تعزيز الحوار المسيحي - الإسلامي". وهذان "بعدان": "تأملي ورسالي"، على قول البيان الختامي. ويسعى اهل المجمع في "الأمانة" لهما كليهما. والكنيسة المارونية، هي كذلك بطريرك، ينهض بقطب التوحيد والقبض، وهي علمانيون يتولون اضطراراً قطب الكثرة والبسط. وإذا كان البطريرك، والمجمع "منذور" له ولسدته، عَلَم على النظام الكنسي، والتراث الكنسي، والليتورجيا الكنسية، والكرازة والشرع، فالعلمانيون مسارحهم العائلة والمرأة والشباب. وهذه، بدورها مدارها على "الحياة" والإنجاب والسعي والعمل والدراسة والهجرة والسياسة. وهذه تدعو الى التغير و"الإصلاح". فعلى "رتبة القداس" ان تُنقل "موحدة" الى موارنة المهاجر المتكاثرة والمتسعة "بلغاتهم الحية كلها". فيدخل "عنصر التنوع" "عنصر التوحيد" الذي تضطلع به "الليتورجيا الشعائر المقدسة"، ورتبة القداس شعيرتها الأولى. وعلى رغم ان "الكنيسة المارونية لم ترد يوماً في المجال السياسي ان تكون كنيسة قومية" فلبنان "وطنها الروحي". وهو مصدر معظم موارنة الانتشار، ومرجعهم، ومحل كرسي بطريركيتهم. ولا ريب في ان الانتشار - ولا نقول الكنيسة الشتات ربما دفعاً للغائلة - يصيب روابط المهاجرين بمنابتهم، وأواصر جيل اليوم بأجيال الأمس القريب والبعيد، بالضعف والارتخاء. وتقلق هذه الحال المجمعيين قلقاً شديداً، يكاد يكون طاغياً. ولكنهم على بيّنة، من وجه ثان، من ان جزءاً من الانتشار يعود الى خسارة لبنان شطراً عظيماً من "حريته"، ومن "عيشه المشترك"، على ما تقول ادبيات الكنيسة المارونية التاريخية، فيما يعود جزء آخر منه الى "ظروف العولمة والانتشار" و"تكامل الحضارات". فيذهب المجمعيون الى ان المرحلة هي مرحلة "التوفيق" بين "بعدين" جديدين هما بعد "الوحدة"، المحلية والتاريخية والتنظيمية والتراثية، وبعد "العالمية". وعلى هذا فالمجمع، مناقشات وبياناً، إحصاء للأبعاد او المدارات التي يسعى نشطاء المارونية في مباشرتها و"معانقتها" في لغة خطابية قديمة، ويسعون في التوفيق بينها من غير خسارة او إنقاص عائد أي منها. فيثبت المجمعيون الأبعاد كلها: الكنسي الجامع المسكوني والأنطاكي السرياني، التأملي النسكي الرهباني والرسالي الدنيوي الاجتماعي، التراثي المحافظ الواحد والراهن المتجدد الكثير، الوطني والمهجري، التنظيمي الشرعي السياسي والشهادي الإيماني الشخصي. وعلى قدر أمانة هذه الإرادة لتقليد استنه تاريخ يتخذه المجمعيون سنداً، يجمع "المملكة" الى "الملكوت" ويصل بينهما برابطة خصبة، تبدو الموازنة بين الأضداد والمنازع المتفرقة، اليوم، تمريناً صورياً من غير مادة حية. فالأبعاد لا تتساوى. وليس خفياً ان نزيف الهجرة او الانتشار يمتحن موازنة الأبعاد بعضها بعضاً. و"بطريركية" عنوان المجمع، اي نازعه الى تقديم المركزية والوحدة على الأطراف والبعثرة والكثرة، علاج قد لا يكون شافياً لخسارة الموارنة واللبنانيين لبنان الحر والمشترك وطناً وتراثاً و"رسالة"، بحسب كلمة يوحنا بولس الثاني المؤاسية. وتقديم التوحيد، وأداته ورتبته مهددتان في معقلهما، على الانتشار يخالف تراثاً مارونياً ولبنانياً قدم الفعل التلقائي والطوعي على الإدارة التنظيمية، ولو ملهمة. فهل نقرأ في هذا نذر طالع يجلو عنه الرجاء على نحو ما يتركنا المهاجرون؟ * كاتب لبناني.