قد يظن القارئ ان كتاب الناقد العراقي - الاسرائىلي رؤوبين سنير "ركعتان في العشق - دراسة في شعر عبدالوهاب البياتي"* يتعرّض للظاهرة الصوفية في شعر البياتي نظراً الى ما تشي به عبارة "ركعتان في العشق" المستعارة من الحلاج. لكنّ الناقد سرعان ما يوضح في مستهلّ كتابه ان قراءته تنطلق من الصوفية لتصبّ في مفهوم الالتزام كما تجلّى في شعر البياتي وتحديداً في بعض قصائده "الملتزمة". ولعلّ الاقتران الذي حصل بين الصوفية والإلتزام هو وليد الجدلية التي يعانيها الشعراء عادة بين "الاتصال بحقيقة كونية" و"المساهمة في بناء المدينة الفاضلة" بحسب تعبير الناقد. وقد وجد في البياتي مرآة لتطوّر الشعر العربي في النصف الثاني من القرن المنصرم ناهيك بكونه "الشاعر الذي تتجسّد في مسيرته الفنية مسيرة الالتزام في الشعر العربي". وإن كان رأي الناقد في البياتي قابلاً للنقاش تبعاً لطوباويّته ومثاليته، فإن الناقد نفسه لا يخفي حبّه للبياتي وشغفه به ومثابرته على قراءته ومتابعة معظم ما كتب عنه في العالم العربي من كتب ومقالات ولو كانت صحافية صرفاً أحياناً. وهذا الحبّ أو الشغف الذي نادراً ما التمسه قارئ البياتي لدى النقاد العرب يتجلّى في طوية ناقد عراقي الأصل، اسرائيلي الهويّة والإقامة. والعجب ان يواكب هذا الناقد حركة الشعر العربي الحديث في معظم مصادره ومراجعه وهو مقيم في اسرائيل بينما كان فلسطينيو العام 1948 يشكون دوماً حال انقطاعهم عن الثقافة العربية عموماً. ترى هل هو حنين رؤوبين سنير الى أرومته العربية والعراقية يدفعه الى هذا الشغف والحماسة أم أنها حال الاغتراب تحمله على ترسيخ عروبته في الداخل الاسرائيلي واسرائيليته في الثقافة العربية؟ على انّ ما يفاجئ القارئ العربيّ ان الكتاب وإن كان فردياً في تأليفه هو خلاصة تعاون أكاديميّ انصهرت فيه جهود زملاء الناقد وبعض طلابه في الجامعة العبرية التي يدرس فيها. إنها اذاً مشرحة أكاديمية يخضع فيها عبدالوهاب البياتي لعملية "تفكيك" و"تقطيع" تحت مباضع عربية - اسرائىلية أو اسرائىلية صرف. لكنّ تلك المباضع لن تمعن في تشريحه إلا لتظهر ما خفي من أسراره وما توارى من خصاله الجمالية والفنية وما غمض من معانيه وقضاياه. لا يخفي الناقد سنير انحيازه الى البياتي على رغم موضوعيته التامة في تشريح قصائده التي اختارها وهي خمس: "أباريق مهشمة"، "عذاب الحلاج"، "القربان"، "قراءة في كتاب الطواسين للحلاج"، و"نار الشعر". فهو يدمج بين الموضوعية والذاتية، بين المنهج الأكاديمي والذائقة الشخصية، بين التفسير أو التأويل الحيادي والحماسة الذاتية. وهكذا راح يستعين بما توافر من شواهد وآراء ومقاربات تدعم قراءته النقدية المتعددة المناهج أو الطرائق. فهو بنيوي المنهج حيناً، أسلوبي حيناً، إحصائي، تأويلي و"موضوعاتي" منهج الناقد الفرنسي جان بيار ريشار... لكنه لن ينثني عن الرجوع الى بعض المناهج القديمة وخصوصاً عندما يرتكز الى آراء نقاد كلاسيكيين من أمثال إحسان عباس وعزالدين اسماعيل وميخائيل نعيمه وسواهم... وهو لن يغفل كذلك بعض جوانب سيرة البياتي الحياتية ومسراه الثقافي وتجربته الشخصية أو الفردية وميدانه النقدي أو "التنظيري". ولن يدع ايضاً أي شاردة أو واردة تتعلّق بشاعره إلا ويتصدّى لها. ولعلّ هذا التعدد في المناهج والمرجعيات ما أغنى كتابه وجعله في متناول جميع القراء على اختلاف ثقافاتهم. يجمع الكتاب بين النقد التطبيقي والنظرية النقدية في آن، بل هما يتداخلان في نسيج الكتاب تداخلاً متيناً. فالناقد لا يكتفي باستخلاص الشواهد والدلائل بل انّه ينطلق منها ليحلّل ويؤوّل ويرسّخ رؤيته الخاصة الى قصائد البياتي وإلى تجربته العامّة. وما ان ينتهي من وضع ما يشبه السيرة الشعرية للبياتي انطلاقاً من بعض المحطات والظواهر والخصائص حتى ينصرف مثلاً الى تشريح أولى القصائد وهي "أباريق مهشمة". وفي تناوله سيرة البياتي الشعرية يذكّر القارئ مثلاً بانحياز الشاعر الى مجلة "الآداب" التي كانت وما زالت - وفق رأيه - منبر "الأدب الملتزم". ولا يفوته كذلك ان يشير الى حال الجفاء التي قامت بين مجلّة "شعر" والبياتي الذي لم ينشر فيها أي قصيدة له. وإذ يتناول في الجزء النظري الذي يستهلّ به كتابه مفهوم الالتزام فإنما يقرأه من خلال معطياته التي ترسّخت بدءاً من الستينات واصفاً اياه بما يسميه ضرورة ان "يعي الأدب الواقع ويشارك في تكوينه". ويورد ايضاً المظاهر التي يتجلّى فيها الالتزام أدبياً كالماركسية والوجودية والوطنية والقومية وسواها. لكنّه لا يمعن نظرياً في التمييز بين الالتزام الماركسي والالتزام الوجودي والواقعي... ولا يلجأ الى تفسير مظاهر الالتزام هذه بل يكتفي بايرادها أو تسميتها فقط. ولا يعمد كذلك الى إعادة قراءة مفهوم الالتزام وقد باتت تفرضها التحوّلات التي طرأت على الأدب ونظريته مثلما فعل - على سبيل المثال - الناقد الفرنسي بنوا دوني في كتاب صدر له اخيراً في باريس وعنوانه "الأدب والإلتزام". ألا ان هذا النهج لن يحول دون استخلاص خصائص الالتزام من قصائد البياتي نفسها ومن نصوصه النظرية وجميعها ميدان القراءة النقدية أولاً وأخيراً. وسيعمد الناقد الى ايراد معارضة نازك الملائكة مثلاً لفكرة الالتزام ص11 وكذلك مفهوم مجلة "شعر" للالتزام متناولاً انقسام الساحة الشعرية حول هذه القضية. وفي حين يورد بعض الآراء السلبية التي تناولت مجلة "شعر" حينذاك يمعن في نقدها شخصياً آخذاً على أصحابها إساءتهم الى "مفهوم الالتزام" و"ترديدهم الشعارات والمواعظ المباشرة والسطحية". لكنه يميّز بين نموذجين شعريين مختلفين واحدهما عن الآخر: نموذج البرج العاجي ونموذج المنارة. ولم يكن على الناقد ان يختار عبدالوهاب البياتي شاعراً ينتمي الى النموذج الثاني إلا من كونه جمع بين الالتزام والصوفية. لعلّ المأخذ النظري الوحيد الذي يمكن أخذه على الناقد رؤوبين سنير هو عدم خوضه في الجدلية التي ينصهر عبرها الالتزام والصوفية خوضاً عميقاً ومسهباً. فالاكتفاء بالنقد التطبيقي على هذا المستوى لا يشفي غليل القارئ أولاً ولا يفي هذه الجدلية حقها المفترض. وإن نجح الناقد في تحليل مفهوم قناع الحلاج الذي اعتمده البياتي فإن ما بدا ناقصاً هو ايضاح أسرار هذه العلاقة الجدلية التي يحياها المتصوّف - الشاعر قديماً وحديثاً. فماذا يعني ان يكون المتصوّف المأخوذ ب"الحقيقة الكونية" شاعراً ملتزماً؟ بل ماذا يعني ان يكون الشاعر المناضل من أجل "المدينة الفاضلة" متصوّفاً؟ ينطلق رؤوبين سنير في تحليله قصيدة "أباريق مهشمة" من دورها الذي أدته في ترسيخ أسس الحداثة الشعرية ومن إيذانها في تحوّل الشعر العربي من "الرومانسية الساذجة" كما يقول الى الالتزام. وبهذه المقاربة يتخطى سنير السجال الذي قام حول القصيدة الحرّة بين بدر شاكر السياب ونازك الملائكة لكنه لا يوضح أي "رومانسية ساذجة" يقصد: رومانسية البياتي نفسه أم الرومانسية العربية؟ وفي خلاصة تحليله ان هذه القصيدة تمثل المعالجة الأولى التي وعيت مسألة الالتزام في شعره نفسه ولكن من غير ان تخرج عن الكتابة الشعرية المألوفة في مرحلتها. ثم ينتقل الى قصيدة "عذاب الحلاج" معتبراً ان "تطوراً نوعياً" طرأ بدءاً من الستينات على أسلوب البياتي في ما يخصّ قضية الالتزام. قبدءاً من تلك الفترة لم تعد قصائد البياتي تساهم في نضال الجماهير فقط بل شرعت في "أثراء الخطاب التنظيري حول الالتزام" موظّفة القناع ومستخدمة "التجربة الصوفية كمرآة". وفي خلاصة تحليله قصيدة "عذاب الحلاج" ان الشاعر استخدم ضمير المتكلم ودمج بين المعجم الصوفي النظري والتاريخي ومعجمه الشعري والاجتماعي. ويرى ان "الشاعر - المنارة توحّد في القناع ليعبّر من خلاله عن افكاره ومبادئه". وعلى غرار قصيدة "عذاب الحلاج" يكتب البياتي - كما يرى سنير - قصيدة "القربان" ولكنه يبدو هنا ضحية الشك الذي يساوره إزاء قدرة الشعر على تغيير الواقع فاذا به يوظف شخصية الحلاج في طريقة أخرى. أما القصيدة الحلاجية الثالثة فهي "قراءة في كتاب الطواسين للحلاج" وفيها يعبّر البياتي عن حال الشك نفسها وقد شابها مقام الانتظار: انتظار المنقذ أو المخلّص. ويرى الناقد ان توظيف البياتي قناع الحلاج بدا متجاوباً مع إدراكه بأن "التاريخ ليس مجرّد ركام من الوقائع والأحداث" بل هو "تجربة واسعة متعددة الجوانب". وفي رأيه ان البياتي لم يختر شخصية الحلاج نظراً الى كونها تمثّل "البطل النموذجي" وإنما لكونها تتيح له، كشاعر، "فرصة استبطان مشاعرها في أعمق حالات الوجود". وقد باتت شخصية الحلاج "رمزاً لبلوغ أعلى مرتبة في الحب الصوفيّ"، وكانت في الوقت نفسه "مثالاً للتضحية من أجل الآخرين". ربما لم يأت الناقد الأكاديمي رؤوبين سنير بجديد في ما يخصّ مفهوم القناع وقضية الحلاج ومسألة الالتزام، فمثل هذه الأمور عولجت كثيراً في النقد العربيّ، لكن الجديد والمفاجئ الذي جاء به هو مقاربته النقدية، تطبيقاً ونظرية، لقصائد البياتي، وقد اعتمد فيها أكثر من منهج وطريقة لينفذ الى عمقها ويضيء حفاياها وأسرارها ومعانيها. وأهمّ ما في مقاربته ايضاً انفتاحها على خلفية ثقافية شاسعة وعلى ما يمكن ان يسمى ب"النقد التناصيّ". فكلما استخلص سنير فكرة أو مبدأ أو مقولة دعمها بشواهد اخرى أدبية وفلسفية واجتماعية وتاريخية. ولعلّ ذلك ما أنقذ كتابه من الجفاف الأكاديمي من دون ان يجرّده لحظة من التحليل والتشريح والتأويل. أما المشرحة التي أخضع سنير البياتي لها فهي لم تخلُ من الشغف والمحبّة والاعجاب. فمبضعه كان رحوماً جداً وغير جارح حتى وإن أصاب. وإن بدا كتاب رؤوبين سنير من أشدّ الكتب التي تناولت البياتي جدّية ومنهجية فهو ايضاً أشبه برسالة حبّ من ناقد عراقي الأصل، اضطرته الظروف السياسية على ان يصبح اسرائيلياً، الى شاعر يظلّ يعتبره مواطنه. * صدر الكتاب عن دار الساقي، 2002.