"كنت دائماً أرى ما لا يرى، في النوم". أرى أبي بعمامته البيضاء وعباءته الحرير يجلس ويحتسي القهوة العربية. بين يديه ديوان من الشعر يقلب صفحاته، فتتدلى عناقيد القوافي، رطبة دانية القطوف. وأرى أمي، بوجهها المملوء بالتجاعيد والأخاديد التي حفرتها السنون، ويديها المحروقتين من توهج الجمر داخل التنور. رأيتها تقف أمام التنور بثوبها المزركش الجميل، تخبز العجين، لتقدمه طازجاً الى أبي، قارئ الشعر، وتطوف حولنا كفراشة من نور، كأنها أخذت من التنور جذوته. وأرى بين الوجوه وجه الشاعر غازي القصيبي، وهو يتحدث عن آفاق الشعر. وآخرون، لا أعرفهم، يتناقشون في رواية "النخلة والجيران" لغائب طعمة فرمان. بينما القصيبي يتحدث منتشياً عن الشاعر أمل دنقل، وقصيدته "لا تصالح". كان الشاعر القصيبي يبحر بالكلمة من مرفأ اللحظة، على متن موجة، ويجذبهم كصدف الى أعماق الفكرة، فترتسم على صفحة الوجوه الفرحة، وتنتشي البراعم. عندما قال: "يشهد الله أنكم شهداء"، "كنت أرى ما لا يرى". أرى العراق محرراً، وأكثر نضارة واشراقاً، وأرى البلاد خالية من بؤر الفساد ومن رموزها، والناس يجلسون في حوانيتهم وأمام منازلهم بحلل خضر. أرقد في فراشي ما بين اليقظة والحلم، بين دخان سجائري أطلب النوم فلا أجده، وفي الصباح أنهض، أقصد صديقي الشاعر، وأحكي له ما رأيت. فيقول: في البدء كانت الكلمة، وكانت القراءة، ان ما تراه كوابيس، أنصحك بالقراءة قبل النوم، فلن ترى هذه الكوابيس بعد اليوم. فجر اليوم، استيقظت، رأيت البارحة أشياء كثيرة بعد أن عملت بنصيحة صديقي الشاعر. رأيت النخلة عاقراً، والجيران عنها في شرود، فتظهر وجوهنا على النقود مصكوكة بالمحنة. وتفيض في سماء روحي الغربة، وأقول: يا غربة أنا طعمك المر. وعندما تعطر صباحي بالندى، استيقظت في أعماقي الحروف، وولدت مرثية للشعب العراقي. حماه - علي محمود خضور