التقى الأمين العام للأمم المتحدة كوفي انان مع السيد عدنان الباجه جي على مطلب محدد هو إنهاء الاحتلال، لكن بصيغتين مختلفتين. كان انان واضحاً في القول ب"ضرورة اقامة حكومة تمثل الشعب العراقي بما يسمح بإنهاء الاحتلال العسكري سريعاً". وكان الباجه جي عملياً في قوله ان الهدف الأول لمجلس الحكم الانتقالي هو تقليص مدة المرحلة الانتقالية قبل اجراء انتخابات واقامة حكومة منتخبة. على رغم أن المواقف الأميركية والبريطانية المعلنة لا تناقض هذا المنطق، إلا أن واشنطن ولندن لا ترغب في سماع كلام كثير عن انهاء الاحتلال، بل انها لا تحبذ تسمية الاحتلال احتلالاً. أكثر من ذلك، يرفض الأميركيون على طريقة الاسرائيليين أي بحث في "جدول زمني" واضح يتضمن محطات محددة تؤدي في أقرب وقت الى عودة السيادة كاملة الى العراق، وفقاً لما ذهب اليه انان. صحيح ان الإدارة الأميركية تريد الآن دوراً واسعاً وحيوياً للأمم المتحدة، بل تحتاج الى مثل هذا الدور، إلا أنها مع ذلك ترفض أي تغيير في الوضع القائم الآن في العراق: أي ان الباب مفتوح للمساهمات الدولية في مختلف المجالات، لكن تحت ما يسمى "الإدارة المدنية"، بالأحرى العسكرية، الأميركية. ولذلك فهي تستبعد فكرة اصدار قرار جديد يعيد صوغ توصيف حال الاحتلال ويضع ما يشبه "خريطة الطريق" لإنهاء الاحتلال. كان القرار السابق 1483 اعترف بالوصاية الأميركية على العراق، ما عنى اكساب الاحتلال شيئاً من "الشرعية". والمطلوب الآن أميركياً أن تؤكد الأممالمتحدة هذه الشرعية بالتبرع بالعمل تحت هذه الوصاية، فالولاياتالمتحدة لم تحتل العراق لكي تسلمه الى الرعاية الدولية في أي حال، وبالتالي فإن المجال الوحيد المتاح للمنظمة الدولية هو الاكتفاء بالمساهمة الممكنة وعدم التمسك بمبادئها وأساليبها في العمل. هذا هو ملمح أول من النظام الدولي الجديد: الأممالمتحدة في خدمة الولاياتالمتحدة. في ذلك تكرار لما حصل في افغانستان، بعد احتلالها أيضاً، وهو ما لا يبدو عملياً ومجدياً حتى الآن. طبعاً، كان الفارق ان الحرب على افغانستان جرت تحت المظلة الدولية وبتحالف دولي لم يتوفر في حال العراق. الفارق الآخر ان الأممالمتحدة تولت منذ البداية بلورة الصيغة السياسية لحكم البلاد، لكن الولاياتالمتحدة تحكمت بهذه الصيغة عبر رجالها الذين فرضتهم. والفارق الثالث ان اميركا، بعدما أنجزت الجانب العسكري، عادت فكررت خطأ ترك افغانستان تقلع شوكها بأيديها خصوصاً في مجال إعادة الإعمار وإنهاض الاقتصاد، والنتيجة الواضحة اليوم ان افغانستان لا تزال بعيدة عن الاستقرار. أما بالنسبة الى العراق فيبدو الأميركيون معنيين جداً بإعادة الإعمار وباقلاع الاقتصاد، ويريدون حصر الصفقات بشركات اميركية كمكافأة مبررة لقاء "تحرير" العراق، لكنهم يحتاجون الى مساعدة في الأمور الصغيرة لقاء ثمن يدفع للدول المتطوعة في أماكن ومجالات أخرى خارج العراق. واضح ان الهدف بات الآن تذويب "الاحتلال" في صيغة دولية لا يعود معها الأميركيون هم المستهدفون وحدهم. وهو أيضاً توزيع كلفة الاحتلال والإعمار على "شركاء" غير موعودين بمصالح مباشرة في العراق. بل يجب أن يبقى العراق ساحة مغلقة للأميركيين. وبهذا المفهوم، حتى لو لم تتغير صيغة الوجود الدولي بقرار جديد لمجلس الأمن، ستبقى المساهمات الدولية في اطار محدود ولن تكون للأمم المتحدة كلمتها في أي شأن، أي لن تكون للعراقيين كلمتهم أيضاً في شؤونهم، خصوصاً أن الأيام الصعبة لا تزال أمامهم. مثلما غطت انباء مقتل عدي وقصي صدام حسين على انباء جلسة مهمة وأساسية لمجلس الأمن، كذلك يتعامل الأميركيون مع الوضع في العراق. فأي فقاعة أمنية وإعلامية يمكن أن تساعد جورج بوش وتوني بلير على تجاوز النقاش الداخلي ل"أكاذيب الحرب"، لا بد من التقاطها وجعلها محور النظرة الى العراق. على رغم ان تطبيع الوضع العراقي ضروري للبزنس الأميركي، إلا أن تعقيداته يمكن أن تدفع الأميركيين الى قبول حال افغانية أخرى يحافظون فيها على مواقع ثابتة لهم كمنابع النفط ويتركون للأمم المتحدة ولمن يرغب، التعامل مع المتاعب بعد أن يكونوا قد جربوا كل ما يخطر في بالهم من أخطاء كما فعلوا حتى الآن.