صور ناعمة تتجاور فيها اشجار النخيل مع صفرة الصحراء الممتدة الى ما لا نهاية وحتى تلامس أفق السماء مع حافتها البرتقالية، إنها محافظة الوادي الجديد التي تمتد مساحتها عبر الصحراء الغربية بما يوازي 6،37 في المئة من مساحة مصر الكلية. فهي كبرى محافظات مصر، وتمثل صحراؤها 67 في المئة من مساحة الصحراء الغربية ويزيد سكانها على 189 ألف نسمة. في هذه البقع الخضراء النائية في قلب الصحراء توجد ثلاث واحات كبرى من الجنوب وحتى الشمال تبدأ بواحة الخارجة ثم الداخلة واخيراً واحة الفرافرة. يتميز الوادي الجديد عن باقي محافظات مصر بوجود امكانات سياحية اضافية الى جانب السياحة الثقافية، فهناك السياحة العلاجية وسياحة السفاري. وتقام فيها مسابقات الرالي المحلية والدولية وكان اخرها رالي باريس - داكار في كانون الثاني يناير من العام 2000 حيث كانت الوادي الجديد محطته الرئيسية. يعود تاريخ المنطقة الى اكثر من ثلاثين قرناً قبل الميلاد، وتحوي آثاراً من العصور التاريخية الاولى وحتى العصور الاسلامية، ويشهد كثير من اثارها وابنيتها الفرعونية والرومانية والاسلامية على تمازج انساني عميق ترك اصداءه في قلب الصحراء وخلّف تاريخاً يؤكد على ذلك. اشهر ما يميز الواحات الجنوبية تلك الاعداد الضخمة من اشجار النخيل التي تزين مساحات الصحراء الشاسعة التي تراها عين الزائر يميناً وشمالاً، نخيل متزاوج بكامل الوئام مع ذلك المناخ القاسي والممتع في آن. واكثر ما يمنح هذه اللوحة رقة وعذوبة الآبار والعيون المتدفقة بالمياه الجوفية الفياضة في كل مكان، إذ تمثل المياه الجوفية في الوادي الجديد المصدر الرئيسي للحصول على المياه وبالتالي المصدر الرئيسي للحياة. تعتبر مدينة الخارجة العاصمة الرئيسية للمحافظة وقديماً كانت تسمى طيبة، وعثر فيها على أدوات استخدمها الانسان في العصر الحجري الحديث اي في العام 5000 قبل الميلاد. ويوجد فيها عدد من المعابد القديمة اهمها معبد هيبس الذي يرجع الى الاسرة السادسة والعشرين الفرعونية، ثم أدخلت عليه اضافات في العصور الفارسية والبطلمية والرومانية. وشيد معبد هيبس لعبادة الثالوت المقدس امون - موت - خنسو، ونقشت على جدرانه معظم الالهة الفرعونية. وفي المعبد بوابات عدة اهمها بوابة الامبراطور جلبا المعروفة باسم البوابة الرومانية وتحمل نقوشاً تعود الى العصر الروماني وتحديداً العام 69 ميلادية. ويلي هذه البوابة طريق الكباش المؤدي الى البوابة الكبرى ثم البوابة الرئيسية للمعبد، وفي نهايته يقع قدس الاقداس. ويعتبر هذا المعبد من اضخم المعابد القديمة في الصحراء الغربية. وتوجد في الخارجة ايضاً جبانة الباجوات المسيحية، وسميت بهذا الاسم نسبة الى طرازها المعماري ذي القبوات الكثيرة، ويرجع تاريخها الى القرن السابع عشر وتضم 263 مقبرة على شكل كنائس صغيرة شيدت على طراز القباب وتتوسطها اطلال كنيسة تعتبر من اقدم الكنائس القبطية في مصر. كما تحوي هذه المقابر التاريخية هياكل عدة اهمها هيكل السلام الذي تحكي مناظر قبته قصصاً من التوراة والانجيل. وفي الخارجة كذلك معابد عدة قديمة على طريق درب الاربعين الممتد بين اسيوط ومدينة دارفور في السودان، وقد سمي بهذا الاسم لأن القوافل كانت في ما مضى تقطع المسافة بينهما في اربعين يوماً. ومن هذه المعابد معبد الناضورة الذي شيد لعبادة افروديت الهة الحب والجمال عند الاغريق وفيه بقايا كتابات هيروغليفية ونقوش بارزة لافروديت. وسمي بالناضورة لاستخدامه مركزاً لمراقبة القوافل المارة في درب الاربعين في زمن الاتراك والمماليك. كما يوجد معبد الغويطة المطل كذلك على درب الاربعين ويعود تاريخه الى الاسرة السابعة والعشرين الفرعونية، وقد جدد بناءه البطالمة في ما بعد. ثم معبد دوش الذي يرجع تاريخه الى عصر الاباطرة الرومان. واخيراً معبد قصر الزيان الذي بني في العصر البطلمي ورُمم في العصر الروماني مرة اخرى. اذن هي جولة سريعة قد لا تتجاوز الساعة الواحدة لكنها تحمل بداخلها معانيَ كثيرة وافكاراً تركها الانسان القديم في هذا الجزء النائي في الصحراء الغربية من جنوب مصر، يضم تاريخ الماضي وأمل المستقبل ويقدم للزائر مزيجاً بين هذا وذاك. أما واحة الداخلة فتبعد 189 كم عن الخارجة في اتجاه الشمال، عرفت قديماً باسم "موط" نسبة الى "موت" زوجة الاله امون. وأكثر ما يميزها الطابع المعماري الاسلامي، ففيها قرية بلاط الاسلامية التي شيدت أبنيتها بالطوب اللبن وأستخدمت اخشاب الدوم والنخيل والسنط لأسقفها، أما شوارعها فمقسمة بأسماء العائلات. ويرجع تاريخ هذه القرية الى العصر التركي، وقد اقيمت على ربوة مرتفعة وشوارعها ضيقة ومتداخلة وجميعها مسقوفة بالأخشاب. ويوجد في الداخلة عدد من المعابد الفرعونية والرومانية، وكذلك مقابر فرعونية تعود الى عصر الدولة القديمة وتحديداً الى الاسرة السادسة. وتمتاز بيئة الواحة بمجموعة الآبار والعيون المتدفقة بالمياه الكبريتية التي تحوي العديد من المعادن المفيدة في علاج الامراض الجلدية والروماتيزم، خصوصاً وأن فيها بئراً تتدفق بمياه ساخنة تصل حرارتها الى 43 درجة مئوية، وهي ابار موط السياحية التي يقبل عليها كثير من السياح لغرض الاستشفاء. وفي اتجاه الشمال، وعلى بعد 300 كم من الداخلة، توجد واحة الفرافرة التي يرجع تاريخها الى الاسرة العاشرة الفرعونية، وسميت في اللغة الفرعونية القديمة باسم "تا - أحت" اي ارض البقرة وكانت تعد احد المواقع الاستراتيجية المهمة. وأبرز ما يميزها منابع المياه الجوفية المتدفقة بغزارة اضافة الى تكويناتها الصخرية المميزة والرابضة في واحدة من اجمل المناطق الصحراوية وهي منطقة "الصحراء البيضاء" التي أطلق عليها هذا الاسم لأن اللون الابيض غالب عليها اذ تتكون تضاريسها من الصخر الجيري الابيض والذي اتخذ بمرور الوقت وعوامل المناخ القاسية عدداً من الاشكال الطبيعية البديعة اشهرها "صخرة الفطر" او عيش الغراب كما يعرفه المصريون، اضافة الى ملايين التكوينات الصخرية التي تتباين رؤيتها من شخص لآخر بحسب زاوية الرؤية واشعة الشمس. ويقول اهل المنطقة ان افضل الاوقات لزيارة "الصحراء البيضاء" هو وقت الشروق أو الغروب، حيث تتخلل اشعة الشمس الواهية هذه التكوينات الصخرية البيضاء مكونة لوحة طبيعية رائعة الجمال. ويأتي السياح الى هذه المنطقة بغرض التخييم والمبيت على احدى هضابها المرتفعة والمعروفة باسم "البيت الابيض"، وقد وضع المرشدون هذه الاسماء لبعض المناطق المميزة في الصحراء حتى يستطيعوا تحديد مواقع جولاتهم مع السياح داخل المنطقة، من خلال سيارات الدفع الرباعي التي تجتاز المناطق الوعرة في الصحراء متوجهين الى تلك المناطق المعروفة لديهم، اذ تبدأ الجولة في منطقة المشروم أو الصحراء القديمة وهي الجزء المجاور للطريق الرئيسي ثم يدخلون الى منطقة البيت الابيض ثم الى الصحراء البيضاء وهي تلك المساحة الشاسعة التي تحوي التكوينات الصخرية المتجاورة تحيطها الرمال في موجات انسيابية خلابة. تلك الجولة الطبيعية بين الاثار والهضاب والنخيل ربما لا تغني عن احتكاك عابر مع الناس "أهل المكان". فإذا اردت ان تعرف شيئاً من أصل الحكاية، حكاية الواحات وأوائل من قدموا اليها ومن اين اتوا فلتذهب الى الشيخ عبده ابو النور الذي ربما تجاوز السبعين لكنه يحتفظ من بين ملامحه السمراء الداكنة بابتسامة لا تفارق وجهه ويحكي قصة المكان "وكيف ان غرباء مروا بأحد القصور العتيقة ولم يكن فيه سوى الحارس وزوجته. ومع أن الحارس خشي منهم في البداية إلاّ أنه استأنس بهم في النهاية واصبحوا جماعة ثم جماعات ثم مجتمعاً صغيراً يتآلف مع الطبيعة الصحراوية الحارة الجافة والناعمة في الوقت نفسه. الشيخ عبده تعلم في ما مضى "اقتفاء الاثر" إذ اضطرته ظروف الصحراء والطرق الوعرة لأن يحفظ كل شيء عن ظهر قلب، فبات أشهر من يعرف ضروب الصحراء واتجاهاتها. بل ان الشرطة تستعين به حالياً للقبض على المجرمين الهاربين في الصحاري. وفي المساء يحكي لك الشيخ عبده كيف تعلم الاهتداء بالنجوم حينما لم تكن هناك كهرباء ولا طرق مضاءة... لقد علمته الطبيعة اسرارها فحفظها وبات مشهوراً بها في واحة الفرافرة.