عندما تستعرض بورصة نيويورك انجازاتها تضع في المقدمة توفير الحماية للمستثمرين عبر المعايير الصارمة التي تعتمدها في ادراج الشركات وشبكة القواعد والاجراءات التي تتيح لها ممارسة رقابة محكمة، وان كانت ذاتية في الغالب، على المشاركين في نشاط التداول من الوسطاء والمتعاملين المعتمدين والمؤسسات الاستثمارية، لكنها تعطي أهمية خاصة لقاعدتها الاستثمارية التي اتسعت بسرعة كبيرة في العقدين الماضيين وأصبحت اليوم تشمل زهاء 90 مليون مستثمر أميركي يمثلون نصف الأسر الأميركية، علاوة على الملايين من المستثمرين الدوليين. يتضح من تقارير معهد الاستثمار الاميركي ما يعنيه اتساع القاعدة الاستثمارية لأسواق المال الأميركية وخصوصاً سيولتها التي تعتبر أهم ميزاتها التنافسية، اذ قفزت القيمة الاجمالية لاستثمارات الأسر الأميركية في الأسهم حصراً من أقل من نصف تريليون دولار عام 1975 الى 10.7 تريليون دولار في نهاية عام 1999. يضاف الى ذلك نحو 60 في المئة من اربعة تريليونات دولار مستثمرة في الصناديق الاستثمارية، التي تعتبر الأسهم احدى أدواتها الرئيسية، علاوة على 7.5 تريليون دولار من الاستثمارات الدولية في أسهم وسندات الشركات الأميركية وسندات المؤسسات الحكومية التي تتيح بورصة نيويورك تداول جزء لا بأس به منها. وتحققت لبورصة نيويورك ميزة السيولة من جراء تغيرات جذرية أحدثها المستثمر الأميركي في خياراته في الفترة الذهبية التي مر بها الاقتصاد الأميركي في الجزء الأعظم من كل من الثمانينات والتسعينات. وكان أحد نتائج الخيارات الجديدة انخفاض حصة الحسابات المصرفية في اجمالي الأصول السائلة للأسر الأميركية من 55 في المئة عام 1975 الى 25 في المئة بنهاية عام 1999 وان كانت قيمة هذه الأصول ارتفعت في الفترة نفسها من 1.7 تريليون دولار الى 18.7 تريليون دولار. وساهمت عوامل أخرى في اندفاع الأميركيين الى أسواق المال، مثل تخلي الشركات عن برامج المعاشات التقليدية وتحميل العاملين مسؤولية استثمار مدخراتهم، الا أن العامل الحاسم جاء من بورصة نيويورك وأداء مؤشرات الأسهم وخصوصاً مؤشر "داو جونز" لعمالقة الشركات الصناعية الأميركية الذي أقفل على ألف نقطة للمرة الأولى في أواخر عام 1982، ثم نجح في مضاعفة نقاطه واستثمارات حملة الأسهم بحلول عام 1987 وهي فترة قياسية غير مسبوقة في تاريخ حي المال في نيويورك وول ستريت، أقله في حينها. ولم يكن أداء مؤشر "ستاندرد آند بورز 500" الذي يعتبر المؤشر الرئيسي لبورصة نيويورك وأداء أسواق المال الأميركية عموماً وكذلك أداء مؤشر "ناسداك" لأسهم التكنولوجيا والاتصالات الحديث العهد آنذاك أقل دراماتيكية من مؤشر "داو جونز"، اذ ضاعف كلاهما نقاطه في خمسة أعوام، الأول في الفترة من عام 1982 الى 1987 والثاني في الفترة من 1980 الى 1985، ما يفسر في المحصلة ارتفاع عدد المستثمرين من 30 مليون مستثمر عام 1980 الى زهاء 52 مليون مستثمر عام 1989. ويشير الاقتصاديون الى أن الاقتصاد الأميركي الذي خرج من الثمانينات بمعدل نمو سنوي محترم لا يقل كثيراً عن 3.5 في المئة ساهم بقوة في دعم قدرة حي المال على تحقيق الأرباح واجتذاب المستثمرين، وهو ما تأكد حين ترتب على اضطراب الأداء الاقتصادي طوال أعوام النصف الأول من التسعينات زيادة الفترة التي تطلبها مؤشرا "داو جونز" و"ستاندرد آند بورز" لمضاعفة نقاطهما للمرة الثانية منذ بداية الثمانينات الى تسعة أعوام بالنسبة للأول وسبعة أعوام في حال الثاني. ويعتبر عام 1995 نقطة انعطاف قوية للاقتصاد الأميركي ومؤشرات الأسهم على حد سواء، اذ استعاد النشاط الاقتصادي زخمه وانطلق كل من "داو جونز" و"ستاندرد آند بورز" ليضاعف نقاطه للمرة الثالثة على التوالي منذ بداية الثمانينات وفي فترة لا تزيد على ثلاثة أعوام في هذه المرة، من شباط فبراير 1995 الى شباط 1998، واختلف الأمر كلياً بالنسبة لمؤشر "ناسداك" الذي ضاعف نقاطه في فترة ثلاثة أعوام انتهت في نيسان أبريل عام 1999 ولكن للمرة الرابعة منذ عام 1980. وفي العامين الأخيرين من القرن العشرين لم تكن التطورات التي شهدها حي المال في نيويورك أقل من مذهلة وأولها نجاح مؤشر "ناسداك" في مضاعفة رصيده للمرة الخامسة منذ عام 1980 وفي أقل من 10 شهور، بينما اقترب المؤشران الآخران من مضاعفة نقاطهما للمرة الرابعة، ما ألهب حماسة المستثمرين الأميركيين الذين ارتفع عددهم الى نحو 80 مليون مستثمر، وكذلك المستثمرين الدوليين الذين ضخوا زهاء تريليون دولار من الاستثمارات الجديدة في كل من العامين المذكورين. في 10 كانون الثاني يناير عام ألفين أقفل "داو جونز" على 11.572 نقطة وفي 24 آذار مارس من العام نفسه أقفل "ستاندرد آند بورز" على 1527 نقطة، أي أن كلاً منهما بلغ مستوى يساوي 11 ضعف ما كان عليه عام 1982. وفي 10 آذار من العام المشار اليه أقفل "ناسداك" على 5049 نقطة، أي عند مستوى يعادل 36 ضعف ما كان عليه عام 1980. ويبدو حتى الآن أن كلاً من هذه المستويات شكل بالنسبة لمؤشرها الذروة التي عجز عن العودة اليها بعد ثلاثة أعوام من الانهيار شبه المتواصل. وتشير المصادر المتخصصة في مجالها، من المحللين ومؤسسات الأبحاث وحتى أسواق المال الأميركية، الى أن انفجار فقاعة التكنولوجيا وما كشفه من فضائح محاسبية بقيت طي الكتمان لوقت طويل، خفض الاستثمارات السهمية للمستثمرين الأميركيين والدوليين بمبلغ يراوح بين ستة وسبعة تريليونات دولار وأن بعض هذه الخسائر الاستثمارية لن يعوض بأي حال من الأحوال بسبب افلاس العشرات من كبريات الشركات والمئات من الشركات المتوسطة والصغيرة المتداولة أسهمها. وهناك شبه اجماع في المقابل على أن أسباب خسائر "وول ستريت" لا تنحصر في انفجار فقاعة التكنولوجيا والفضائح المحاسبية بل ان استمرارها وتفاقمها سيظلان مرهونين بعوامل بعيدة كل البعد عن العملية الاستثمارية مثل الحرب على الارهاب والمخاطر الجيوسياسية، بقدر ما هو مرتبط بمعايير استثمارية بحته مثل غموض الوضع الاقتصادي والمالي في أميركا وبلدان شركائها التجاريين وقدرة الشركات المدرجة على جني الأرباح في ظروف اقتصادية عالمية صعبة. لكن ما تؤكده هذه المصادر هو أن الأزمات كانت وستظل جزءاً من تجارب أسواق المال وخصوصاً التجربة الأميركية التي حققت من الانجازات المذهلة ربما بقدر ما تعرضت له من اخفاقات وبقدر ما ألحقته بالمستثمرين من خسائر، اذ أن خسائر انفجار فقاعة "زهور التوليب" في التجربة الهولندية وفضيحة "بحر الجنوب" في التجربة البريطانية لم تكون الأضخم والأكثر شهرة الا قبل تعرض بورصة نيويورك لكارثة "الانهيار العظيم" عام 1929. والمؤكد كذلك أن حي المال الذي كان في العشرينات من القرن الماضي عبارة عن مجموعة ضخمة من البورصات الصغيرة المبعثرة وأصبح اليوم سوقاً هائلة تنفرد بنحو 40 في المئة من القيمة السوقية لأسواق المال في العالم، خاض تجربة التطور بكل معاناتها حتى أن مؤشره الذهبي "داو جونز" امضى 86 عاماً في جمع الألف الأولى من نقاطه واحتاج الى عقدين كاملين لتعويض أقل من نصف الخسائر التي لحقت به في الانهيار العظيم وسنوات الكساد التي عاشها الاقتصاد الأميركي في النصف الأول من الثلاثينات.