العالم العربي من اقصاه الى اقصاه مكون من مجموعة من الدول لن تكون أي منها دولة كبرى مؤثرة في الموازين الدولية في زمن قريب او متوسط، فالهند امامنا وكذلك الارجنتين والبرازيل وكوريا الجنوبية وسنغافورةوتايوان، ولن ننسى الصين واوروبا وروسيا والولايات المتحدة وكندا واستراليا ودول اخرى في افريقيا والعالم. في هذا تتبلور امامنا محدودية العالم ونواقصه وتتبلور امامنا تلك الحالة التي تجعله ضعيفاً فاقداً للقيمة. ويعيش العالم العربي في غابة من الدول العالمية ولكنه لا يمتلك ادوات الدول في التأثير والقيادة. فقد اعتمد العالم العربي على مدى سنوات السبعينات على الاخص والثمانينات على ذلك التأثير الذي يجنيه من ثروات النفط وارتفاع الاسعار، واعتقد ان بناء الشوارع وتشييد الابنية وايصال الكهرباء الى كل بيت وفتح مدارس ووزارات اعلام وجيوش وغيرها كاف لحماية السيادة وضمان النمو والمنافسة. ولكن ما لم ينتبه اليه العرب ان كل قوة تزول اذا لم ترتبط بالتخطيط وبسياسة تضم الكفاءات الجيدة، وتبني وسائل للنهضة وللتطور التعليمي والثقافي. ولم ينتبه العرب الى ان كل قوة تزول اذا لم ترتبط بالحرية الفكرية وبذلك التوازن بين الحرية الحقيقية والمسؤولية وبين الحرية الصادقة وسيادة القانون. العالم العربي من اقصاه الى اقصاه تخاذل في الاستثمار في الاجيال القادمة، وتخاذل في تحويل التعليم من مبان جميلة الى وسيلة للتفكير النقدي، وتخاذل في ان معضلة العالم العربي الاكبر ما زالت في ممتهني السياسة والسياسيين. والمشكلة تقع في انظمة العالم العربي السياسية لا في شعوبه. فأنظمته اعتمدت على قوة النفوذ عوضاً عن قوة المنطق، وقوة القبيلة عوضاً عن قوة القانون، وقوة المال الحكومي عوضاً عن قوة المال الخاص، وقوة الاعلام الحكومي عوضاً عن قوة الاعلام الخاص، واعتمدت الرأي الواحد والموجه عوضاً عن تعدد الآراء وتنوع الاجتهادات، واعتمدت على قوة الشعار عوضاً عن قوة الفعل. تنمية مواهب شعوبها وافراده وذلك قبل ان تتخاذل في مواجهة الحقيقة والتعامل مع الواقع. العرب في النصف الثاني من القرن العشرين تراجعوا عن الالتزام بالمدنية. بل سيطرت على مدنهم ثقافة الصحراء والريف. في الغرب القديم وفي الغرب الجديد نجحت المدينة في تمدين كل شيء وفي ايصال اكثر من الخدمات الى الارياف، اذ نجحت في ايصال الافكار والمبادئ والتوجهات والفلسفات والثقافات والسلوكيات الى الارياف وكل المناطق النائية. لهذا انصهر في تجربة المدينة الغربية الفقراء والاغنياء الغجر الرحل والاقليات، مؤسسو بيوت المال مع عامة الشعب، وانصهر الفلاسفة والمثقفون مع تجارب النمو. في هذا وقعت احداث ادت الى انتاج مدنية دائمة ومدن مفتوحة عامرة وحياة اقتصادية تحتمل الابداع والتجديد، كما ادت المدنية الى نشوء شعوب تميل الى الحفاظ على حقوقها وحرياتها الفردية والجماعية. لقد حقق الغرب التقدم لنفسه، والقوة لذاته من جراء تلك الثقة التي اولاها للمدينة والمدنية وللحرية والحريات ولاحترام التنوع والاقليات المهنية والطائفية والانتخابية. بل يمكن التأكيد على أن ذلك الجزء من الغرب الذي اضطهد الحريات وحدد الثقافات هو ذاته الذي هزمته المدنية الغربية في حروب عالمية طاحنة دحرت النازية والفاشية وفي الحرب الباردة التي ادت الى سقوط الشيوعية واندحارها. في الشرق العربي توقف الانصهار وتمركزت القبلية والطائفية والتفرقة في كل بقاعه المنتشرة. في الشرق جاء الريف ليهدم المدينة التي تراجعت ولم تقو على المواجهة، وجاءت القبيلة لتتجاوز المدينة وجاءت العادات القديمة لتدمر العادات العلمية الجديدة والمكتسبة ولتدمر معها طموحات النهضة وروادها. في الشرق العربي توقف الانصهار، فالعائلات ظلت عائلات، والقبائل بقيت على حالها والفلاحون ظلوا على عاداتهم وكأنهم لم يغادور الريف، والطوائف بقيت كما هي يتنازعها الشك والخوف من بعضها البعض. التجربة العربية في الانصهار بين الريف والمدينة وبين الصحراء والمدن تجربة ضعيفة لا ترتقي لمعنى الانصهار كما انجبته التجربة الغربية. ففي الغرب كما في آسيا الجديدة والصاعدة من الصين الى تايوان الى هونغ كونغ الى سنغافورة انتصرت المدنية والمدينة اما في بلادنا فانهزمت المدينة امام القيود التي وضعت لتكبل استقلالها ومبادرتها وانتشارها. بل يمكن القول بأن التمزق العربي، الذي يحتج كل منا عليه، هو تمزق المدينة وتمزق مستقبلها وضعف روحها الدفاعية والقتالية والابداعية، انه تمزق حضاري ثقافي ذاتي قبل ان يكون تمزقاً بين الدول العربية. فأين هي بغداد او القاهرة او بيروت ودمشق اليوم من ذات المدن قبل نصف قرن؟ وكيف للمدن ان تزدهر بلا دور للثقافة؟ وكيف للثقافة ان تزدهر في عالم لا يقدرها؟ لهذا يعيش المثقف والمفكر العربي المناط تاريخياً بدور التنمية وحسن المشورة وفتح الباب للنهضة والصلاح بين مطرقتين واحدة تأتيه من جماعات غاضبة سياسياً واقتصادياً ودينياً تكدست في المدن التي نشأت بلا خطة او تنمية على امور عديدة اجتماعية وسياسية واقتصادية، واخرى تأتيه من قبل الدولة ومؤسساتها واجهزتها. ويكتشف المثقف والمفكر العربي ان دوره قد اضمحل وسقط في خضم الاحداث التي تعصف في العالم العربي؟ فكيف يزدهر في ظل سقوط المدن التي يجب ان تكون وعاء النهضة؟ المثقف العربي يبدو وكأنه ابتعد عن التاريخ العربي وايضاً العالمي، فهو يفتقد لموقع ثابت ودور معترف به كما كان الامر مع المثقفين العرب في الماضي ام المثقفين في دول العالم المتعددة. لقد فقد المثقف العربي حسه الرقابي والنقدي، وانتهى الى فقدان مقومات وجوده الاساسية: حرية الكلمة وروح النقد والتأثير الايجابي. وهذا فتح الباب بطبيعة الحال للتطرف في العالم العربي. وبينما يرى البعض ان التغير قد يبدأ من العراق او من ايران، بإمكاننا ان نرى التغيير وقد بدأ من تركيا. فمنذ اكثر من اسبوعين في مؤتمر البحر الميت دافوس الاردن سنحت لي الفرصة للتحدث مطولا مع وزير الخارجية التركي نائب رئيس الوزراء عبدالله غل ذي الماضي الاسلامي والذي ركز في حديثة: على التنمية والخصخصة والشباب والمرأة والحريات والشفافية والانفتاح على العالم وتبسيط اجراءات الاستثمار في تركيا وتشجيع الحوافز للقطاع الخاص وهكذا. وبدأ غل يسرد تصوراته وكأنه ممثل وقائد لحزب ليبرالي في أي مكان في العالم. ولو لم يكن لدي علم بتجربته السياسية السابقة ودوره في الاسلام السياسي التركي لما تعمقت التساؤلات التي كانت تدور في ذهني. وبادر قائلاً في حديث هادئ "انه كان مسؤولاً عن شؤون الحزب مع اربكان الاسلامي ولكن تجربة اربكان كانت تنقصها الواقعية والاستيعاب الجيد لظروف واحتياجات تركيا اضافة لتعدد الاراء في المجتمع التركي واهمية احترام هذا التعدد". ولهذا السبب بالتحديد وفق غل: "قمنا بتغيير سياساتنا من خلال التركيز على متطلبات المرحلة وهي: الانفتاح على الاخرين من تيارات واحزاب ثم التركيز على الشباب والمستقبل والاقتصاد". ولكن الاهم في ما قاله غل: "في الماضي كانت لدينا اجندة غير معلنة ولكننا اليوم حزب يتمتع بالشفافية اذ نعلن كل شيء، وننشر كل شيء على صفحة العنوان الخاصة بنا وبحزبنا، فكل شيء مفتوح من العضوية الى السياسة الى الاطلاع العلني على برامجنا كافة ولا يوجد لدينا اجندة خاصة. فعندما تترشح للانتخابات تكون ممثلاً لحزبك، ولكن عندما تفوز تصبح ممثلاً لجميع فئات الشعب والامة وفي هذا فارق كبير". معالم العرب في الطريق الجديد ستتطلب تغييراً لطريقة سادت حياتنا السابقة ويجب ان تتضمن التعلم من الآخرين في الشرق كما في الغرب. فبعث الاوضاع العربية على اسس نهضوية سيعني تحويل مدن العالم العربي الى مدن عادلة قادرة على الوصول لكل فرد كبير ام صغير، امرأة ام رجل، فقير ام غني وهكذا. المدينة العربية يجب ان تكون مدينة منفتحة قادرة على صهر الجميع في بوتقة من الحرية والتوازن. المدينة العربية يجب ان تتحول الى مدينة عالمية ترتبط بالعالم الاوسع وتستفيد من خبراته وقدراته وآفاقه. ان بناء دول عربية تقع مناعتها اساساً في حرية مواطنيها وحقوقهم وشفافية سياساتها واقتصادها ومعاملاتها واحزابها وتياراتها وفي طبيعة مدنها وانفتاحها هو طريق طويل لم يجتزه العرب بعد. * استاذ العلوم السياسية، رئيس الجامعة الاميركية في الكويت.