العنف يستهدف في الفعل السياسي تطويع إرادة الآخر باستخدام الإكراه المادي أو النفسي. أما السياسة كما تُمارس في الفضاء الديموقراطي فهي فن الحوار. بعد انهيار الحركات الفاشية والستالينية العنيفة فكراً وممارسة لم تبق في الحلبة الا حركات أقصى اليمين في الغرب والحركات الاسلامية. القاسم المشترك بين هذه الحركات هو انها جميعاً تذوّب الفرد في الجماهير وتعطي للقائد دوراً استثنائياً يلغي المؤسسات. وهو ما يتنافى مع المشروع السياسي الحديث الذي تصنعه وتنفذه مؤسسات مستقلة عن إرادوية الحكم الفرد، أي عن مزاجه وفانتازماته. وهكذا فالبنية الذهنية والتنظيمية والمشروع الايديولوجي تتفاعل لتمنع هذه الحركات من امتلاك مشروع مجتمعي حديث، أي ديموقراطي ومعتدل لأنه محصلة لقراءة موازين القوى وصولاً الى حل وسط بين الموجود والمنشود. الاعتدال السياسي ممكن فقط مع تنظيمات تمارس السياسة بحذر وواقعية. ولا سبيل اليه في حركات ما قبل سياسية أو ما تحت سياسية تحكمها يقينيات تتنافى مع المعقولية ومع متطلبات العصر. لذلك تجد هذه الحركات نفسها تلقائياً منغمسة في العنف بجميع درجاته: من التجريم والتكفير الى إراقة الدماء ضد خصومها وأحياناً ضد المجتمع كله أو ضد العالم مثل السودان وايران وافغانستان التي تحقق في "سياستها" الخارجية بالارهاب ما تحققه الدول الاخرى بالديبلوماسية. أوجه الشبه قوية بين الحركات الاسلامية وحركات أقصى اليمين الأوروبي. لكنها محدودة بين الاسلاميين وحركات اليمين الأقصى المعاصر، الذي تكيف نسبياً مع حقبته لأنه قطع نسبياً مع ماضيه، محتفظاً بشيء من الحنين اليه. وهكذا استطاع الانخراط في اللعبة السياسية بما هي منافسة تعددية وتداول ديموقراطي على الحكم وتجاوز الحاجة الى القائد الكريزمائي الذي يلغي كل الوسائط بينه وبين الجماهير لتتحد به وجدانياً اتحاداً عضوياً أو يكاد، ويعوّض في آن معاً المؤسسات والبرامج السياسية. لماذا حقق اليمين الأقصى المعاصر ما لم يحققه أسلافه في الثلاثينات في ايطاليا والمانيا وفي الستينات في اسبانيا والبرتغال واليونان؟ لأنه لم يعد في قطيعة مع واقع عصره وغدا قادراً على قراءة موازين القوى محلياً واقليمياً وعالمياً، وتالياً على ادراك ان ممارسة العنف بدل السياسة في علاقاته مع مجتمعه والمجتمع الدولي لم تعد مقبولة. حتى الأصولية الهندوسية وعت ذلك فحافظت على الممارسة السياسية داخلياً وخارجياً. وهي مرحلة من التطور السياسي لم تبلغها الحركات والحكومات الاصولية الاسلامية التي ما زالت في قطيعة مع عصرها. لكن حركات اليمين الاقصى ما زالت تشترك مع الحركات الاسلامية في شعاراتها الخصوصية التي تضع المحلي في تعارض مع الكوني والقومي في تناحر مع "الاجنبي" والحمائية الاقتصادية والثقافية في مقابل الانفتاح الاقتصادي والثقافي على العالم والانكفاء على الريف الزراعي ضداً على المدينة الكوزموبوليتية وعداء اميركا، رمز الانصهار الاجتماعي والفردية، في مقابل الانطواء الكوربورالي عند اليمين الأقصى والطائفية عند الأصولية الاسلامية. وما زالتا تشتركان ايضاً في تأليب الجماهير على النخبة "المترهلة والمتبرجزة" في معجم اليمين الأقصى و"العلمانية" و"المتغربة" وحديثاً جداَ "المتصهينة" في معجم الاسلاميين. مع هذا الفارق الأساسي: حتى الآن قلما مرّ اليمين الاقصى الحاكم أو المعارض من النية الى الفعل في تطبيق شعاراته الماضوية، فيما الحركات والحكومات الاسلامية الشعبوية قلما قصرت في مطابقة شعاراتها مع ممارساتها. ي غلف اليمين الأقصى بعض شعاراته العنيفة بغلاف حديث مراعاة للثقافة الديموقراطية السائدة في مجتمعاته الأوروبية. وقلما تلجأ الحركات الاسلامية الى ذلك لغياب مثل هذه الثقافة عن مجتمعاتها. بالمثل أرغمت الثقافة الديموقراطية حركات اليمين الفاشي على التخلي عن عبادة الدولة القوية التوتاليتارية التي عاثت فساداً في بعض بلدان أوروبا الغربية في الثلاثينات وحتى الستينات. أما الحركات الاسلامية فما زالت متمسكة بدولة توتاليتارية يقودها "مرشد" لا يُسأل عما يفعل على غرار الخميني وخامنئي والترابي والملى عمر وأمامه جماهير هلامية لا أثر فيها للفرد المالك لرأسه وفرجه اي الذي يختار قيمه باستقلال نسبي عن مجتمعه ولا للمجتع المدني بما هو سلطة موازية وموازنة للدولة. التأخر الذي استوطن مجتمعات الفضاء العربي الاسلامية أعاقها عن الانعتاق من تقليديتها التي لا تعرف ولا تعترف بثقافة العيش في المساواة بين الجنسين وبين جميع الاثنيات والديانات والفلسفات والاقليات بدلاً من ثقافة الإقصاء السائدة، وبثقافة السلام بدلاً من ثقافة التعبئة، وبثقافة الحوار بدلاً من ثقافة العنف قولاً وفعلاً المتغلغلة في شعور ولا شعور الجميع وخاصة الاسلاميين. أتابع منذ سنوات أدبيات أقصى اليمين الأوروبي، لكني لا أذكر اني قرأت نصاً مماثلاً للنص التالي الذي كتبه صالح كركر أحد زعماء الاسلاميين التونسيين، "حركة النهضة"، ضد معارضين تونسيين: هناك شريحة من المعارضة لم تستطع بعد ان ترقى الى مستوى الوعي المطلوب والفهم الصحيح لمفهوم الديموقراطية ... هناك من أطراف المعارضة من لا يزالون يبحثون عما يمكنهم ان يفعلوا بالاسلاميين بعد ذهاب بن علي، وتركيز الديموقراطية الحقة في البلاد. لقد قلنا لهؤلاء ... في مقالنا السابق "يجب علينا ان نجمعهم دون ان يفلت منا واحد منهم، ونبحث لهم عن نهر غزير وبعيد ونلقي بهم فيه، وهكذا نريح تونس المسلمة منهم الى الأبد" "الجرأة" 1/12/2000. تعبير، ولا أوضح، عن الحقد الدفين على المختلف والمخالف والرغبة في "الحل النهائي" لمن يعارض الاسلاميين أو يعترض عليهم! انفلات غرائزه العدوانية من عقالها أنسى الزعيم الاسلامي انه أعطى لا شعورياً مبرراً لمخاوف المعارضة من عنف الاسلاميين. لماذا عنف الاسلاميين دائماً أقصى؟ لغياب الوازع الاخلاقي الذي يتحكم في الاهواء والغرائز أولاً، ولشيطنة المعارضة وحتى الاعتراض ثانياً، ولغياب ذهنية الحوار ثالثاً. الحوار يفترض الاحترام المتبادل. اذن ثقافة حديثة مشتركة مثل الاجماع على الديموقراطية والإقرار بالحق في الاختلاف داخلها لا خارجها ولا بالأحرى ضدها. والحال ان الاسلاميين متشبثون بخصوصيتهم الثقافية القروسطية التي تعتبر الاعتراض عليهم معارضة لهم ومعارضتهم خيانة وارتدادا عن الدين. وهكذا تفتح هوة سحيقة بين الأنا المتورمة والنقية والآخر المُشيطن. شيطنة المعارضة هي المسؤولة عن تنكيل الاسلاميين دولاً وحركات بمعارضيهم في الداخل واغتيالهم في الخارج. أقرب مثال على ذلك الجمهورية الاسلامية الايرانية التي اعدمت، حسب احصاءات المنظمات الانسانية الدولية، 150 ألف ايراني من دون محاكمة "لأنهم مذنبون ولا حاجة لإضاعة الوقت في محاكمتهم" كما صرخ الخميني. وتطبيقا للمنطق ذاته اغتال البوليس السياسي 80 لاجئاً في منافيهم الاوروبية كما اتضح ذلك من خلال "فضيحة" محاكمة أفراد البوليس السياسي الاسلامي الذين اغتالوا مثقفين سنة 1998. سيظل تعاطي العنف بدلاً من تعاطي السياسة ملازماً للدول والحركات الاسلامية الشعبوية ما ظلت متشبثة عصابياً في فتاوى القرون الوسطى التي تجعل المعارض للاسلاميين معارضاً للاسلام وتالياً مرتداً مهدور الدم، وما ظلت رافضة لقبول الثقافة الديموقراطية التي تعتبر المعارضة السلمية حقاً من حقوق المواطنة، وما ظلت أسيرة البنية النفسية المهووسة بالرغبة الوعظية في التوجيه والسيطرة التي جعلت الاسلاميين من جهة يعتقدون انهم يمتلكون اليقين المطلق الذي يجعل منهم مقياساً للخير والشر والايمان والكفر، كما جعلتهم عاجزين عن التحكم في انفسهم، أي في أهوائهم وغرائزهم. وهكذا يحوّلون واجب الانضباط الذاتي الى واجب ضبط ذوات الآخرين ومصادرة حرياتهم ومحو شخصيتهم. من غلاة الخوارج الى حسن البنا ومن هذا الأخير الى عبدالسلام ياسين تم تبرير العنف الجسدي والنفسي في السياسة باعتباره "واجباً" لتطبيق الحدود البدنية وتأكيداً ل"التدافع" بين الناس الذي هو فطرة انسانية. قطعاً العنف غريزي بدليل وجوده لدى الطفل والمتوحش. لكن ذلك لا يجعله مشروعاً. الممارسة السياسية لا تداعب وهم اعادة صياغة السايكولوجيا البشرية لاستئصال العنف منها، بل تطمح فقط الى التحكم فيه بالانضباط الذاتي الضروري لقمع النوازع الشريرة الكامنة في أعماق كل منا والتي سماها المحلل النفساني فليكس غواتاري "الميكروفاشية". التحكم في الغرائز العدوانية هو ما يلخص مسيرة الانسانية من الطبيعة الى الثقافة، أي من الهمجية الى الحضارة ومن الغريزي الى المكتسب. المنافسات والصراعات السياسية الديموقراطية هي الطريقة المعروفة حتى الآن للتسامي بحجة القوة في قوة الحجة، اي تحويل القوة السافرة الى قوة اقناع للتشكيك في مصداقية خطاب الخصم السياسي أو لإسقاطه في الانتخابات. وهذا عنف من دون شك ولكنه عنف رمزي ويستهدف أفكار الخصم لا ممتلكاته أو حريته أو شخصه، ويحفظ له امكانية الانتصار في الجولة الانتخابية المقبلة. وهو فضلاً عن ذلك عنف يؤطره القانون وآداب السلوك والقيم الانسانية التي تتبناها وتدافع عنها منظمات المجتمع المدني العالمي الذي هو الآن قيد المخاض، بفضل الثورة الاعلامية العالمية. هذه القيم الكونية تكذب اليوم تلك الأساطير الكبرى التي بررت بها الأنظمة والتنظيمات التقليدية قسوة الانسان على الإنسان.