دولة واحدة لا غير على وجه الأرض قادرة على انفاق 4 بليون دولار شهرياً لتغطية نفقات احتلال بلد آخر. كلفة احتلال العراق ليست حالياً موضع انتقاد الرأي العام الأميركي لسياسات إدارة جورج دبليو بوش لأسباب متعددة، أبرزها، موافقة الشعب الأميركي على الحروب الاستباقية باعتبارها وقائية من خطري الارهاب وأسلحة الدمار الشامل، والوطنية العارمة الممزوجة بحس العظمة. والعظمة مكلفة، كما حروب أميركا الجارية، بلا مخرج واضح لأي منها، ومن دون احتجاج صارخ على ما قد يكون اختلاقاً لذرائع بعض هذه الحروب ومبرراتها. هناك نقاش، وهناك تحدٍ للإدارة الجمهورية خصوصاً من الحزب الديموقراطي. انما، حتى الآن، ليس هناك مثلاً تدقيق معمق في دوافع حرب العراق الحقيقية ولا هناك بحث مفصل في السياسة الأميركية الجديدة نحو منطقة الخليج والشرق الأوسط أو السياسة الافريقية الجديدة التي اطلقتها الادارة الأميركية. وأوجه الشبه ملفتة. الرئيس جورج دبليو بوش، في أول زيارة له الى افريقيا السوداء الاسبوع الماضي، وضع محاربة الارهاب في صدارة قائمة الأولويات الى جانب الأهمية الاستراتيجية النفطية لافريقيا. تحدث عن فوائد الأسواق الحرة وتعزيز التجارة الحرة، وتعهد بالشراكة مع افريقيا في مكافحة مرض "الايدز" الذي يفتك بافريقيا خصوصاً، ووعد بالتجاوب مع حض كثير من القادة الأفارقة له على دور عسكري أميركي محدود في ليبيريا لمنع اندلاع مجازر فيها. هناك رأيان أساسيان إزاء وضع إدارة بوش لافريقيا ضمن دائرة المصالح الأمنية والاستراتيجية الاميركية بعدما كانت قطعاً خارجها. رأي يرحب بالتحول في السياسة الأميركية الجديدة التي تضع افريقيا في فلك الاهتمام الأميركي بدلاً من التجاهل التام لها. وأصحاب هذا الرأي ينظرون الى التدخل الأميركي المرجح في ليبيريا باعتباره نوعاً من التدخل الانساني وتحمل مسؤولية، اذ ان ليبيريا للولايات المتحدة هي أقرب تجربة "كولونيالية"، علماً أن مؤسسي ليبيريا كانوا من العبيد الأميركيين الذين تم تحريرهم من الرق في القرن التاسع عشر. أصحاب الرأي المناقض يعتبرون أن سياسة الإدارة الأميركية الجديدة نحو افريقيا لا تختلف عن سياستها نحو العراق، عنوانها الرئيسي، حسب تعبير أحد خبراء افريقيا، "نحن نمثلكم، والقرارات في شأنكم ملك لنا. فأنتم الآن في فلك سيطرتنا". رأي هؤلاء ان التدخل الأميركي العسكري في ليبيريا، مهما كان محدوداً، يشكل "تدخلاً ضخماً"، كمدخل مهم في السيطرة الدائمة على القارة الافريقية لأسباب ذات علاقة بالنفط، وضمن التخطيط النفطي الاستراتيجي لما بعد 20 سنة، عندما سيصبح النفط مشكلة كبيرة. فاحتياجات الصين واليابان والهند النفطية سترتفع بنسبة تقارب 75 في المئة مع حلول عام 2025، والنفط الروسي سيلبي أوروبا فقط. لذلك، وبعد ضمان السيطرة على نفط الخليج من خلال ضمان السيطرة على العراق، فإن نفط افريقيا هو أداة السيطرة التامة وعظمتها. تعد نيجيريا وحدها قائدة في الانتاج النفطي وخامس مصدر للنفط الخام الى الولاياتالمتحدة. لكن النفط متوافر أيضاً من انغولا الى موريتانيا. قبل عشر سنوات، حدث أول تدخل انساني مسلح للولايات المتحدة في افريقيا عندما بعث الرئيس السابق بيل كلينتون القوات الأميركية الى الصومال. وبعدما سقط عدد من الجنود الأميركيين ضحية هذا التدخل، تبنت الولاياتالمتحدة، حكومة وشعباً، قراراً بعدم ارسال جنود اميركيين في أية مهمة حفظ سلام أو تدخل من أي نوع أو آخر. مجازر عدة وقعت في افريقيا لم تثن الولاياتالمتحدة عن قرارها. الآن، ستكون هذه أول مرة ترسل فيها قوات أميركية الى افريقيا عندما يقرر بوش حجم المشاركة الأميركية بقوات دعم للقوات الافريقية الدولية في ليبيريا ونوعيتها. قد يكون عدد القوات الأميركية ضئيلاً، لكن ما سيشكله هو نوع جديد من عمل القوات الدولية، أي قوات الأممالمتحدة بموجب قرار لمجلس الأمن، إذ ان القيادة الفعلية ستكون للقوات الأميركية. الأمين العام للأمم المتحدة، كوفي انان، عيّن أميركياً، جون كلاين، ممثلاً خاصاً له في ليبيريا، وحض بوش تكراراً على ارسال الجنود الأميركيين الى ليبيريا لانقاذها من حرب أهلية ومجازر. كذلك فعل عدد من القادة الأفارقة. حكومة ليبيريا بقيادة شارلز تايلور الذي وعد تكراراً بمغادرة المنصب الى نيجيريا، شأنها شأن المعارضين من الثوار، رحبت باستعداد بوش لارسال القوات الأميركية، لكن الطرفين اعتبرا العدد الضئيل بلا جدوى أو منفعة. وحسب التقارير، فإن الشعب في ليبيريا يريد التدخل الأميركي. هذا لا يطبّق على كل الشعوب الافريقية، فبعضها يرحب وبعضها يشكك وبعضها يعارض قطعاً سياسات جورج بوش، العراقية منها والافريقية، مثل الرئيس السابق لجنوب افريقيا نيلسون مانديلا الذي يحظى بالاحترام والتقدير العارم لدى الأفارقة. فالوجود الأميركي في افريقيا، في رأي المعارضين لسياسات بوش، له هدف واحد هو السيطرة على صنع القرار، ان كان عبر الابتزاز أو الخنق الاقتصادي. وحسب هؤلاء، ليست المصالح النفطية والاستراتيجية وحدها مسيّر القرار الأميركي، وانما الحرب الاميركية على الارهاب، حسب التعريف الأميركي له وحسب الأجندة الأميركية. الرئيس بوش قال اثناء جولته الافريقية "لن نسمح للارهاب بأن يهدد الشعوب الافريقية أو أن يستخدم افريقيا كقاعدة لتهديد العالم". الافارقة يوافقون على فحوى ما قاله بوش، لكنهم يخشون إقحام علاقة بين الارهاب وأنظمة، كما حدث في العراق، لغايات مبيتة. تحقيق الكونغرس في ارهاب 11 ايلول استنتج ان ما بين 70 ألفاً و120 ألفاً من الارهابيين دربتهم شبكة "القاعدة" ونشرتهم في مختلف بقاع العالم. السناتور بوب غراهام ديموقراطي من فلوريدا قال ان هذه الارقام تبين ان ادارة بوش "فقدت حس التركيز" عندما حولت اهتمامها الى حرب العراق بدلاً من التركيز الضروري على محاربة "القاعدة". الاميركيون، وبنسبة عالية منهم، يربطون بين "القاعدة" وبين نظام صدام حسين السابق في العراق، على رغم عدم توافر اية ادلة على وجود علاقة بينهما. بل ان عدداً كبيراً من الاميركيين يعتقد بأن لصدام حسين ونظامه علاقة بارهاب 11 ايلول، ويقرن بين زعيم "القاعدة" اسامة بن لادن وصدام حسين، علماً بأن هذا اجتهاد تجنبته الادارة الاميركية نفسها. تجنبت ايضاً تصحيح الانطباع الذي زرعته زمرة المتطرفين في الذهن الاميركي، عبر تحريف متعمد واستخدام لأدوات الرعاية، للايحاء للشعب الاميركي بعلاقة بين العراق واحداث 11 ايلول في حلقة من حلقات تبرير وضع العراق في خانة العداء والخطر المباشر على اميركا. ما أكدته الادارة الاميركية كجزء من مبررات وذرائع الحرب، هو قيام علاقة بين "القاعدة" والعراق، وما ضخمته هو خطر توفير العراق ل"القاعدة" اسلحة دمار شامل بيولوجية وكيماوية وحتى نووية لاحقاً. الادلة على هذه المزاعم غير متوافرة، بل ان اثنين من رجال الاستخبارات في وزارة الخارجية، تركا المنصب الخريف الماضي، تحدثا عن اختلاق العلاقة عمداً. وكالات الانباء نقلت عن غريغ ثيلمان قوله ان الوكالات الاستخباراتية استنتجت ان لا علاقة ذات معنى تربط العراق ب"القاعدة"، وان هذا الاستنتاج أبلغ الى البيت الابيض والكونغرس. السناتور بوب غراهام الذي يخدم في اللجنة الاستخباراتية لمجلس الشيوخ وهو مرشح ديموقراطي للرئاسة قال: "احد الامور التي تقلقني هو الاشارة المستمرة الى الحرب في العراق كجزء من الحرب على الارهاب. فليست هناك أدلة تدعم ذلك الربط بينهما". التشكيك بمزاعم الادارة الاميركية حول العلاقة بين العراق و"القاعدة" واقحام الانطباع بأن حرب العراق ضرورية في اطار الحرب على الارهاب، بدآ يأخذان حجماً مختلفاً. فهناك الآن كلام علني عن تورط بعض اجنحة الادارة الاميركية في تضليل الرأي العام عمداً واختلاق ذرائع مبنية على معلومات استخباراتية مزورة حول امتلاك العراق اسلحة دمار شامل وحول محاولات استيراده اليورانيوم من افريقيا لتخصيب اسلحة نووية. البيت الابيض اعترف بخطأ اعلان الرئيس بوش في أهم خطاب للشعب الاميركي، خطاب حال الاتحاد في 28 كانون الثاني يناير، بأن المعلومات الاستخباراتية تؤكد محاولات العراق الحصول على اليورانيوم من افريقيا، على رغم ادراك اجهزة الادارة الاميركية ان هذه مزاعم ملفقة استناداً الى تحقيقات في صحتها. مَن وافق، ومَن أصر على ادخال تلك العبارة من 16 كلمة في الخطاب؟ هذا هو السؤال الاهم في الاوساط الاميركية، والاجابة الصادقة عليه، اذا جاءت، ستؤدي الى سقوط رؤوس مهمة في الادارة الجمهورية وقد تكلف بوش الرئاسة. مدير وكالة الاستخبارات المركزية جورج تينيت تحمل مسؤولية هذه العبارة في الخطاب، لكنه قال ايضاً انه حاول حذف جملة مشابهة من خطاب رئاسي قبل ثلاثة اشهر في تشرين الاول اكتوبر الماضي عن تحويل اليورانيوم من النيجر الى العراق، لكنه واجه مقاومة مسؤولين في البيت الابيض. المقاومة جاءت من مكتب نائب الرئيس ديك تشيني، الذي جعل من الخطر النووي العراقي عنواناً رئيسياً في خطبه الصيف الماضي حين بدأت حملة تهيئة الرأي العام لحرب العراق. فاذا اثبتت التحقيقات ان مكتب نائب الرئيس افتعل حرب العراق وسوّقها على اساس معلومات مزيفة متعمداً تضليل الشعب الاميركي، قد لا ينتهي الأمر في تنحي نائب الرئيس أو إقالته، اذ ان الرئيس ذاته هو صاحب القرار النهائي. لكن ذاكرة الفرد الاميركي قد تنقذ كامل الادارة من المحاسبة، اذا نجحت الادارة في تطويق ازمة الثقة بها عبر المحور السريع للتشكيك في ذرائع الحرب من الانطباع ووسائل الاعلام. ذلك ان الفرد الاميركي لا يزال متأهباً للانتقام لما حدث لاميركا في 11 ايلول 2001 ومستعداً لدعم الحروب الاستباقية التي تضمن لاميركا التفوق والعظمة. اما الطبقة المؤسساتية القائمة على صنع المستقبل الاميركي، فهي مستعدة للقفز على الذرائع المضللة لأن الدوافع استراتيجية وتحفظ المصالح الاميركية الوطنية والأمنية والاقتصادية لزمن بعيد. هذا لا يحذف من المعادلة مصير صنع الامبراطورية الاميركية العظمى. فلقد عزا الاميركيون التشكيك العالمي بالصدقية الاميركية واقتصاد الثقة بالولاياتالمتحدة الى غيرة وحسد من التفوق الاميركي. الآن، يواجه الاميركيون انفسهم امكان تبني اقطاب الحكم سياسة تضليل الشعب الاميركي. امامهم الاختيار بين المحاسبة وبين تجاهل ما حدث. وعلى هذا الخيار يعتمد قدر كبير من مستقبل الامبراطورية الاميركية.