تأزم الوضع في العراق، وازدياد التشكيك في صدقية الادلة على امتلاكه اسلحة دمار شامل، والاعتراف بزيف معلومات استخباراتية استخدمت مبرراً للحرب على العراق، يجب منطقياً، ان تقوض اندفاع دعاة الحرب من المحافظين المتشددين والمحافظين الجدد الى التصعيد مع ايران وغيرها من دول منطقة الشرق الاوسط. لكن ما يحدث في هذه الاوساط يتجاوز المنطق ويسير في اتجاه فرض تطورات نحو المواجهة بتخطيط مسبق كما حدث عند اتخاذ قرار الحرب على العراق قبل سنة ونصف السنة من وقوعها، بغض النظر عما قام به النظام العراقي السابق من تلبية مطالب او اذعان. المعركة على الرأي العام الاميركي تدور بين الرئيس المخلوع صدام حسين الذي يريد ارسال الجنود الاميركيين في العراق جثثاً متراكمة الى الدار الاميركية مما يؤدي الى المطالبة الشعبية بالانسحاب من العراق، وبين المحافظين الجدد الذين يريدون تحويل الانظار عن مخاطر التورط في مستنقع العراق عبر تضخيم مخاطر آتية من ايران واختلاق صدامات اخرى في المنطقة. المحافظون الجدد قرروا إقلاع قطار التصعيد من المحطة تماماً كما سبق وقرروا إقلاع قطار الحرب في العراق ليجرف اي معارضة، اميركية او دولية، مع اللجوء الى وسائل غير نظيفة في تبرير الحرب تحت عنوان اسلحة الدمار الشامل. رهان هؤلاء على ما يسمى العجز الثابت في الذاكرة الاميركية السريعة النسيان لأمور لا تخصها مباشرة، كما على قدرة التنظيم في صفوف المحافظين ونجاحهم في اختراق وسائل الاعلام للتأثير في العقلية الاميركية. فالفرد الأميركي سهل التسيير في رأي نخبة المحافظين الجدد، وبالتالي فإن ما يسمى الرأي العام يمكن تجييره واحتكاره. إرهاب 11 ايلول سبتمبر عام 2001 الذي أسقط البرجين التوأمين في مركز التجارة العالمي في نيويورك وضرب شموخ وزارة الدفاع البنتاغون في واشنطن، يبقى وحده مسيطراً على الذاكرة الاميركية مقروناً بحسّ الانتقام وغطرسة العظمة. حرب افغانستان باتت ذكرى هزيلة في الذهن الاميركي وانحسر معها كل الضجيج عن نظام "طالبان" ومصيره. شبكة "القاعدة" ما زالت قائمة في الذاكرة الاميركية لانها ذات علاقة مباشرة بأحداث 11 ايلول، لكن الهوس بمصير اسامة بن لادن تحول الى مجرد استفسار بين الحين والآخر. ضجر الاميركيون من حكاية افغانستان ونسوها تماماً كما يود لهم المحافظون الجدد أن يضجروا من حكاية العراق ويكفوا عن متابعتها، وهذا يتطلّب تحويل الانظار باستراتيجية مدروسة لئلا تقع مساءلة جوهرية في الاخطار الاميركية في العراق وفي تسويق حرب تحت عناوين مضخمة عمداً اعتماداً احياناً على معلومات استخباراتية مزيفة. المهم في الذاكرة الاميركية الشعبية هو "الانتصار" في حرب العراق، كما "الانتصار" في الحرب على الارهاب. لذلك دُقت طبول الانتصار السريع فيما الحروب مستمرة. البعض في الادارة الاميركية لا يريد حروباً اضافية وغير ضرورية اثناء حملة انتخابية لاعادة انتخاب الرئيس جورج بوش. هذا البعض يفضّل انجازاً سلمياً للرئيس الاميركي، خصوصاً في الملف العربي الاسرائيلي لتكون له افرازات انتخابية محلياً واحتوائية عالمياً. فالنجاح في تنفيذ "خريطة الطريق" في اتجاه قيام دولة فلسطين الى جانب اسرائيل من شأنه ان يخفّف العداء لاميركا وان يغيّر الانطباع عن الرئيس الاميركي بأنه مسيّر بنزعة انتقامية وسلطوية تمليها غطرسة القوة. المحافظون الجدد لا يخوضون معركة علنية مع صفوف الاعتدال داخل الادارة الاميركية بل انهم يراهنون على قصر نفس وانحسار اهتمام الرئيس الاميركي ب"خريطة الطريق" ويتمنون ان يساهم ارهاب فلسطيني في تحقيق ذلك. بعضهم يرغب باستفراد اسرائيلي مدروس كي يسقط الفلسطينيون في بؤرة اللوم. بالموازاة، يتجنب المحافظون الجدد الدفاع علناً عما حدث في العراق، ان لجهة الاتهامات باختلاق ذرائع الحرب وتزييف معلومات استخباراتية ذات علاقة بمزاعم امتلاك العراق اسلحة دمار شامل ومحاولات الحصول على اليورانيوم من النيجر، أو لجهة عدم التخطيط لعراق بعد النزاع مما ينذر بتحوله الى مستنقع يورط اميركا. النقاش داخل الولاياتالمتحدة في هاتين الناحيتين له بعد انتخابي، اذ ان بعض الديموقراطيين الساعين وراء الرئاسة يشهر ملف الأسلحة سلاحاً في وجه الادارة الجمهورية. لكن الرأي العام الاميركي لم يجهز بعد لغض النظر عن الاخطاء وأيضاً عن التوريط، باسم الوطنية والقومية اولاً، لذا فإنه لا يزال يميل الى اعفاء المحافظين الجدد من المسؤولية. وطالما أُشغل الاميركيون بحروب لهم فيها جنود، وستبقى الوطنية القومية المظلة الرئيسية، وسيأخذ اللوم مرتبة ثانية، وسيضيع التدقيق في المسؤولية. هذا اذا لم يتكاثر سقوط الجنود الاميركيين قتلى يومياً. وهذا بالذات ما قد يكون في ذهن صدام حسين الذي يبدو انه ينظر الى الانتصار الاميركي على انه مجرد معركة في حرب طويلة. سخرية هذه المعادلة هي في تلاقي رغبة صدام حسين مع رغبة بعض المحافظين الجدد، كل لاسبابه المتناقضة. فتبرير اطالة الاحتلال الاميركي البريطاني للعراق امر يتطلب عدواً واضحاً وفوضى مستمرة. صدام حسين يوفر هذا العدو بكل وضوح، وبقاؤه حياً يقطع الطريق على تعافي العراقيين من ثقافة الخوف والرعب منه ويجعل المجتمع العراقي اكثر هشاشة وتقبلاً للفوضى. من جهته، قد يريد صدام حسين اطالة الاحتلال من اجل تكديس جثث الجنود الاميركيين العائدة الى الرأي العام الاميركي ليثور كما ثار ضد حرب فيتنام. ثم ان الفوضى والاحتلال افضل مناخ ملائم لاستعادة السيطرة على العراق، أقله من وجهة نظره. احتلال العراق سيدوم لفترة طويلة في كل الاحوال، سواء قُبض على صدام حسين او عُثر عليه ميتاً، لاسباب عملية تتعلق بالعراق وأسباب استراتيجية تتعلق بالمنطقة عامة. عراقياً، ان اعادة تأهيل العراق ليصبح دولة مستقلة قادرة على ادارة شؤونها عملية معقدة ستستغرق سنوات. الولاياتالمتحدة غير مستعدة الآن لسحب اياديها من العراق، ففيه ثاني اكبر احتياط نفطي في العالم، وهو حلقة بالغة الاهمية في تحييد جيرة اسرائيل، وهو محطة استراتيجية فائقة الضرورة في السياسة الاميركية الخارجية القائمة على التطويق والضربات الوقائية والاستفراد بالعظمة والسيطرة عالمياً. المحافظون الجدد يريدون اسقاط ايران في الكوكب الاميركي، وازالة النظام في سورية، واثارة فوضى داخل السعودية تؤدي الى تقسيمها، وتدجين مصر واخضاعها ووضع النفط العربي تحت سلطة الشركات الاميركية مع القاء الامر الواقع لمنظمة "اوبك". اسرائيل، في نظرهم، يجب ان تكون شريكة في الهيمنة، وأن تبقى وحدها قوة نووية تمتلك اسلحة الدمار الشامل بلا محاسبة. بعضهم ما زال يعمل لتحويل اسرائيل الى دولة خالية من العرب والمسلمين والمسيحيين، ويجد في الحروب والفوضى فرصة لاحباط انهاء الاحتلال ولنقل الفلسطينيين في "ترانسفير" الى العراقوالاردن ليصبح الاردن الوطن البديل وتعود الهاشمية الى العراق. ويعود جأشهم وجرأتهم الى اسباب عديدة من بينها استنتاجهم القاطع بأن الشعوب العربية مجرد قطيع وان "الشارع" العربي اثبت مراراً عجزه وخضوعه لما يُملى عليه. ايران أصعب عليهم. لذلك بدأ المحافظون الجدد بتنفيذ استراتيجية بعيدة المدى نحو ايران. فالهدف ليس شن حرب عليها كما الحرب على العراق. انها مطوّقة ومحاصرة بقوات اميركية، عبر حربي افغانستانوالعراق، بصورة لم يسبق لها مثيل. وهي تمتلك ما يكفي من القدرات العسكرية المتفوقة، مثل صاروخ "شهاب" لشن حملة الخطر النووي منها. اذا تطلّب الامر، لن تتردد الولاياتالمتحدة بضرب المفاعل النووي الايراني، كما سبق لاسرائيل ان ضربت المفاعل النووي العراقي، اذا لم ترضخ طهران لمطالب الوكالة الدولية للطاقة الذرية. لكن المشروع نحو ايران اوسع وأعمق، ولذلك بدأ المحافظون الجدد تنفيذه خطوة خطوة لانضاجه خلال الولاية الثانية من رئاسة جورج بوش. خططهم نحو سورية قد تتطلب الانتظار حتى الولاية الثانية، انما ليس بالضرورة. فالتطورات على الساحة الفلسطينية الاسرائيلية وفي ذهن رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون هي التي ستملي المواعيد. "بلقنة" سورية كانت دائماً هدفاً في اذهان المحافظين الجدد، ولا تزال في ذهن بعضهم. وهم مصرّون على اسقاط نظام الرئيس بشار الاسد بمقدار اصرارهم السابق على اسقاط نظام الرئيس الراحل حافظ الاسد. وهم يرون ان فرصتهم أتت اخيراً، في هذا المنعطف. رهانهم يقع على تردد سورية في تبني استراتيجية اقدام واصلاح استباقية واعتمادها بدلاً تكتيك تلبية المطالب تحت الضغوط بتردد وانتقاص في الخطوات. همهم الاول الآن هو زج "الارهاب" في الخانة السورية من خلال علاقاتها المستمرة بتنظيمات فلسطينية مدرجة "ارهاباً" في القاموس الاميركي، وعلاقاتها مع "حزب الله" في لبنان الذي أُقحم في خانة "الارهاب"، اميركياً واسرائيلياً. ومجرد رفع راية الارهاب، تسلطاً او اختلاقاً، في الذهن والانطباع الاميركي، يكفي لشن المحافظين الجدد حملات تشويه وعداء لمن يستهدفونه. قد يكونون زمرة متطرفين او نخبة ذات شبكة مهمة ممتدة مع كبار الشركات، هائلة التنظيم والقدرات، المهم انهم في موقع الفعالية والنفوذ والسلطة في عصر الادارة الاميركية الحالية، ومهما بدت طموحاتهم خيالية، من الضروري جداً اخذها بجدية وفي الحسبان. ففي ملفاتهم خرائط جديدة للمنطقة، وفي اعماقهم التزام بالهيمنة على القرار الاميركي، وفي حساباتهم نوع من التحقير للرأي العام الاميركي والعربي والدولي باعتباره قابلا للاستقطاب او التجاهل او الاحتواء. انهم يضعون الاهداف وينطلقون اليها بعزم مهما برز من عثرات وعراقيل، فهي مجرد حصى في طريق دبابة العظمة والعجرفة والمصالح. بعض الانظمة والقيادات العربية ينصاع ويذعن بلا مساءلة لأن اولوياتها هي في بقاء الانظمة. بعضها يود التحدي انما يخشى ان يدفع وحده ثمن المناطحة وبعضها يرى في الأمر فرصة لشراكة تفيده ومسحة بين المناطحة والانبطاح. ما يبقى ضرورياً هو التعرف العميق الى من هم المحافظون الجدد، وماذا يريدون، ولمن، ولماذا. عندئذ قد يكون في الامكان صياغة مواقف نحو اهدافهم، واولها سحب السلاح السري الأقوى لديهم، وهو انبطاح الرأي العام.