يضع الجندي الأميركي يده على جَسَد المرأة الواقفة أمامه بكامل عباءتها، بحجة تفتيشها، علّها تخبئ داخل ثيابها قنبلة صغيرة أو رمانة يدوية أو... سلاح دمار شامل تبيد به المتحضرين من أميركيين أو بريطانيين أو صهاينة أو من هم على شاكلتهم... وحين لا يجدها قد خبأت داخل عباءتها سوى طفلها، أو قهرها، يكون اكتفى بوضع يده على مجسّات الأنوثة في المرأة العربية المحجبة، وهي مجسّات محروسة ومحرّمة، بل أكثر حرمة من مجسّات الأنوثة الأميركية أو البريطانية أو الإسرائيلية، المكشوفة بحرية، وبلا حَرَج ولا محظور، للعين واليد. حَسَناً، قلنا إن الجندي الأميركي يضع يده على أماكن من جسد المرأة العربية الواقفة أمامه بعباءتها وخوفها، ليجسّها ويفتشها،،، هذا، ورجُلُها واقف على مقربةٍ أو مَبعدةٍ منها، مسلوباً، كليلاً، ذليلاً، ولا حول له ولا قوة، فقد سبق وسلبه سيّدهُ وطاغيته الذي صنعه بيده، الحَوْلَ والطَوْلَ والكرامة، فغدا كما قال فيه أبو الطيب: "من يهن يسهل الهوان عليهِ/ ما لجرحٍ بميّتٍ إيلامُ" وقاهرُهُ هذا، قاهرُهُ الأوّل، قاهره الوطني، قاهره القومي، قاهرُهُ الدهري، هو هو الذي كان نصّبه عليه طاغيةً وقاهراً في الأساس، ومن زمان، على ما قال خليل مطران: "كل قومٍ خالقو نيرونهم/ قيصراً سموّه أو سمّوهُ كسرى" ومع ذلك، فهو ينظر دامع العين كليل اليد الى المشهد، مستسلماً له أمامه بكل معانيه. بكل وخزِهِ وعبرته. يُنهي الجندي الأميركي عملية تفتيش المرأة، فلا يجد شيئاً محظوراً فيها ممّا يبتغيه، فيطلق سراحها، فيتبعها زوجها الى آخر الحكاية. ولو كان الجندي الأميركي أكثر فطنةً، لكان عثر في المرأة الواقفة أمامه على مبتغاه، ولكان صرخ "أوريكا أوريكا..." "وجدتُها" فسلاح الدمار الشامل الذي في جسد المرأة العربية هو سلاح مزدوج: أطفالها والقهر. وكلاهما شاهَدَهُ الجندي الأميركي بأم العين، ولم ينتبه إليه. يضع الجندي الأميركي رجله على المواطن الحساسة في الأرض العربية المستسلمة بين يديه وهي في كامل أبهتها، ويعبث بها علّها تخبئ داخل التراب أو خارج التراب قنبلة صغيرة أو رمانة يدوية، أو سلاح دمار شامل تبيده به هو وحلفاءه من بريطانيين وإسرائيليين وعلوج دوليين. وهو، إذ يغوص بكفه الى ما تحت التراب، فلكي يلامس دمَ الصحراء العربية، ويؤمّن تماسّه المنشود مع قلبها النفطي الأسود... حتى إذا عبث واطمأنّ بمكنونات الأرض، أمام شعبٍ يقف بالطابور لتفتيشه، جلس وراء سلاحه ليحرس المشهد، فوق جسدين منتهكين: جسد الأنثى وجسد الأرض، وبينهما تتوزّع أشلاء العربي. * أفٍّ من بلاد جوفُها نفط ومقابرُ جماعية، وظهرُها قصور وتماثيل. * قال الشاعر: "زَمَني يا أختَ هوايَ عَجَبْ/ موسم جوعٍ وقصور ذَهَبْ". * ... هذا، وكانوا جميعاً يصطفّون هناك بالطابور لتفتيشهم. فتشوا حتى النساء الحوامل والأطفال الرُضّع. مَنْ يخاف ممّن؟ استخرجوا من داخل البيوت مدخرات الفقراء. فتحوا القصور والمقاصير والمخادع على مصاريعها، وهناك، عَجَبي... نبشوا أسرارها وانتهكوها ولا من رفّة جفن أو نخوة كبرياء، وهناك، عَجَبي، ديست نفخةُ الاستعلاء بالقدم... نفخة الرئيس المتجبّر. كانوا يمشون، تتبعهم صحاراهم وقصورهم، أولادهم وحريمهم، تماثيلهم وآثارهم... إلى الحيرة. * هذا، وكنتُ على قاب قوسين أو أدنى من الجنون، أو الموت من قهري، وأنا جالس أشاهد هذه المشاهد وسواها على الشاشة، بجفن واسع، بجفن أوسع بكثير من السماوات والأرضين، حين تقدّم مني ابني، وقال لي بإنكليزية مصطنعة: .... Good Luck - ... أعلم تمام العلم أنه يرغب في إيذائي. هو يعرف أن يقول لي بالعربيّة حظاً سعيداً أو تصبح على خير أو السلام عليكم. لكنه تعمّد معابثتي. وهو يعلم أن اللعنة التي لحقت بوالدي لحقت بي... لكنه لا يعلم أنّ اللعنة التي لحقت بي سأمنعُها عنه عنوة. هو يعلم أنّ نجم البداوة اليوم لامعٌ في سماء الشرق، وأن العربي أشلاء. غيّرتُ الصورة بكبسة زرّ عصبيّة، لكنني وقعت في الفخّ من جديد. أين المفرّ؟ كانت الجموع الهائجة أمامي تتظاهر مُرغيةً مزبدة، متراكبةً بعضها فوق بعض، وترفع القرآن فوق رؤوسها، صارخة بالأميركيين اخرجوا من بلادنا. حدّقت في المشهد تحديقاً آخر، ظهر لي القرآنُ فيه غريباً. وحدَهُ كان يسير في الهواء. يسير وحده وغريباً. لم أشعر في ماضي حياتي، على عِلاّتها وتعرّجاتها، برغبةٍ أشدّ إلحاحاً من رغبتي في تلك اللحظة في أن أقوم الى القرآن وأضمّه الى صدري ضمّاً عنيفاً وموجعاً، ضمّة الغريب والخائف والمقهور وصاحب الرجاء الذي فقده. ضمّة اليتيم المنسيّ على طرف المأدبة... وقمتُ إليه وضممته، وكان ابني ينظر إليّ مشدوهاً، وربما اعتقد للحظةٍ أنه أصابني مَسٌّ أو جنون،،، وكان، هو الذي عابثني بقوله "غود لاك"، لا يعلم ما يدور ببالي، في رأسي، من أمور، وأنني آليتُ على نفسي أن أزيل عنه اللعنة اللاحقة بأبي وبي... من أجل ذلك ابتسم ومضى الى غرفته. ابني "علي" فتى في الثامنة عشرة من عمره، يحب الموسيقى وغيفارا. وكنتُ لاحظت عليه، منذ بدأَتْ حرب العراق، أنه ملأ غرفته بصُوَرِ غيفارا. غيفارا الجميل، بشاربيه المميزين، وذقنه الثورية، والبيريه ذات النجمة على رأسه. غيفارا بأوضاعه كافة، وحتى في موته، وهو ممدّد جثّةً هامدة في غابات بوليفيا. قلت له: غيفارا مات... غيفارا مات. فأكمل هو قول أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام "وامتدّ حبل التعليقات"... لكنني لم أستطع أن أميّز سخريته من جِدّه. قبل صُوَرِ غيفارا التي احتشدت في غرفته، كان قد وضع صورة للمطران كابودجي، وصورة سريالية لسلفادور دالي، وأخرى لعنتر وعبلة وصورة شخصية له مصنوعة بالكومبيوتر على شكل سوبرمان عظيم. كنت ألاحظ على "علي" أنه مرتبك، وأنه لا يحب الكتب الحب الذي يشغلني، لكنه يحب غيتاره حبّاً جمّاً. "علي" لم يكن ينطوي على القهر الذي فيّ، ولا على الخوف العظيم... لكنه كان مرتبكاً. * والآن... النحلة التي تطير في رأسي لا تهدأ. تئزّ، تطير، تلسع. لكنني أخاف. أخاف وآكل عينيّ من شدّة خوفي. ولستُ أدري لماذا في هذه اللحظات، وبحركة عصبيّة لا رادّ لها، ركضت مسعوراً الى مكتبتي، وأخذت أبعثرها، وأبحث فيها عن كتاب... كتاب ما، كنت أشعر اني بأمسّ الحاجة إليه، وكان ضاع بين الكتب. كنت بحاجة الى الرجل الذي قال: "لا شيء يربطني بهذه الأرض سوى الحذاء..." سأنتقم،،، كنت بحاجة الى من حمل سجنه على ظهره كما تحمل السلحفاة بيتها، يمشي بلا أتباع ولا مريدين، يحمل صليبه من أجل الأرض، ويجلس إذا جلس، في الزاوية، يحدّق في الأقدام العربية الحافية التي تناطح الأرصفة... للعائش في البرد والوحل، شريد الروح والقدمين، رجل الظل والظلمات، فاقد الطمأنينة والفرح، من أوّل ما لسعه السوط العربي. تحولت الكتب المرميّة على الأرض بين يديّ، الى كومة من الكتب، على شكل خربة صغيرة. جلست عليها كغراب، فتحت الكتاب الذي وجدته وبدأت أقرأ بصوتٍ عالٍ كما لو أنني وقفت خطيباً بين المقابر: "ضَعْ قدمك الحجريّة على قلبي يا سيّدي الجريمة تضرب باب القفص والخوف يصدح كالكروان ها هي عربة الطاغية تدفعها الرياح وها نحن نتقدّم كالسيف الذي يخترق الجمجمة * أيها الجراد المتناسل على رخام القصور والكنائس أيتها السهول المنحدرة كمؤخرة الفرس المأساة تنحني كالراهبة والصولجان المذهّب ينكسر بين الأفخاذ خيطان رفيعة من التراب والدم تتسلّق منصّات العبودية المستديرة تأكل الشاي وربطات العنق وحديد المزاليج من كل مكان الدود ينهمر ويتلوّى كالعجين القمح ميت بين الجبال وفي التوابيت المستعملة كثيراً في المواخير وساحات الإعدام يعيشون شحنة من الأظافر المضيئة الى الشرق وفي السهول التي تنبع بالحنطة والديدان حيث الموتى يلقون على المزابل كانت عجلات القطار أكثر حنيناً الى الشرق * البندقية سريعة كالجفن والزناد الوحشي هادئ أمام العينين الخضراوين ها نحن نندفع كالذباب المسنّن نلوّح بمعاطفنا وأقدامنا حيث المدخنة تتوارى في الهجير وأسنان القطار محطّمة في الخلاء الموحش الطفلة الجميلة تبتهل والأسير مطارد على الصخر".