1- شجرة البلبل - 1 - في الرّيف، لا نَتخيّلُ النُّجومَ، ولا نقرؤُها بعين الطّبْع، أو عين الطبيعة، لكي نصعدَ إليها في أسرّتها، بل لكي تهبطَ هي إلينا بين يَديْ تُرابِنا الكريم. - 2 - الآن، في هذه اللحظة من هذا الليل، ترى عينايَ إلى الفراغ يُشهر سيفه ويَهْوي به على عنق الأرض. وها هيَ نجمةٌ مليئةٌ بالعيون تُفْلِت من سِرْبِها في الفضاء كمثل غزالةٍ، وتنزلُ لكي تُغوي أَهْلَ الرّيفِ، محرّضةً عيُونَهم على بُعْدِ النّظر، وأَقدامهم على قُرْبِ السّفَر. مجرّد السّفَر. لا تقول لهم أين، ولا كيف، ولا متى. يضطربُ أهل الرّيف، وتضطربُ، خصوصاً، عيونُهم، ويأخذ كلٌّ منهم يسأل صاحبه: - من أين لهذه النّجمة - الغزالةِ، هذه العيونُ كلّها؟ وأينَ تعلّمت القراءة، وماذا تقرأ الآن؟ وتكون الينابيعُ قد أطبقت أجفانَها، وأغلقت آخرَ نوافذها، وأخذَ كلٌّ منها يتهيّأُ لكي يُصبحَ شَحّاذاً. - 3 - أمسِ، عندما التقيتُ بها، وانسكبت عينايَ على جسدها، كنتُ قد جمعتُ كلَّ ما استطعتُ مِن مِقَصّاتِ النّهار، وخَبّأتُها بعيداً عن شَعر اللّيل. وكنتُ تخيّلت أَنّني سبحتُ طويلاً في تلك البحيرات العاشقة التي هي عيون النّساء في القرية التي أنتمي إليها. نِساءٌ - ما أَبْهاهُنَّ، - يتركنَ لأيّامهنَّ أن تتدلَّى على أَكْتافِهنَّ كمثل المناديل، وقلَّما يلتقين لكي يجلسن معاً إلاّ في بيتٍ دافئٍ، يتناولنَ فيه قَهوة الحبّ، حيث تمتزجُ قَدمُ الضّوء بعتَبةِ اللّيل. - 4 - ليلٌ ملتصقٌ بالتّراب. لا أجنحةَ له. كيف أحلُّ العقدةَ التي تحلّ شبكةَ اللّيل؟ - 5 - شخصٌ: لماذا لا أرَى منه إِلاّ ظِلّه؟ - 6 - بَدأَ العمرُ يُطفئ قناديلَه، فيما كان يسند ظهرَهُ إلى جذع زيتونة. حوله نجومٌ يسهرنَ في العراء، بين الأكاسيا والدِّفْلَى، أمَلاً بهبوط الملائكة الذين تتدلّى مِن جدائلهم الطّويلة قنادِيلُ أخرى، قَلّما تأْنَسُ إليها السّماء. - 7 - لا أظنّ أنّ عهدَ الأسطورة انتهى، كما يقول بعضٌ من أَهلِ العلم والتّقنية. فأمسِ، رأيتُ اللّيلَ يطوفُ كمثل امرأةٍ تجيء لِتوّها من مَهْدٍ بابليٍّ، يحيطُ بها موكبٌ من عباءاتٍ لا تلبسها غير النّجوم. تهيّبتُ من أن أتقدّمُ وأحيّيَ هذه المرأة، مُقدِّماً إليها نفسي. وماذا سأقولُ لها؟ سأكتفي بتحيّتها مِن بعيد. هكذا قلت في ذات نفسي: ليس هناكَ أيّةُ ريحٍ تقدرُ أن تمحوَ الأثر الذي تتركه خطواتها، أو تكنسَ غُبارَها. ألا يكفي أن أرَى هذا الأثر، وأن ألمسه إذا شئت؟ ثمّ تابعتُ بشيءٍ من اليقين: حَقّاً، ذلك العالم الذي نسمّيه قديماً، والذي تركناه وراءَنا، لا ينفكّ يَتحرّك أمامَنا، يوماً بعد يوم، كمثل أفقٍ داخل الأفق، بلا حدودٍ ولا نهايات. - 8 - لستُ أنا من جمعَ فُتات الخُبز الذي تركته على الشّرفة، سَهواً، مساءَ الجمعة الماضية. وليس الدّوريّ، ولا أيّ طائرٍ آخر. جَمعتْهُ يَدٌ لا أشكّ في أنَّها يَدُ كائنٍ كان يجلس معي خفيّاً على كرسيّ الفراغ. ولا أَشكّ في أَنّ يدَ السّماء كانت مغلولةً آنذاك. - 9 - يَكْفيني من المْلكِ، أن أملكَ شكّي في ما أملكه. -10- أطفال القرية الذين يتفتّحون كالبراعم في غابة أَيّامي، يعرفون اسْميَ الأوّلَ العائليّ، غيرَ أنّهم يُنَادونني غالباً بِاسْميَ الشعريّ ربّما لأنّهم يظنّون أنّ هذا الإسم يفتح لهم أبوابَ المخيّلة. ويسيرُ بهم خارجَ واقعهم، إلى الممكن المختلف. أُتيحَ لي، في فتراتٍ متقطّعة، أن أتحدّثَ مع عَددٍ منهم. كان كلٌّ منهم يؤكّد لي أَنّه لا يقدر أن ينامَ إلاّ بعد أن يُخَبِّئَ نجمةً في دفتره المدرسيّ، تحت وسادته. - 11 - مراراً، في الشتاء، رأيت الطّبيعةَ تُؤاخي بين الشّجر في القرية. كانت تُعلّم كلّ شجرةٍ كيف تُسند رأسها على كتفيْ أختها المجاورة، فيما تَسْردُ العاصفةُ أخبارَ الأوراقِ الميّتة. واليوم، في آخر الصّيف، تَخيّلْتُ أنني أفتحُ ثقباً في الحائط الضّخم الصُّلْب الذي يُسمّى الريح. لا لِشيءٍ، إلاّ لظنّي أَنني أَسْتطيعُ بِعملي هذا أن أُخَفّفَ وَطْأةَ هذا الحائط المتنقّل، على أشجار الياسمين والورد. وتخيّلتُ أَنّني أقِفُ أمامَ هذا الثّقب، أتأمّل عَملي، حامِلاً بيديَ اليُمنى حفنةً من الشّمس، واضِعاً يديَ اليُسرى في جيب الحديقة. - 12 - عندما جاءَ البلبل يبني عُشّه إلى جواريَ في حديقة البيت اختارَ شجرةً لا تكبره في العمر إلاّ قليلاً. في غفلةٍ من الماء، يبست الشّجرة. أو ربّما قطعَ جذورَها الخلْدُ ذلك الحيوانُ الذي يعيش مختبئاً تحت الأرض. لكن، لماذا اختارها، هيَ، بين الشّجر؟. هكذا هجرَ البلبلُ بيتَه. أخذت عُشّه الذي تركه وراءه، ووضعتهُ كمثل كتابٍ ثمينٍ جميل إلى جوار الكتب التي تركها أصدقاؤه الشعراء، وعلى رأسهم المعرّي. كانَ هذا العشّ مكتوباً بحِبْر الغريزة، منسوجاً بطريقةٍ تُخيّل لِمن يَعرف أن يرَى أَنّ البلبلَ حاذِقٌ، هو كذلك، في صناعة الشِّعر. ولعلّ بعضَنا يعرف أَنّ البلبلَ، كمثل شعراءَ كثيرين، لا يطيق أن يُقيمَ في مكانٍ يذكّره بأحزانه، خصوصاً عندما لا تفعل السّماء فوقه إلاّ أن تَستقليَ كسولةً وخرساء. في صباح اليوم الثاني، بعد هجرة البلبل، وكان يومَ أحدٍ، على الأرجح، رأيت ضوءَ الفَجْر ينزل من رؤوس الجبال، عندما كنت أَسْتيقظُ نازلاً مِن ضوءٍ آخر. لم يُسلّم هذه المرّة، على غير عادته، وبدا حزيناً مُرْهَقاً، وخُيّل إليَّ كأنّه يحمل على كتفيه بيوتَ الفَلاّحين بكلّ ما فيها. حتّى أحذيتهم العتيقة وجَدت لها مكاناً في كيسه الأبيضِ الواسع. ورأيتُ إلى الأَرْض تَتَشَقَّقُ تحتَ كلّ خطوةٍ مِن خطواته. قَصّابين، آب 2000