حدث إنقلاب في الفكر السياسي الفلسطيني عام 1974 بإقرار المجلس الوطني الفلسطيني إقامة دولة فلسطينية على جزء من الأرض الفلسطينية. وانخرطت الجماهير الفلسطينية، في الضفة الغربية وقطاع غزة، في حركة لا عنف واسعة النطاق تأييداً للقرار ومقاومة للاحتلال. لم تحدث عمليات عسكرية واسعة من خارج الحدود، بل اعتمدت قيادة المنظمة في الخارج على هذه الحركة الشعبية وقامت بتنظيمها وتأطيرها، واكتشفت ولو متأخرة، أن الفعاليات الشعبية ذات تأثير واسع على الجمهور الإسرائيلي وذات قدرة على تغيير المعادلات. كانت تلك الانعطافة السياسية الأولى في مسيرة منظمة التحرير التي لم تكن تؤمن آنذاك بغير السلاح والقوة العسكرية. وجاءت الانعطافة السياسية الثانية في انتفاضة كانون الأول ديسمبر 1987، حيث لم يكن للسلاح أي دور، والحجارة لا تعدو كونها عنفاً رمزياً له دلالات رجم الشيطان، حسب تقاليد الحج في الإسلام، ولهذا يكتسب استخدام الحجر معنى فيه الكثير من التقديس. واكتسب العمل الشعبي والجماهيري في تلك الانتفاضة زخماً هائلاً، ولهذا لم تتجه حركة حماس في ذلك الزمان، لاستخدام السلاح. وكان، رغم ذلك، هناك تمايز واسع بين القوى السياسية المنضوية في إطار منظمة التحرير، وبين القوى الإسلامية، حيث كانت هناك قيادتان للانتفاضة: قيادة وطنية موحدة تضم فصائل تؤمن بالسلام وبإقامة دولة فلسطينية، وتستخدم اللاعنف سبيلاً لذلك، وقيادة حماس ومعها قوى الإسلام السياسي تنطوي في إطار قيادة ثانية. ومارست القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة ضغطاً لا بأس به على قيادة المنظمة في "الخارج" من أجل الاعتدال، وأرسلت مذكرة لاجتماعات المجلس الوطني في الجزائر في تشرين الثاني نوفمبر 1988، وكنت شاهداً على ذلك، تطالب باعتراف واضح بقرار مجلس الأمن 242 وتطالب بإعلان الدولة الفلسطينية وبالسير قدماً نحو المصالحة التاريخية. وتحقق لها ما أرادت حيث وافق المجلس الوطني التاسع عشر على هذه المطالب، وشكل هذا القرار ما أعتبره الانعطافة الثانية في مسيرة الفكر السياسي الفلسطيني. ومثلث الانتفاضة الأولى نموذجاً ساطعاً لحركة اللاعنف وانتصر فيها الدم على السيف، وانتصرت "قوة الضعف" على ضعف القوة، حيث استخدم الجيش الإسرائيلي القوة العسكرية ورد عليه الفلسطينيون آنذاك بحركة شعبية واسعة النطاق، لا تستخدم السلاح. وحين ترد على العنف باللاعنف، فإن الضحية تظهر ضحية، ويبدو الجلاد جلاداً، دون لبس أو غموض. وساعدت استراتيجية الانتفاضة اللاعنفية في إحداث تغييرات واسعة في الرأي العام العالمي والرأي العام الإسرائيلي، وتبادلنا المواقع على خريطة العالم: هم يمارسون تكسير الأيادي، ونحن نطعم دباباتهم لحوم أبنائنا، لعل الدم ينتصر على السيف. بعد تلك الانتفاضة صعد حزب العمل للسلطة بعد غياب عقد ونصف العقد، وانطلقت مسيرة السلام في مدريد وأوسلو، وبدأت حركة التاريخ نأخذ اتجاهاً جديداً، قبل أن يعترض ذلك المتطرفون الإسرائيليون والفلسطينيون، ويعيدون الأمور من جديد إلى نقطة الصفر. في انتفاضة عام 2000، سارت الأمور باتجاه العمل الشعبي بعيداً عن استخدام السلاح، لبضعة أسابيع، حصدت خلاله الانتفاضة نتائج هائلة، توّجت آنذاك بمبادرة كلينتون التي تتجاوز كثيراً سقف خريطة الطريق. ومع بداية 2001 وفشل الطرفين، الإسرائيلي والفلسطيني، في اغتنام فرصة مبادرة كلينتون، أمسكت حماس والجهاد بناصية الأمور في الساحة الفلسطينية، وصعد ليكود إلى قمة الهرم السياسي لدى الطرف الآخر، وبدأت رحلة العنف التي وصلت إلى طريق مسدود. لم يكن أحد في الساحة الفلسطينية قادراً على وقف هذا الانفلات، وكان الاتجاه العام مزدحماً بالموت اليومي والدمار الهائل. وفي الغرف المغلقة بإحكام، كان العديد من القادة الفلسطينيين يتحدثون عن الكارثة التي نجرّها على أنفسنا بأيدينا، حين نقاتل الطرف الآخر، بالسلاح الذي يتقنه، وحيث ينحسر تأييد الرأي العام الإسرائيلي والعالمي بسبب عمليات قتل المدنيين. وعلى الجانب الآخر رفعوا شعار: "دعوا الجيش ينتصر"، ووصلوا إلى استحالة تحقيق ذلك بالسلاح وحده، وتهيأت الظروف لمراجعات واسعة. لقد استنكف أبو مازن عن العمل شهوراً عام 2001، بسبب عسكرة الانتفاضة، وتوصل مع أبو عمار في تموز يوليو من ذلك العام، إلى وقف كل شيء، ولم يتمكن أحد من وقف تلك العسكرة، ودوامة الانتقام والانتقام المضاد. مبادرات عديدة حدثت خلال العامين الماضيين وقام آلاف المثقفين الفلسطينيين بالتوقيع على عرائض علنية لوقف قتل المدنيين، مقدمة لوقف العنف، ونشروا ذلك في صحيفة "القدس" المقدسية على شكل إعلانات، وحدثت تحركات خجولة لمعسكر السلام الفلسطيني والإسرائيلي، لكن صوت التطرف كان الأقوى. وفي الاستطلاعات الأخيرة للرأي العام الفلسطيني، هناك تغيرات واسعة، جوهرها الاقتناع، عبر التجربة الدامية، بأن استخدام العنف لم يجلب لنا أية فائدة. فحسب استطلاع لجامعة بيرزيت فإنّ أغلبية الفلسطينيين تقف ضد استمرار قتل المدنيين وتؤيد خيار التفاوض مع إسرائيل وخيار المصالحة التاريخية وخريطة الطريق. على الجانب الآخر، ثمة تغيرات مشابهة حسب استطلاعات الرأي العام الإسرائيلي المنشورة في صحف "معاريف" و"يديعوت أحرونوت". فأغلبية الإسرائيليين تؤيد خريطة الطريق وتجميد البناء في المستوطنات، بما في ذلك النمو الطبيعي. ثمة، إذاً، قناعة، لدى الأغلبية من الشعبين، الإسرائيلي والفلسطيني، بأن المواجهات العنيفة لم تحل أية مشكلة وأنّ الطرفين قد نضجا للسير في طريق التسوية. ثمة أغلبية، لأول مرة، في وسط الجمهور الفلسطيني، تتحدث عن أن استخدام السلاح في الانتفاضة أدى إلى دمار كل مؤسسات الشعب الفلسطيني وإعادة احتلال أرضه وتدمير اقتصاده، وتوحيد الإسرائيليين خلف قيادة يمينية، حين رأوا أن ما تريده قوى التطرف الفلسطيني هو تدمير الدولة العبرية. ولهذا فهي حرب امتداد لحرب 1948. وبعد الحادي عشر من أيلول سبتمبر فإن قاتل المدنيين، تحت أي ذريعة، هو أسامة بن لادن مصغر. لذلك كان من المتوقع أن تنحني حماس والجهاد الإسلامي للزوبعة وقبول الهدنة، خاصة أن قياداتهما في الخارج تعرضت لضغط شديد لقبول ذلك، بسبب المعادلات الجديدة في المنطقة بعد سقوط نظام صدام حسين. لكن الدرس يبقى ساطعاً، وهو أنه في مثل ظروف الوضع الفلسطيني، فإنّ الخلاص من الاحتلال لا يتم عبر استخدام السلاح على الإطلاق. ذلك هو الدرس الرئيسي، الذي يجب على رجالات السلام واللاعنف تثبيت نتائجه في عقول الجمهور برسوخ وقوة، حتى لا يعودوا مرة ثانية إلى دورة العنف. - توفيق أبو بكر مدير مركز جنين للدراسات الاستراتيجية وعضو المجلس الوطني الفلسطيني. وهذا المقال جزء من سلسلة مقالات عن اللاعنف تنشر بالتعاون مع خدمة Common Ground الإخبارية.