تتضافر المؤشرات على أن قيادة "فتح" توشك أن تنجح في وأد انتفاضة الكفاح المسلح والعمليات الانتحارية بالانتقال إلى الكفاح غير العنيف كالتظاهر السلمي والخرق الجماعي لحظر التجول. انتصار هذا الانتقال سيؤدي ولا شك إلى تغيير نوعي في موازين القوى بين جيش الاحتلال، الذي سيفقد منذ الآن ذريعة العنف الدموي التي طالما برر بها استخدام كامل قوة نيرانه بما فيها طائرات "اف 16"، وبين الشعب الفلسطيني الأعزل الذي غدا قادراً على استعمال كامل قوته السياسية والرمزية ضد الاحتلال، ولكسب الرأي العام الإسرائيلي والعالمي المتعاطف تلقائياً مع كل نضال غير عنيف يعيد لذاكرته ذكرى غاندي. ثلاثة أخطار حقيقية تترصد هذه النقلة النوعية غير المسبوقة في تاريخ الشرق الأوسط: افتقاد قيادة بمستوى هذا الحدث تعرف ما تريد، واستفزازات شارون، وهوس "حماس" بأخذ الثأر العشائري. عقب أخيل النضال الفلسطيني ضد الصهيونية ثم ضد الاحتلال الإسرائيلي هو القيادة السياسية التي لم تكن قط في مستوى المهام المطروحة موضوعياً على الشعب الفلسطيني ولم تمتلك البرنامج السياسي الواقعي ولا حتى الحس السياسي السليم الذي يساعدها على التقاط الفرصة التاريخية السانحة قبل ضياعها. تشخيص نبيل عمرو لقيادة عرفات قابل للتعميم على القيادات الفلسطينية منذ رفضها قرار لجنة بيل عام 1931 باعطاء الشعب الفلسطيني 80 في المئة من فلسطين: "ألم نرقص لفشل كامب ديفيد، ألم نلق الطين على صورة الرئيس كلينتون الذي تجرأ على تقديم اقتراح دولة فيها بعض التعديلات ... وبعد مرور عامين من الدم صرنا ندعو إلى ما رفضناه بعد أن تأكد لنا استحالة تحقيقه؟". القيادة المطلوبة للمرحلة التاريخية الجديدة هي قيادة من طينة أخرى تمارس السياسة حصراً وتفتح وسائل الإعلام للنقاش الحر، وتكون لها شجاعة إعادة التفكير في أفكارها والجهر بقناعاتها وممارسة نقدها الذاتي عن أخطائها التي قادت الشعب الفلسطيني إلى نكبة ثانية. لا تغدو الهزائم محتومة إلا في المجتمعات والتنظيمات السياسية المغلقة التي تحول السياسة إلى مطلق يعتقل العقول والألسن. هذه القيادة المنفتحة هي الحد الأدنى الذي يتوقف عليه انقاذ ما يمكن انقاذه من المشروع التحرري الفلسطيني الذي بدأ ينتكس منذ رفض مقترحات كلينتون. معيار صلاحية القيادة الجديدة هو عدم سقوطها في فخ استفزازات شارون ويعلون المصرّين على استمرار الكفاح المسلح والعمليات الانتحارية لحاجة في نفس يعقوب. ألم يأمر رئيس الحكومة الإسرائيلية باغتيال قائد "حماس" العسكري صلاح شحادة، بعد ساعة ونصف فقط من توقيع "حماس" على مبادرة تنظيم "فتح" بوقف العمليات الانتحارية داخل إسرائيل لارغامها على سحب توقيعها والعودة إلى "العمليات الاستشهادية" التي تقدم له الذريعة المثالية لتحقيق ما خطط له من أهداف: "استكمال حرب الاستقلال"، أي الترانسفير، ابقاء الرأي العام الإسرائيلي متحداً وراءه، استخدام العمليات الانتحارية أدة لتفادي الضغوط الدولية للعودة إلى المفاوضات ومواصلة تسليط الحرب على الشعب الفلسطيني لتكبيده، عملاً بفلسفة أستاذه جابوتنسكي، سلسلة من الهزائم تخرب ثقته بنفسه فتدفع قطاعاً منه إلى الاستسلام وقطاعاً آخر إلى تحويل هزائمه إلى رغبة عمياء في الثأر. عنصر الأمل الوحيد أن بعض القياديين الفلسطينيين البعيدي النظر باتوا واعين لخطر الاستفزازات الشارونية بقصد قطع الطريق على التحول إلى اللاعنف. صائب عريقات صرح للصحافي الإسرائيلي عكيفا الدار: "في كل مرة نحاول كسر دائرة العنف تقوى رغبة الجيش الإسرائيلي في اطلاق النار. وفي كل مرة تظهر فيها بارقة أمل في استئناف عملية السلام يقرر أحدكم، في إسرائيل، أن الوقت مناسب لمهاجمة حي فلسطيني". ويضيف معلق "هآرتس": "سرَّ خافيير سولانا عندما أعلمه قادة التنظيم في غزة بموافقتهم على التخلي عن سلاح الإرهاب والانتقال إلى الكفاح غير العنيف ضد الاحتلال ... لكن محمد دحلان قال له بين الجد والهزل أخشى إذا علم شارون بالأمر أن يقوم بتدمير كل شيء". لو لم تكن "حماس" موجودة لاجترح شارون المعجزات لايجادها لأنها المطية التي يمتطيها في كل مرة منذ عامين لتنفيذ عملياته الاستفزازية ضد ناشطيها أو ضد المدنيين الفلسطينيين "خطأ" لتتحرك في رؤوس قادتها وجمهورها مشاعر المطالبة بالثأر العشائري، الذي لم يقتصر على المدنيين الإسرائيليين، بل امتد إلى الفلسطينيين أنفسهم مما يُنذر باحتمالات حرب أهلية. فأحد ناشطي "حماس" المطلوب من المؤسسة الأمنية الإسرائيلية وجد مع ذلك ما يكفي من الوقت لترصد ضابط فلسطيني وقتله أخذاً بثأر أخيه الذي يتهم هذا الضابط بقتله. وهكذا فالثأر يشكل النواة الصلبة في لاهوت "حماس" وممارساتها سواء ضد الإسرائيليين أو الفلسطينيين. ومن العسير تغيير عقيدة بمثل هذا الرسوخ غدت ثقافة تهيكل نظرتها للعالم. في كل محاولة لاقناع قادتها بخطأ رؤياهم تبوء بالفشل، فالثأر عندهم قيمة القيم. الشرعية الدينية مجرد غطاء هش لتبرير اطلاق الغرائز العدوانية من عقالها لتقتل الأبرياء، إسرائيليين كانوا أو فلسطينيين، بضمير مطمئن. عالمهم الذهني الانطوائي متمرد على التفكير المنطقي. فتاوى زعيمهم الروحي تعصمهم من الاعتراف بالأخطاء. جمودهم الذهني يبرر لهم أفكار الواقع ورفض المستجدات والاصرار على تقسيم العالم إلى أسود وأبيض، وتمسكهم بالقراءة الحرفية للنص الديني وعبادة العنف الذي يمثل النواة المركزية لبنيتهم النفسية ومشروعهم الديني - السياسية سواء بسواء. لا شيء إذاً يساعد على اقناعهم بالتخلي عن العمليات الانتحارية وبالانتقال للنضال غير العنيف الغريب عن حقلهم الذهني والعقدي الذي يراه كفراً بفريضة الجهاد أو في أقل الأحوال سوءاً تخاذلاً مرفوضاً. فما العمل لتحييد خطر "حماس" الداهم على هذا الانعطاف الفلسطيني إلى شكل جديد من النضال؟ عزلها سياسياً ودينياً وسط جمهورها المتحمس لعملياتها الثأرية. هزيمة "حماس" في حربها على انتفاضة اللاعنف الجديدة لن تكون عسكرية، بل لاعنفية، أي سياسية وأخلاقية ودينية. سياسياً: اقناع جمهورها وقطاع واسع من ناشطيها بالوقائع التي تثبت تلاقي أهدافها في استمرار الكفاح المسلح لنسف كل إمكانية للعودة إلى المفاوضات بأهداف شارون والمؤسسة العسكرية، وإلقاء الأضواء على دورها في تقديم الذرائع لجيش الاحتلال لتكبيد الشعب الفلسطيني خسائر فادحة اقتصادية وبشرية وتنفيرها للرأي العام الإسرائيلي والدولي من وسائل النضال الفلسطيني ومن الدولة الفلسطينية. أخلاقياً: توضح أن استهدافها للمدنيين الإسرائيليين، فضلاً عن كونه يعطي للجيش الإسرائيلي ذريعة للانتقام من المدنيين الفلسطينيين يتنافى مع القيم الاخلاقية الكونية والدينية التي تفرض احترام حياة غير المحاربين احتراماً مطلقاً. دينياً: تجريد انتحارييها من هالة الشهادة كما بيّن ذلك شيخ الأزهر ومفتي السعودية والفضلاء من شيوخ الإسلام. كما صادرت "حماس" التلفزيون والمدارس والمساجد لنشر ثقافة انتفاضة العنف، فعلى قادة انتفاضة اللاعنف أن يستعيدوا منها هذه الأدوات الثلاث لتوظيفها في تعميم ثقافة اللاعنف التي هي، ككل ثقافة، كل لا يتجزأ على جميع المستويات السياسية والدينية والتربوية والإسلامية لاحلال خطابها محل خطاب "حماس" العنيف والانتحاري الذي تسلل إلى جميع الرؤوس بسهولة، نظراً إلى أنه يخاطب في الإنسان غرائزه والعنف المتأصل في بنيته النفسية. أما خطاب اللاعنف فيتوجه إلى العقل ومنظومة القيم الاخلاقية التي اكتسبتها الإنسانية على مر القرون، بنضالها ضد انفلات غرائزها العدوانية من رقابة الضمير الأخلاقي الحي. ادخلت الانتفاضة القديمة بعنفها الهمجي في روع الإسرائيليين أنها الخيار الفلسطيني الوحيد للتعامل معهم فلتُطق القصاص المتبادل: كل شهيد منا بقتيل منكم. حتى تكون انتفاضة النضال غير العنيف خياراً استراتيجياً واعياً بفلسفته وأهدافه ووسائل تحقيقها وليس مجرد خيار ظرفي يتراجع عندما تزول الظروف والاضطرارية التي استوجبته بعد إعادة احتلال المدن والقرى والبلدات الفلسطينية التي لم تترك خياراً سواه، فليعلن قادتها في وسائل الإعلام العالمية أن نضال الشعب الفلسطيني هو ضد حكومة إسرائيل وليس ضد شعبها، وان النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني هو حصراً نزاع على الحدود لا على الوجود عكس ما ظلت "حماس" تردده لتخويف يهود إسرائيل من السلام. هذه المواقف ستكون أفضل سلاح فلسطيني سري لإحباط مشروع الترانسفير الجماعي ولتحويل ما يقال عن اقتراب العودة إلى المفاوضات لتوقيع تسوية قريبة من مقترحات كلينتون من شائعة إلى حقيقة.