في سنوات الاحتلال الطويلة للأراضي الفلسطينية منذ حزيران يونيو 1967، قام الشعب الواقع تحت الاحتلال بالمقاومة تى يصبح شعباً حراً، مثل كل شعوب الأرض التي تحررت من الاحتلال الأجنبي. فالاحتلال الاسرائيلي هو آخر احتلال في العالم ما زال يجثم فوق الأرض والشعب. وفي إطار تلك المقاومة الباسلة، حدثت انتفاضات وحركات احتجاج لا حصر لها، لكن أبرز صور المقاومة تمثلت بانتفاضتين: الأولى اندلعت في أوائل كانون الأول ديسمبر 1987، والثانية انطلقت في أواخر أيلول سبتمبر 2000. الفارق بين الانتفاضتين كبير وهائل، لا يعود فقط لاختلاف الظروف الموضوعية وانما يتركز بالأساس على عدم استخدام السلاح في الانتفاضة الأولى واستخدام السلاح في الانتفاضة الثانية... فماذا كانت النتائج وكيف يمكن قراءة ذلك؟ في الانتفاضة الأولى تم استخدام "الحجر" وهو عنف رمزي بكل المقاييس، وفي الإسلام فإن مناسك الحج لا تكتمل إلا برمي الشيطان بحجارة صغيرة سبع مرات رمزاً لضرب الشر، والتخلص من غوايته، والاحتلال شر خالص من دون شك. وفي تلك الانتفاضة تم استخدام جميع أشكال الاحتجاج الشعبي والمقاومة المدنية ومقاطعة مؤسسات الاحتلال. واستخدم الجيش الاسرائيلي العنف لمواجهة شعب أعزل، وقدم الشباب الفلسطينيون لحومهم طعوماً للدبابات من أجل أن ينتصر الدم على السيف. شاهد العالم على شاشات التلفزة الجنود الاسرائيليين يكسرون أيادي الفتية في جبال نابلس، بدم بارد، واهتز ضمير العالم وحصد الفلسطينيون تعاطفاً دولياً غير مسبوق في ذلك الزمان. كان العامل الرئيس في ذلك، هو أنهم ظهروا ضعفاء لا يملكون سوى صدورهم يقاومون بها الدبابات والمصفحات التي اجتاحت كل شوارع المدن وأزقة البلدات والمخيمات. لم يساهم ابتعاد الفلسطينيين عن استخدام العنف والرصاص، في تلك الانتفاضة في حدوث موجة تعاطف عالمي غير مسبوقة لصالح قضيتهم العادلة فقط، وهي قضية استقلال وطني في زمن شهد سقوط الأنظمة الشمولية وازدهار موجة الاستقلالات الوطنية. بل ساهم في حدوث أوسع استقطاب في المجتمع الاسرائيلي، بين متطرفين ازدادوا تطرفاً ويعتبرون الانسحاب من مدينة نابلس اليوم، وهي مدينة محتلة عام 1967، تمهيداً لانسحاب من تل أبيب غداً، وبين معتدلين ازدادوا اعتدالاً ورأوا استحالة التحكم بشعب آخر للأبد، بكل المقاييس الأخلاقية والعملية. وولدت حركات السلام واتسع نطاقها. وبسبب نتائج الانتفاضة السلمية آنذاك وما أحدثته من تفاعلات صاخبة في المجتمع الاسرائيلي، انتهى عهد حكومات اليمين الاسرائيلي حين تسلم حزب العمل بزعامة اسحق رابين مقاليد السلطة، بانتخابات 1992، بغالبية كبيرة، وكانت الحكومة الأولى في اسرائيل التي يعطيها الناخب ثقته بسبب برنامجها للسلام، وسارت الأمور في مفاوضات واشنطن وانتهى الأمر باتفاقات أوسلو، حيث أقيمت سلطة فلسطينية لأول مرة، واستعاد الفلسطينيون جزءاً من الأرض وبدأوا بناء مؤسسات كيانهم الوطني القادم وأخذ العالم بأسره يتعامل مع هذه الحقائق الجديدة، فيما أخذ الاسرائيليون يتعايشون معها أيضاً. لولا قيام "حماس" بعمليات عسكرية واسعة النطاق ضد المدنيين في شوارع وساحات القدس وتل أبيب وعسقلان أوائل 1996، لما صعد بنيامين نتانياهو للحكم حيث كان شمعون بيريز يتفوق عليه في استطلاع الرأي العام بخمس عشرة نقطة، ولربما أمكن دفع عملية السلام نحو نهايتها لو صعد شمعون بيريز لسدة الحكم آنذاك. في هذه الانتفاضة، تضافرت عوامل عدة لانزلاقها نحو العسكرة واستخدام السلاح على رغم تحذيرات أغلب القياديين الفلسطينيين من ذلك، في حوارات اجريتها معهم. كانوا يريدونها انتفاضة غضب واحتجاج شعبي لكن الاستخدام المتوحش للقوة من قبل الجيش الاسرائيلي الذي حاول تطبيق شعاره: "دعوا الجيش ينتصر"، وعدم الحسم والتردد في القيادة الفلسطينية التي رضخت لنداءات الانتقام في الشارع الفلسطيني، دفعا الأمور نحو مزيد من التعقيد. قال لي ضابط فلسطيني انه تمنى لو انشقت الأرض وابتلعته حين رأى الجنود الاسرائيليين يقتلون أطفالاً ولم يكن قادراً على استخدام سلاحه، في بداية الانتفاضة. القتل العشوائي من كل طرف للطرف الآخر، يلغي انسانية الانسان ويقوّي القوى المتطرفة في المعسكرين. وكلما زاد سيل الدماء، أصبح اجتياز هذا النهر المتدفق أكثر صعوبة من أجل الملاقاة والتصافح والتوصل لمساومات تاريخية مشروعة وحلول وسط. هذا هو مضمون البيان الذي وقعته شخصيات سياسية وأكاديمية فلسطينية واسرائيلية في نهاية عام 2001، ولكنهم توقفوا عن السير في ذات الطريق حين نجح المتطرفون الفلسطينيون في عمليات القتل في الشوارع والساحات العامة، ووجد المتطرفون في حكومة شارون وبعض قادة جيشه الذرائع المناسبة ليكون رد الفعل أضعاف الفعل نفسه، والانتقام يدفع للانتقام. وهكذا تتدحرج كرة الثلج وتستمر المواجهات. لم نحقق ما نصبو إليه من انجازات باستخدامنا، نحن الفلسطينيين، للسلاح على مدى أكثر من عام كامل، ولم يتمكن الطرف الآخر من أن يفرض علينا شروطه بقوة الدبابات وأسلحة التدمير كافة. بالاضافة الى ذلك، لم يهب العالم لنجدتنا ولإرسال قوات حماية دولية كما حدث في مناطق أخرى من العالم، ليس فقط لأن اسرائيل ليست كوسوفو وتتمتع بعلاقات خاصة مع القوة الأولى في العالم: الولاياتالمتحدة الأميركية، بل لأن الصراع بدا أمام شاشات التلفزة في جميع أنحاء العالم، وكأنه قتال بين جيشين، وليس قتلاً بدم بارد من القوي للضعيف، كما كانت الأمور في الانتفاضة الأولى. آن للعقلاء من الطرفين أن يتحركوا من أجل بدء مسيرة مصالحة تاريخية يسلّم فيها كل طرف بحقوق الطرف الآخر. وآن الأوان للفلسطينيين والاسرائيليين أن يؤكدوا بشكل علني بأن العنف لم يجلب سوى الدمار وأنه لا يمكن قمع تطلعات وطنية بقوة التدمير، بمثل ضرورة أن يعرف الاسرائيليون اننا نريد أن نعيش معاً والى الأبد في دولتين لشعبين فوق أرض فلسطين: أرض الأنبياء والرسالات السموية وأرض المحبة والسلام. توفيق ابو بكر عضو المجلس الوطني الفلسطيني، ومدير مركز جنين للدراسات الاستراتيجية. والمقال جزء من سلسلة مقالات عن اللاعنف تنشر بالمشاركة مع خدمة Common Ground الاخبارية بدعم من الاتحاد الأوروبي واليونسكو. الموقع على الانترنت هو: www.sfcg/cgnews/middle-cast.cfm