في مثل هذه الأيام قبل ثلاثين سنة كانت هوليوود تعيش نوعاً من الاحتضار. فالتلفزة الملونة بانتاجاتها ووعودها، كانت بدأت تفرض حضورها وتشغل امسيات الناس، مجتذبة ليس فقط قطاعات عريضة من جمهور السينما اليها، بل كذلك اعداداً كبيرة من أهل مهن الفن السابع أنفسهم، بمن فيهم نجوم كبار. وهكذا وسط زحام رغبتها في مزاحمة التلفزة وسهولة ما تقدمه، راحت هوليوود تقدم تنازلاً بعد الآخر على صعيد الأشكال السينمائية كما على صعيد المواضيع. وبدا واضحاً ان ثمة فرزاً عنيفاً تعيشه عاصمة السينما العالمية بين مخضرمين من المخرجين يحاولون ان ينقذوا ما يمكن بعد انقاذه، وبين داخلين جدد يحاولون، على طريقتهم المستسهلة ان يستفيدوا مما لهوليوود، بعد، من زخم ليحققوا أفلاماً أقل ما يمكن ان يقال عنها انها لم تصنع لكي تعيش طويلاً، بل لتحقق ما تيسّر من ارباح سريعة وقليلة. وفي ذلك الحين كان نجوم العصر الذهبي الهوليوودي قد شاخوا، ومن لم يشخ منهم كان ضائعاً لا يعرف الى أين المسير. في ذلك الوقت بالذات كان ثمة نصف دزينة من شبان يحبون السينما ويريد كل منهم ان يجرب انقاذها على طريقته. كانت أمور كثيرة تجمع بينهم لعل أهمها لحاهم التي كانوا يطلقونها على غرار متمردي تلك الأيام من اصحاب النزعات الراديكالية والليبرالية. ولكن كان يجمع بينهم ايضاً انهم جميعاً كانوا شديدي الاطلاع على الثورات الشكلية التي كانت تعم في ذلك الحين سينمات أوروبية من أعلامها ايطاليون فلليني وانطونيوني... وسويديون برغمان ووايلد برغ وانكليز لستر ولندساي اندرسون وبخاصة فرنسيين من اصحاب "الموجة الجديدة" من أمثال غودار وترونو وشابرول. وكان هؤلاء الأوروبيون وغيرهم يسعون، في آن معاً وبلعبة مزدوجة وحاذقة، الى تعقيد السينما كما الى تبسيطها. كانوا يرون ان الفن السابع، في عصوره الجديدة، بات ينبغي عليه ان ينفصل اكثر وأكثر عن الأدب والمسرح، ويقترب من الحياة نفسها ومن محكيّ الناس وهمومهم. أصحاب اللحى الهوليووديون، الذين حفظوا تلك الدروس الأوروبية جيداً... كانوا يعرفون في ذلك الحين ان بلدهم أميركا ومجتمعاتهم الخارجة من حرب فيتنام مهزومة، والداخلة في فضيحة ووترغيت مذلولة تحفل بجديد المواضيع... بمعنى ان حسب المرء ان ينظر حواليه ليعثر على مواضيعه، ومن هنا حشروا لحاهم في الفن الذي يحبون، وجازفوا بوقتهم وأموالهم وجهدهم... وربما حتى ببعض ما كانوا يحملون من افكار راديكالية وجد بعضهم انها على تناقض مع رغباتهم الفنية، وانطلقوا مما يشبه العدم تقريباً يحققون أفلاماً، حسبنا ان نقرأ اليوم الكتب التي تؤرخ لمسيرتهم حتى ندرك كم ان تحقيقها كان عسيراً، ويكفينا في الوقت نفسه ان ننظر الى النجاحات اللاحقة التي حققتها، حتى ندرك ان المجازفة من حولها كانت مثمرة. اصحاب اللحى كانت لهم في ذلك الحين اسماء بالكاد يمكن تهجئتها: مارتن سكورسيزي، ستيفن سبيلبرغ، برايان دي بالما، جورج لوكاس، وبخاصة فرانسيس فورد كوبولا وجون ميليوس... وهذه الأسماء سرعان ما ستصبح خلال العقود الثلاثة التالية، علامة على هوليوود الجديدة، وعلامة على الدروب التي بدت يومها مستحيلة فإذا بها تعيد السينما كلها الى الحياة. لقد عرفوا، خلال نصف عقد فقط بين 1973 و1978 كيف يثورون هوليوود ويغيرون وجه السينما... وليس في هوليوود وحدها. والأكثر من هذا عرفوا كيف يرمون جسراً صلباً بين ضحية ذلك الزمن المفترضة السينما وجلادها التلفزيون، لغة وأسلوباً ومواضيع. ثم، وفي أهم أفلام بعضهم عرفوا ايضاً كيف يربطون السينما بالسياسة في شكل لم يكن لهوليوود عهد به من قبل. لكنهم عرفوا كيف يفعلون هذا كله بهدوء وتؤدة ومن دون ادعاءات ثورية، ومن دون خوض النقاشات النظرية المستعصية في علاقة السينما في شؤون الفن والحياة الاخرى، ولا سيما بالسياسة. وعلى هذا النحو سرعان ما اتسمت سينماهم بطابع اجتماعي - نقدي - ثوري حقيقي لا ريب ان كان له دور كبير في التغيرات الراديكالية التي طاولت المجتمع الأميركي قبل ان تطاول المجتمعات الاخرى، بدءاً من طرح قضايا العنصرية والمرأة والعنف وصولاً الى علاقة الفرد بالمجتمع وعلاقته بالسياسة وأنظمة الحكم. وكان هذا يتجلى احياناً في شكل مباشر "سائق التاكسي" مثلاً وأحياناً على شكل كتابة "العراب" في جزئه الأول على الأقل. واللافت هنا ان اصحاب اللحى هؤلاء ومعظمهم سيتخلى عن لحيته لاحقاً، كما ان البعض، حتى ولو احتفظ باللحية، سيرمي راديكاليته اذ يجدها غير مجدية اعترفوا دائماً لأوروبا وسينمائييها الطليعيين بالفضل عليهم، ونقلوا العدوى الى المؤسسات الرسمية الهوليوودية كما الى بعض المحطات التلفزيونية والى صالات الفن والتجربة الأميركية، ما جعل للأفلام الأوروبية حضوراً في أميركا لم يكن مؤكداً، وأدى الى تكريم هوليوود لبعض كبار السينمائيين الأوروبيينالذين كانوا متمردين عليها، بل ان بعضهم أوصل اهتمامه الى خارج أوروبا، فإذا بمارتن سكورسيزي يساعد، مثلاً، الياباني العملاق اكيرا كوروساوا على تمويل آخر افلامه... واللافت ايضاً ان هذه الثورة الهوليوودية، ذات الجذور الأوروبية، كان لا بد لها في نهاية الأمر من ان تنعكس على السينما في أوروبا نفسها، ثم في العالم كله بعد ذلك. وحتى في بعض السينمات العربية، اذ لا يمكننا إلا أن نلاحظ ان سينمائياً لبنانياً متميزاً هو مارون بغدادي سار، مواضيع وأساليب، على خطى أولئك الهوليووديين الذين وجد نفسه ينتمي الى تراثهم بأكثر مما ينتمي الى اي تراث محلي، وأن نلاحظ كذلك أثر اصحاب اللحى الهوليووديين في تلك "الواقعية الجديدة" الرائعة التي عرفتها السينما المصرية في الثمانينات من القرن الماضي في افلام محمد خان وخيري بشارة وعاطف الطيب وعلي بدرخان وزملاء آخرين لهم. وفي أوروبا، اذا كان لنا ان نلاحظ منذ عقدين على الأقل انبعاثة للسينما جديدة، تتجاور فيها المواضيع الواقعية مع أعلى درجات التفوق التقني ولجوء المخرجين الى المخيلة القصوى... فلا بد لنا من ان نقول ان هذه "الثورة" الأوروبية تجد بعض جذورها في نتاجات اصحاب اللحى. نقول هذا وفي ذهننا نجاحات لوك بيسون التجارية، وتجارب جان جاك آنو وبينكس في فرنسا، وكذلك تجديدات بافل لونغين ونيكيتا ميخانكوف في روسيا، وصولاً الى تجديدات لارسن فون تراير وجيوزيبي تارناتوزي وبيتر غريناواي وغيرهم من الذين، اذ اوصلوا التجريب الى مستويات رفيعة تمكنوا من اعادة الكرة الى الملعب الأميركي من جديد لكي تنبعث هناك، مجدداً، ثورة شكلية - وفي المواضيع - من اعلامها: جيم جارموش ودافيد لنش وتيم بورتون، وغاس فان سانت، وهم - حتى الآن - الأكثر أوروبية في هوليوود الجديدة المتجددة. اذاً، مع مثل هذه الامتدادات يمكن القول اليوم، بعد ثلاثة عقود ان الثورة التي اطلقها اصحاب "العراب" و"اليس لم تعيش هنا" و"مبارزة" و"كاري" و"اميركان غرافيتي"، تعم اليوم سينما العالم، مخرجة هوليوود من عزلتها، معطية للفن الأميركي نفسه أوسمة لا يستهان بها، محيرة ايانا، للمناسبة، على طرح سؤال أساسي: ماذا إذاً عن السنوات الثلاثين المقبلة؟ وماذا عندنا؟