بعدما تناولت الحلقة الأولى التقسيمات الجغرافية والعشائرية لمدينة الثورة، وبعث النظام لدور العشائر والأفخاذ المحلية النازحة الى هذه المدينة من جنوبالعراق، تتناول حلقة اليوم الصدام بين النظام العراقي السابق ومرجعية السيد محمد صادق الصدر والذي أسفر عن اغتيال الصدر مع ولديه. حزب البعث في بدايات حكمه ايام كان قريباً من افكار مؤسسيه لم يكن صادراً من داخل التركيب العشائري. لم يحاربه ربما، ولكنه اهمله، فصار الارتباط بالدولة محكوماً باحتكار آخر. ادى ذلك الى ضعف في الوظيفة السياسية والاقتصادية للعشيرة. ولكن وبعد عام 1991، اي بعد هزيمة النظام في الكويت والانهيار السريع للجيش وللمؤسسات الأمنية والحزبية، شعر صدام حسين انه في حاجة الى ركيزة جديدة للحكم، وأن القاعدة الاجتماعية والسياسية والأمنية لنظامه مترهلة وهشة، فلجأ الى شيوخ العشائر وراح يعيد بناء الوحدات العشائرية ويغدق اموالاً ومخصصات دورية على الشيوخ، مستعيناً بخبرات مكائدية كسبها من اخلاق البعث، وناهلاً من ذاكرته كيتيم تربى في كنف عشيرة قاسية وخشنة. اما الحوزة الدينية الشيعية فيمكن ايضاً تحقيب علاقتها بالنظام العشائري، اذ يرتبط هذا التحقيب ارتباطاً وثيقاً بالواقع الراهن لتوزع القوى السياسية الشيعية وامتداد نفوذها. فلطالما اصطدم رجال الدين الشيعة خلال تسييرهم حياة الناس والافتاء بمشكلاتهم بمعضلة طغيان الأحكام العشائرية وسريانها الذي يفوق سريان احكام الحوزة وفتاويها. الديات وجرائم القتل والوصلية وتبادل النساء في عمليات الفصل في المنازعات، جميعها لم تكن ترضي رجال الدين، ثم ان نفوذ هؤلاء كان يحد منه ذلك النفوذ الكبير لمشايخ العشائر، الى ان جاء السيد محمد صادق الصدر في بداية التسعينات وقرر التحرش بالأعراف العشائرية من دون ان يمسها، فأقام علاقات مع مشايخ عشائر محليين كانوا نزحوا الى مدينة الثورة وأقاموا "حمولات عشائرية" وهي وحدة عشائرية مرتبطة بشيخ الفخذ المرتبط بدوره بشيخ العشيرة العام الذي غالباً ما يكون مقيماً في المدينة التي قدمت منها العشيرة. وأصدر الصدر الثاني الصدر الأول هو السيد محمد باقر الصدر الذي اغتاله النظام عام 1980 وهو عم الصدر الثاني كتاب "فقه العشائر" ناقش فيه عدداً من الأحكام العشائرية في القتل والدية والغزوات والزواج والتبادلات، محاولاً ايجاد مخارج شرعية لعدد من الشرائع العشائرية وإدخال تعديلات على عدد آخر من هذه الشرائع مبقياً على دور شيخ العشيرة في فض المنازعات. لا بل ان الصدر الثاني ذهب اكثر من ذلك بأن أعطى وكالات بلسمه كمرجع مقلد لعدد من مشايخ العشائرالمحليين في مدينة الثورة وغيرها لينوبوا عنه في الأمور العشائرية "الحسبية". فشيخ التمائم في الثورة مثلاً حائز على وكالة من الصدر الثاني تتيح له التدخل لتحديد الديات وكل الأمور الحسبية التي تحتاج اليها حمولة التمائم في الثورة والتي يبلغ عدد افرادها نحو 1500 شخص. ووكالات الصدر الى مشايخ العشائر اعطيت كما يؤكد مقلدو الصدر لمشايخ عشائر ملتزمين. فبحسب كتاب "فقه العشائر" "يجب الولاء لمن تثبت ولايته الشرعية وعدالته في الحكم والتصرف". والصدر الثاني تناول في كتابه مواضيع دية القتيل وحق الورثة المباشرين فيها ولا حقوق للعشيرة فيها الا بموافقة الوارثين. وهذه الموافقة سهلة بحسب العشائريين مقلدي الصدر الذين يجهدون للتأكيد ان تدخل الشرع في سننهم العشائرية لم يؤد الى الاطاحة بها. كان صدام يعيد بناء علاقته بالعشائر، فيقيم في ديوان الرئاسة مكتباً لرعاية شيوخ العشائر، وأحياناً كان يقوي الأفخاذ على الأصول فيعزز سلطة شيوخ الحمولات الصغيرة عبر مدهم بالمال والسلاح، ويعيد ربط افخاذٍ موالية بعشائر كبرى ثم يتجه الى بناء القبيلة وهي الوحدة العشائرية الأكبر، فيزج بأفخاذ من عشائر بعيدة في شجرة القبيلة التي يتحدر منها ليدعي انه متحدر من سلالة الرسول. ويقول الدكتور رياض الدفاعي وهو شيخ حمولة فرع من فخذ عشائري في عشيرة الدفافعة الشيعية ومقيم في مدينة الثورة ان صدام حاول عام 1995 دمج الدفافعة قصراً في قبيلة عبادة وشرع في اعادة اعتبار عبادة امارة واعتبار شيخها اميراً ليتسلق هو وعشيرته من احد الفروع ويكون بذلك انتمى الى عشيرة ثم قبيلة من السادة. ولفت الدفاعي الى ازدهار ظاهرة بيع الأنساب في التسعينات من القرن الفائت، فقيام النظام بإحياء نفوذ شيوخ العشائر وتقديم بعضها واستبعاد اخرى ادت الى انشقاق افخاذ عن عشائر كبيرة والتحاقها بعشائر اخرى اقوى شكيمة وعلاقة بالنظام، وذلك عبر دفع مبالغ لشيوخ العشائر الذين يخترعون صلة ونسباً للفخذ الملتحق بهم ويخرجون شجرة عشائرية تضمهم على ان يضعوا مكتب العشائر في ديوان الرئاسة في اجواء الخطوة التي قاموا بها. في هذا الوقت كان الصدر الثاني متن علاقته بأفخاذ العشائر الجنوبية المقيمة في مدينة الثورة والتي يمكن مشايخها وبسبب البعد الجغرافي والانخراط في حياة شبه مدينية والسعي الحثيث وراء النفوذ ان يقدموا للشرع تنازلات طفيفة. والأرجح ان اللحظة التي قرر فيها صدام حسين قتل الصدر الثاني عام 1999 كانت لحظة يقين صدام بأن السيد ينافسه تماماً على المكان الذي اختاره ليكون قاعدة حكمه الجديدة، ليس على ولاء شيوخ العشائر فقط، وإنما على تلك الأفخاذ السهلة التي من غير الصعب تشكيل المجتمع العشائري البعثي من حطام تفرعاتها وانشقاقاتها وابتعادها من انويتها. طلاب الصدر الثاني من معممي مدينة الثورة وجدوا في تصديه للفقه العشائري فرصة لتمتين علاقتهم بعشائرهم، لا بل تمكنوا من انتزاع دور في قيادة العشيرة انطلاقاً من موقعهم كمعممين. فيقول الشيخ محمد الغراوي 49 سنة وهو احد خدم مسجد المحسن في الثورة ويعود بأصوله الى محافظة ميسان في الجنوب ومتحدر من عشيرة الغرة: "جئت الى الثورة سنة 1965 انا وأهلي. في بداية نزوحنا تحولنا الى منطقة المجزرة في بغداد حيث كان يقيم المهاجرون. ثم قام عبدالكريم قاسم جزاه الله خيراً بنقلنا الى الثورة". ويضيف: "كنت رجلاً بسيطاً ورياضياً مهتماً برفع الأثقال، ولاحقاً ذهبت الى الحوزة العلمية الناطقة وتتلمذت على يد السيد الشهيد، وبقيت على علاقتي بعشيرتي، فالإمام علي قال: يا بني عشيرتك هي جناحك. وبالنسبة الى الأحكام، فالحكم الشرعي هو للمرجعية، والحكم الوضعي هو لشيخ العشيرة". اما الشيخ خليل القريشي 25 سنة وهو احد ائمة مسجد المحسن وينتمي الى "الحوزة الناطقة" كما يسميها، فيقول انه يذهب كل اسبوعين الى شيخ عشيرته في الكوت ليناقش معه في الأمور الحسبية والديات وفي الأمور المأذونية. فشيخ العشيرة رجل مؤمن كما يقول وحريص على استشارة الشرع في شؤون العشيرة. اقترب الشهيد الصدر الثاني نصف المسافة في اتجاه السنن العشائرية، واقتربت الأفخاذ العشائرية المهاجرة الى بغداد نصف المسافة الثاني فالتقيا في "مدينة الثورة". في هذا الوقت كان السيد محمد صادق يتغلغل بفتاويه الى حياة الناس اليومية، فيحاذي بذلك الحقل الذي يحتكره البعث في العراق. والأرجح ان نيات السيد لم تكن تتضمن التصدي للمهمات التي تثير مخاوف النظام، اذ لم يكن معروفاً عنه قبل سنة من اغتياله بأنه آخذ على عاتقه مهمة مكافحة النظام. ثم ان السيد عاش وعمل في العراق طوال سنوات ازمة النظام مع الشيعة، والتي كانت ذروتها خلال الحرب العراقية - الايرانية، وخلال هذه السنوات قام صدام بتصفية كل من يمكن ان يتعاطف من بعيد مع الايرانيين وعلى رأسهم شقيق والد محمد صادق ومؤسس "حزب الدعوة الاسلامية" السيد محمد باقر الصدر، في حين ابقى على الصدر الثاني حتى عام 1999. الحرب العراقية - الايرانية في "الثورة" اشتغلت في هذه الحقبة اشياء كثيرة هي الآن جزء من مفارقات العراق. فخلال الحرب العراقية - الايرانية لم يكن سكان مدينة الثورة على صلة حميمة بالدولة الشيعية المجاورة. مرجع كمحمد صادق الصدر لم يجعل من مسألة ادانة الحرب امراً في صلب مهماته. ثم ان ذهاب عشرات الآلاف من ابناء المدينة الى الحرب بحكم كونهم مجندين وضباطاً في الجيش وعودتهم منها قتلى وجرحى وأسرى ساهم في بلورة مشاعر وطنية عراقية غلبت تشيعهم احياناً، او غذت ميولاً لتشيع ذي هوية عراقية. فمحمد دليلنا في مدينة الثورة ومقلد الشهيد الثاني والمؤيد بتطرف لمقتدى ولمكتب الشهيد الثاني، قال: "شقيقي ضابط في الجيش العراقي استشهد في معارك الفاو ونذرت امي خروفاً وذبحته بالنجف بعد تحريرنا الأرض التي احتلها الايرانيون اثناء الحرب". هذه المسألة ستعزز لاحقاً من استقلال ابناء مدينة الثورة عن التشيع بالمعنى الايراني، على رغم التشابه معه لجهة الدعوة لأن يكون للحوزة دور القائد والموجه والقرار في كل شيء. ثم انه لا شك في ان النظام خاض حرباً وقائية ضد ايران في مدينة الثورة. فإلى جانب المراقبة الأمنية الدقيقة لحياة السكان، اشتغلت آلة اعلامية بثت اخباراً وإشاعات تطاول المراجع الايرانيين ورغبتهم في انتزاع دور القيادة من الحوزة النجفية. ومن هذه الاشاعات، واحدة تقول ان الخميني في صدد طباعة صورته على القرآن، وبثت على التلفزيون العراقي صوراً لنسخ من القرآن طبعت عليها صورة الخميني. وبعد سقوط النظام عثر السكان في مركز حزب البعث في منطقة الثورة على المطبعة التي استعملت لهذه الغاية وعلى نسخ غير منجزة من هذه المصاحف. الجدارية العملاقة التي كانت تتوسط الساحة الرئيسة في مدينة الثورة كانت صورة للرئيس العراقي المخلوع صدام حسين استبدلها السكان بأخرى تضم الصدرين وبينهما احد المقامات الشيعية. تحتل واجهة الجدارية صورة لمحمد صادق الصدر، وفي الخلفية صورة محمد باقر الصدر، ويشكل هاجس الربط بين الرجلين احد هموم انصار مقتدى الصدر. اذ يمكن هذا الربط ان يضع الصدر الثاني في دائرة الاسلام النضالي الذي اتسمت به سيرة الصدر الأول الذي يعتبر باكورة تصدي الشيعة للشأن العام في العراق الحديث. لكن الصدر الأول وحزبه غريبان كل الغربة عن بيئة الصدر الثاني وعن جمهور حسينيات مدينة الثورة ومساجدها، وإن كان بين سكانها عشرات ممن اعدموا بتهمة الانتماء الى حزب الدعوة. وهذا الحزب هو اليوم في مدينة الثورة جهاز تنظيمي ليس له خارج اسوار التنظيم اكثر من عائلات محازبيه وما تبقى من سمعة مؤسسه، وربما استفاد من وهج الزعامة الصدرية الثانية. اما الصدر الثاني فإرثه كبير والوارث، مقتدى، استفاد من القرب الزمني الذي يفصل اغتيال والده عن سقوط النظام، بحيث لم يتكفل الزمن بعد بتحويل هذه الزعامة الى ذكرى، فدم الرجل ما زال ساخناً، وفتاويه مستمرة في تغذية الأوردة العشائرية في مدينة عشائر الجنوب في بغداد، والنهاية المأسوية لحياته ولحياة ابنائه اضافت الى صورته عمقاً قرّبه من مصائر الأئمة الشيعة. لكن الفارق بين الرجلين كبير، تصدي الأول لمهمات سجالية مع افكار اخرى وتأسيسه حزباً مرتبطاً بالحوزة النخبوية، وانغماس الثاني في دنيا العشائر وتصديه للإفتاء بالقضايا اليومية. وربما يمكن المغامرة بالقول في هذا الموضع من شخصية الرجلين ان شيعية الأول اصولية نضالية طرحت على نفسها مهمات ثورية وانقلابية، في حين كانت شيعية الثاني سلفية اتجهت الى التدخل في حياة الناس اليومية وما هو حلال وحرام من الموسيقى الى السينما وغيرها، ولم تجعل من مسائل النظام السياسي والحكم مادة للدعوى والافتاء. "نعم نعم للجمعة". هذه العبارة لن تفارقك ما دمت تتجول في مدينة الثورة التي صار اسمها مدينة الصدر. يرددها خطباء الجوامع، وتجدها مكتوبة على الملصقات التي تحوي صورة السيد محمد صادق الصدر، واستبدلها الشبان بشعارات البعث وأقوال صدام المكتوبة على جداريات الحزب البائد. انها العبارة التي اطلقها الصدر الثاني عندما افتى بجواز وضرورة اقامة صلاة الجمعة عام 1997. فإقامة صلاة الجمعة تقليد لم يكن سائداً في اوساط الشيعة العراقيين، لاعتقاد البعض بعدم جواز اقامتها في ظل الحاكم الجائر، ولميل الآخرين للتقية في ظل انظمة لطالما اضطهدت الشيعة وضيقت عليهم. وصلاة الجمعة التي اعاد الصدر بعثها من مدينة الثورة مكّنته من الاتصال بحياة الناس اليومية، ومن اقامة صلة موازية للصلات التي كان يقيمها معهم عبر رؤسائهم العشائريين. وعبارة "نعم نعم للجمعة" التي غالباً ما تتبع بعبارة "نعم نعم للحوزة" تُغنى غناءً عندما تلفظ، اذ كان الصدر الثاني حين يقولها على المنبر يوجهها الى جمهور المصلين طالباً منهم ترديدها وراءه. ويبدو ان الاتصال الخطابي بين الإمام ومريديه على هذا تقنية خطابية عراقية، اذ طالما حاول الأئمة الشيعة استدراج المستمعين الى خطبهم بترديد الكلام الذي يطلقونه. النجف النخبوية والسيد الشعبوي وإضافة الى ميول السيد الشعبوية في مقابل نخبوية المراجع الأخرى التي تزدهر بها الحوزة النجفية، لا يبدو ان انخراط السيد في التعامل مع القضايا العشائرية وميله الى ايجاد تسوية بين الشرع والنظام العشائري مصدره اعتدال ورغبة في ايجاد صيغة علاقة بين الشرع والحياة عموماً. فتعاليم السيد لسكان مدينة الثورة الا يسمحوا لمحال بيع الأشرطة الموسيقية وجدت في انهيار النظام فرصة للتنفيذ، وقام مقلدو الصدر الثاني بتحطيم معظم محال بيع الأشرطة الموسيقية والتصويرية في مدينة الثورة. وفتاويه امتدت على طول الحياة وعرضها. فسمك الصبور الذي يصطاده اهل بغداد من دجلة يموت ما إن يصطدم بالشباك وأكل الميت حرام، فأفتى الصدر الثاني بأن الكمية التي يتم اصطيادها اذا غلب عليها السمك الميت قبل اخراجه من الماء فهي حرام كلها، واذا غلب عليها السمك الحي عند اخراجه من الماء حلال كلها، والتحقق من هذا الأمر يبقى في ذمة الصياد. فصار بائعو السمك في مدينة الثورة ينادون على اسماكهم "السمك الذي حلله السيد الشهيد". وتزدهر في مدينة الثورة الكتيبات الصغيرة التي اصدرها الصدر الثاني والتي تتضمن فتاويه في شأن الغناء والفنون. ويبدو ان الصدر لم يكن هو من يصدر هذه المنشورات انما الماكينة التي تعمل معه. فكتيب "في حرمة الغناء" مقدم على انه "حوار فتوائي مع مرجع المسلمين زعيم الحوزة العلمية آية الله العظمى السيد محمد الصدر"، كتب السيد على صفحته الأخيرة "لاحظته فوجدته جيداً ومطابقاً لما كتبته. جزى الله من فعله خيراً". ومرونة الصدر الثاني في موضوع العشائر لم تنسحب ايضاً مرونة في علاقته مع المرجعيات الشيعية الأخرى، فمن المعروف عن محمد صادق الصدر تفسيقه عدداً من رجال الدين الشيعة في العراق، ومنهم قريبه السيد حسين الصدر المقيم في منطقة الكاظمية، في بغداد، وهي المنطقة التي يسكنها شيعة من نوع اجتماعي مختلف عن شيعة مدينة الثورة. وامتداد الفتاوى وشمولها الكثير من نواحي الحياة اليومية امر غريب الى حد ما عن الوظائف التي اناطت الحوزة الدينية في العراق نفسها بها، وهذا الأمر يدفع بالكثير من العراقيين للاعتقاد انهم حيال شيعية من نوع مختلف تشبه الى حد كبير شيعية الملالي الايرانيين على رغم اختلافها الشديد معهم حول هوية المرجع. فالصدر الثاني ووارثه الشاب مقتدى يؤمنان بالولاية العامة للفقيه، ولكنهما يؤمنان بتعدد المرجعية، ويضمران حساسية كبيرة حيال اي مرجعية غير عراقية. اذاً، القرار باغتيال الشهيد الصدر الثاني لم تسبقه الا سنة واحدة من المضايقات ومن إشهار النظام عداءه له. لم تُمنع صلاة الجمعة في حياته ولكن الاستخبارات حاصرت المصلين خلفه، وفي كل مرة كان يكتشف اصراراً من جانب سكان الثورة على مبايعته فتقترب المنية منه. وخلال هذه السنة يبدو ان محمد صادق الصدر ذهب في دور دفعته اليه ظروف كثيرة ليس في مواجهة الدولة مباشرة وانما في استرساله بدور عام يشكل خطراً عليها. فقام النظام باغتياله مع اثنين من اولاده في مدينة النجف عام 1999، ولم يبق على قيد الحياة من ابنائه الذكور الا مقتدى الذي لم يكن بلغ العشرين من عمره في حينه، وهو كان بدوره من تلامذة الحوزة الدينية في النجف. ولم يكن غريباً ان تعقب عملية الاغتيال هذه موجة احتجاجات مركزها مدينة الثورة التي حوصرت لثلاثة ايام ثم احتلت من فدائيي صدام. وبعدها منع النظام اقامة صلاة الجمعة وشرع في حملة تصفيات واسعة في صفوف طلاب الصدر الذين سبق ان اوكل اليهم مهمة اقامة صلاة الجمعة في مساجد مدينة الثورة، فقتل نحو 12 إماماً، منهم الشيخ علي الكعبي والشيخ حسين المالكي والشيخ حسين السويعدي والشيخ علاء الشويلي. وبدأ عملية واسعة لتفكيك شبكة نفوذ الصدر عبر شراء مزيد من الشيوخ العشائريين المحليين الذين خصصت لهم رواتب شهرية بقيمة مليون دينار عراقي وإدخالهم في المجلس العشائري التابع للقصر الجمهوري، وتقديمهم احياناً على الشيوخ الكبار لعشائرهم. العلاّمة محمد صادق الصدر كان اوصى مقلديه ومناصريه بأن عليهم في حال وفاته ان يتحولوا الى السيد كاظم الحائري، وهو احد مراجع الحوزة النجفية الذين انتقلوا الى مدينة قم الايرانية بعدما بدأ النظام حملاته على الشيعة في العراق. علماً ان الحائري وكالكثير من المراجع النجفية يعود بأصوله الى ايران. وهذا الأمر، اضافة الى استمرار اقامته في قم، خلق إرباكاً كبيراً في عملية نقل الولاء وفي اعتباره مرجعاً مقلداً في بيئة تنتظر من المرجع دوراً عاماً ويثيرها في الوقت نفسه اي دور للإيرانيين في الشأن العام العراقي. ولهذا يعيش مقلدو الصدر ومؤيدوه في مدينة الثورة حالاً ربما كانت فريدة في تاريخ علاقة المرجعيات بجمهورها، فهم وعلى رغم وفاة مرجعهم مستمرون في تقليده، وتقليد الميت امر غير شائع عند الشيعة، ولكنهم يقولون انهم يعودون للحائري في القضايا التي لم يتصد لها الصدر الثاني. اما في موضوع الولاء السياسي الذي يفترض ان يكون جزءاً من التقليد ومن الولاء المرجعي وفقاً لمسألة الولاية العامة، فيبدو ان مناصري الصدر الثاني متمسكون بولائهم لنجله طالب العلوم الدينية مقتدى على رغم حداثة سنه الذي لا يخوله للتصدي للمرجعية. يشكل تيار الصدر الثاني احد الأسرار التي تكشفت بعد انهيار النظام، اذ لا يبدو ان احداً كان في وارد توقع وجود تيار سياسي نشأ ونما في معزل عن الحركة السياسية للشيعة العراقيين خارج العراق. تيار مستقل عن حزب الدعوة الذي انتقل للعمل خارج العراق، وعن المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق. نما هذا التيار في العراق في كنف قيم ارسى بعضها النظام البائد، وهو ضعيف الحساسية حيال ما ارتكبه صدام حسين في خوضه حرباً ضد ايران، كما انه ضعيف الارتباط بالحوزة النجفية لأسباب تتعلق بعدم عراقية معظم مراجعها. غداً: مكاتب الصدر الثاني تقود "الثورة" ومقتدى ينتظر المرجعية